ثمّة إجماع يشبه اليقين بأنّ ما ينقص السينما التونسية التي سلكت منذ نشأتها دروب التفكير والالتزام بقضايا المجتمع وهموم الإنسان في كلّ مكان هو ذاك الحزام النّقدي والفكري والتنظيري الذي يسند الفعل السينمائي ويقدّم معانيه ودلالاته المتعددة ويفكك أوجهه الجماليّة ويدعمه حتى يكون صوتًا عاليًا للحقيقة وحفرًا فنّيًا عميقًا يسهم في الثقافة الإنسانيّة. وهي مهامّ تنهض بها الجامعة كفضاء يدرّب على التفكير والتفلسف من جهة والنقّاد السينمائيين المتمرّسين والمتوغلين في سافانا السينما من جهة أخرى.
باستثناء بعض الأقلام الناقدة التي برزت منذ ستّينيات القرن العشرين ورافقت الانبلاجات الأولى للسينما التونسية في بداياتها والتي لم يتسنّ لها الانخراط في موجة توحّد أدائهم وجهدهم النّقدي نظرًا للتضييق عليها ومحاصرتها من نظام الحكم البورقيبي الذي سعى إلى تدجين الثقافة، بقيت السينما في تونس أسيرة للكتابات والقراءات الانفعاليّة والانطباعية التي تنشر هنا وهناك في الصحافة المحليّة والعربيّة والدوليّة، إذ لم تتشكّل حولها حركة نقد متماسكة وقويّة متوّجة بