الأسئلة المحفوفة بما يمكن أن نسمّيها "الظاهرة الداعشية" لم تعد أسئلة سياسية وثقافية، أو أسئلة متعلقة بصراع حضاري وديني، إذ باتت أسئلة فلسفية وفكرية تتقاطع مع ما تعيشه الإنسانية من كوكبة كل شيء جرّاء الثورة الاتصالية واستبداد العولمة بالشعوب والحضارات.
اقرأ/ي أيضًا: عودة المقاتلين إلى تونس.. الإطار والسيناريوهات
وقد حاولت الأقلام الجادة في العديد من المجتمعات الإجابة عن هذه الأسئلة وخاصة السؤال الحارق حول ماهية داعش، ولكن قلة قليلة من الكتاب تناولوا السياق الاتصالي والميدياتيكي. ومن هذه القلة، نجد الكاتب والصحفي التونسي محمد معمّري، وهو خبير في مجالات الميديا وباحث بالجامعة التونسية بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار، وقد أصدر مؤخرًا كتابًا تحت عنوان "في كلّ بيت داعشي" عن "دار مسكلياني" للنشر، وقد لاقى هذا الكتاب رواجًا في معارض الكتاب والمكتبات التونسية والعربية لأنه تطرق بعمق لمسألة السياسة الاتصالية لـ"تنظيم داعش".
كتاب "في كل بيت داعشي" يتطرق بعمق للسياسة الاتصالية لتنظيم "داعش" لكاتبه محمد معمّري وهو كاتب وصحفي وخبير في مجالات الميديا
محمد معمّري، الذي درس الآداب والحضارة العربية بكلية 9 أفريل بتونس، وعمّقها بكلية الآداب بمنوبة بتونس، وربطها ببحوثه العلمية والفكرية في الاتصال والميديا بمعهد الصحافة، حصد من كلّ هذه التراكمات المعرفية ليقدّم كتابًا ذا أهمية قد يساهم في وقاية المجتمع العربي ومنه المجتمع التونسي من الظواهر "الداعشية" وما شابهها.
التقى "الترا تونس" بمحمد معمري وحاوره حول "في كلّ بيت داعشي" ومشروعه الإبداعي والفكري إجمالًا:
- بعد كتاب "الصحافة الإلكترونية: الأسس والتحديات"، ورواية "اعترافات ميت"، أصدرتَ منذ أيام كتاب "في كل بيت داعشي"، أين تلتقي هذه الإصدارات خاصّة وأنك صرّحت في أكثر من مناسبة بأنك تشتغل على مشروع متكامل؟
بالطبع هناك مشروع متكامل بدأ منذ سنة 2010 عندما كتبت "الصحافة الالكترونية العربية: الأسس والتحديات"، وهو من أولى الكتب التي تناولت بالبحث الإعلام الالكتروني إذ حاولت البحث في التأثيرات المتوقعة لهذا المحمل الجديد على الإعلام، وأيضًا تناولت التحولات المجتمعية الممكنة خاصة في ظل بروز الشبكات الاجتماعية وإمكانيات توظيفها.
أمّا رواية "اعترافات ميت" هي بمثابة الجانب التخيلي في تأثيرات الأنترنت وإفرزاتها على المجتمع من خلال بطل الرواية "رفيق" الذي تحول من طالب يساري الى عنصر "داعشي" باستقطابه من طرف جماعات تكفيرية استغلت حالة الإحباط التي عاشها في المجتمع التونسي.
كتاب "في كلّ بيت داعشي" يسرد خمس قصص واقعية لتونسيين التحقوا بتنظيم "داعش" ووقع جميعًا استقطابهم عبر "فيسبوك"
أما كتاب "في كل بيت داعشي" فهو يجمع بين الكتابين، إذ يوجد جانب روائي من خلال سرد خمس قصص واقعية لتونسيين وتونسيات التحقوا بتنظيم "داعش"، وما يجمع بين هذه القصص هو طريقة استقطابهم التي تمت عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك". ومن هذا المنطلق، عملت على تحليل الاستراتيجية الاتصالية لتنظيم "داعش" من خلال ثلاثة محاور أساسية وهي الترغيب والترهيب والإقناع عبر إنتاج مضامين على الشبكة تركز على هذه المحاور، ومن خلال استغلال مواقع "يوتيوب" و"تويتر" و"فيسبوك".
- كتاب "في كل بيت داعشي" بالرغم من أنه كتاب في الميديا ويلتقط أساسًا الاستراتيجيا الاتصاليّة لتنظيم "داعش" الإرهابي إلا أنه لا يخلو من سرد وحكي وقصّ في توليفة جديدة. هل هو توظيف مقصود من الكاتب أم هي طرائق جديدة في الكتابة؟
هما الأمران معًا، حاولت في هذا الكتاب أن أكون أنا بكل أبعادي أي الصحفي والروائي والباحث في علوم الإعلام والاتصال وكذلك الباحث في الحضارة العربية الإسلامية. ربما أردتها توليفة الغاية منها شدّ القارئ للكتاب في زمن نعاني فيه في البلدان العربية من ضعف القراءة مقارنة مثلًا بالشعوب الغربية أو في بلدان جنوب شرق آسيا. هي بالنهاية توليفة كما أسميتها أنت، أنتظر نتائجها من خلال التفاعل الإيجابي للقارئ مع النص.
- بعد الثورة الاتصالية ورواج مصطلحات من قبيل "نهاية الجغرافيا" و"المجتمعات السائلة" والتّنظير للمجتمع الشبكي، يأتي كتابك "في كل بيت داعشي" لينسف هذه الأحلام ويقول إن مخاطر عديدة تهدد المجتمعات جرّاء هذه الثورة الاتصالية؟
إنّ المحامل الجديدة ليست خطرًا في ذاتها لكن طريقة استخدامها وتوظيفها يمكن أن تكون مصدرًا للخطر، خاصة وأنني لاحظت أن تنظيم "داعش" قد أحسن توظيف هذه المحامل مقارنة بما سبقه من التنظيمات الإرهابية في البلدان الإسلامية وحتى في البلدان الغربية.
ولست أوّل من تفطّن لهذه المخاطر، فقد تفطن لها الباحثون في جامعة "لافال" الكندية منذ سنة 1995 حينما بحثوا في التأثيرات السلبية المتوقعة للأنترنت على المجتمعات وعلى الحياة الخاصة، لكنهم ربما لم يفكروا حينها في إمكانية توظيفها من قبل الجماعات الإرهابية.
- إن الشهادات الحية المعروضة في الكتاب والتي تبحث من ورائها عن الطرق المُستعملة من تنظيم "داعش" في استقطاب الشباب هي شهادات بقدر التزامها بالفكرة الرئيسية للكتاب، إلا أنها تشير أيضًا بوضوح إلى تفكك مؤسسات المجتمع وخاصة مؤسسة الأسرة كمصدر من مصادر القيم. إلى أي مدى يبدو هذا التقدير صحيحًا؟
لقد قمت بدراسة الحالة التونسية من خلال التحولات التي عرفها المجتمع التونسي من مجتمع غير استهلاكي قبل سنة 1988 إلى مجتمع مغرق في الاستهلاك إثر ذلك التاريخ مع بروز شركة "باطام" التي وظفت ما يُعرف اقتصاديًا بالاستهلاك الائتماني لغزو السوق التونسية من خلال التسهيلات في الدفع وما رافقها من بروز للإعلانات التجارية لأول مرة في وسائل الإعلام السمعية البصرية.
محمد المعمري لـ"الترا تونس": تحول مجتمع ما إلى مجتمع استهلاكي دون إعداد ثقافي يحمل خطرًا والمجتمع التونسي أصبح استهلاكيًا منذ نهاية الثمانينيات
علمًا وأن الاستهلاك ليس بالعامل السلبي باعتباره محركًا من محركات النمو لكن أن يتمّ الانتقال إلى مجتمع استهلاكي دون إعداد ثقافي فذلك هو الخطر في اعتقادي، وهو ما أدى إلى تفكك الأسر وضرب منظومة القيم ويضاف إليها عوامل أخرى مثل سياسة التصحر الديني التي اعتمدها نظام بن علي.
- لماذا نأى الكتاب بنفسه عن الخوض بوضوح في أدوار القوى السياسية والمالية التي ساعدت تنظيم "داعش" ووظفت وجودها على الأرض، وذلك بالاكتفاء ببعض الإشارات والتلميحات؟
لا، أنا تحدثت عن لحظة التأسيس الأولى لتنظيم "داعش" الإرهابي، وبينت أن عملية التأسيس تتداخل فيها عديد المعطيات. فهو امتداد لتنظيم القاعدة في العراق، وقد استغل حالة الإحباط التى تعيشها القيادات العسكرية التي كانت منضوية فى الجيش العراقي الذي تم حلّه بعد قرار بريمر سنة 2003، فوجدت هذه القيادات نفسها على الهامش مما سهل عملية استقطابها من قبل التنظيمات الإرهابية. وقد ذكرت بعض القيادات العسكرية العراقية التى كان لها دور بارز في نشأة "داعش"، ولعل أبرزهم العقيد السابق فى استخبارات القوات الجوية العراقية حجي بكر، وهو وفقًا لوثائق كشفتها صحيفة "دير شبيغل" الألمانية العقل المدبر للتنظيم.
مؤلف "في كل بيت داعشي" لـ"الترا تونس": تنظيم "داعش" استغل حالة الإحباط التي عاشتها القيادات العسكرية العراقية بعد قرار حلّ الجيش سنة 2003 واستغلّ أيضًا شعور سنة العراق بالظلم
كما ساهمت سياسات رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي المغرقة في التشيع في شعور سنة العراق بالظلم، فقدم "داعش" نفسه حاميًا لهم ورافعًا للوائهم. كما أن النظام السوري كان له دور في تقوية شوكة "داعش"، وذلك بعدم استهدافه وذلك حتى يقدم النظام نفسه كبديل أفضل مقارنة بدموية التنظيم الإرهابي، وعليه فعملية التأسيس تتداخل فيها عديد المعطيات والحسم فيها سابق لأوانه.
[[{"fid":"99742","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"في كلّ بيت داعشي","field_file_image_title_text[und][0][value]":"في كلّ بيت داعشي"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"في كلّ بيت داعشي","field_file_image_title_text[und][0][value]":"في كلّ بيت داعشي"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"في كلّ بيت داعشي","title":"في كلّ بيت داعشي","height":356,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
- في تونس وبعد انضمام آلاف الشباب لتنظيم "داعش"، انتفض المجتمع بكل مكوناته حول مسألة الاستقطاب وسط حديث عن قضية "التسفير" وذلك بتوجيه الاتهامات لحزب بعينه ولجمعيات مرتبطة به. لماذا لم تشر لهذه المسألة في كتابك؟
قلت لك أنا لا أملك حججًا حول هذا الموضوع. هناك مجرد تصريحات من هذا الطرف أو ذاك لا تترجم حرصًا للحسم في الملف بقدر ما تترجم حرصًا على الاقتتال الايديولوجي الذي تعرفه تونس، وعلى عملية الاستقطاب الفكري الذي تعيشه تونس منذ 2011. ولكن لا يمكن لأي طرف أن ينكر الدور الذي لعبته بعض الجمعيات التونسية في عمليات التسفير أو التجييش على الالتحاق بصفوف المقاتلين بسوريا.
وعمومًا القضية اليوم هي تحت نظر القضاء ولا يمكننا الخوض فيها حتى وإن كنّا نملك التفاصيل.
- التحصين من "داعش" وما يمكن أن نسمّيه بـ"الداعشية"، هل يقوم أساسًا على بناء عقل نقدي داخل دولة المواطنة؟ وإذا سلمنا بذلك، ما الذي يجب أن نقوم به عاجلًا في مجتمع مثل المجتمع التونسي؟
أحسن تنظيم "داعش" توظيف حالة الإحباط التي يعيشها الشباب في البلدان الإسلامية، كما أحسن توظيف حالة الانبتات التي يعيشها الشباب المسلم في الدول الغربية من خلال إنتاج خطاب اتصالي اعتمد على مقولات دينية.
قلتُ، من هذا المنطلق، أن النخب في البلدان العربية والاسلامية عليها أن تنتج خطابًا نقديًا بديلًا في الشبكات الاجتماعية والمحامل الالكترونية، ويفتح غياب إنتاج المضامين النقدية بشكل كاف المجال واسعًا لمنتجي المضامين التسليمية التي ترتكز على بعض النصوص الدينية من خلال استحضار الفترة المحمدية لمخاطبة القلوب قبل العقول.
محمد معمري لـ"الترا تونس": على النخب في البلدان العربية والإسلامية إنتاج مضامين نقدية في المحامل الالكترونية لمواجهة المضامين التسليمية لـ"داعش"
ولذلك بات إدراج مادة التربية على وسائل الإعلام أكثر من ضروري حتى لا يكون شبابنا ضحية خطابات إعلامية واتصالية متطرفة، أما حالة الإحباط والانبتات فلا يمكن تجاوزها إلا من خلال حرص الساسة على مفهوم دولة المواطنة التي يستمد فيها الفرد قيمته من كفاءته لا من ارتباطاته الأسرية أو الحزبية أو غيرها من الارتباطات. إن دولة المواطنة من شأنها أن تساعد الشباب على تجاوز حالة المظلومية التي يشعرون بها.
- هل انتهى تنظيم "داعش" فعلًا بتقديرك؟
قد ينتهي تنظيم "داعش" عسكريًا وهذا وارد جدًا، لكن النهج التكفيري الذي اعتمده لن ينتهي الآن، وهو ما يتطلب عملًا تساهم فيه كل الأطراف من نخب ثقافية، ومجتمع مدني، وساسة من أجل إنتاج خطاب بديل له طابع نقدي، وهو خطاب يقدم فسحة من الأمل للشباب الذي يعاني الإحباط أو الانبتات. ببساطة خطاب يدفع إلى الحياة وليس إلى الانتحار.
- هل حقق كتابك ما كنت تصبو إليه، على النحو الذي رصدته في ردود أفعال القرّاء العاديين وكذلك المختصّين؟
ردود الفعل جيدة جدًا الى حدّ الآن، وما يهمّني شخصيًا أنني قدمت قراءة قد تتفق معها أو تختلف لكنها حاولت تلمس جوانب الموضوع. وأنا قلت في مقدمة الكتاب أن هذا الكتاب بمثابة حجر مُلقى في بركة مياه آسنة، وهو لبنة سيبني عليها آخرون ذلك أن المعرفة هي عملية مراكمة بالأساس. وقد أعود للموضوع من زاوية أخرى غير متوقعة، فالمهمّ دائمًا هو إزالة الغشاوات أمام أعين المجتمعات العربية.
- كتابك القادم هل هو مواصلة لهذا المشروع؟
كتابي القادم سيكون عملًا روائيًا يبحث في عوالم أحبها شخصيًا، وستكون من الأوائل الذين سيطلعون عليه قبل النشر لثقتي في رأيك.
- وما عنوانه؟
"مقام السّيد".
اقرأ/ي أيضًا: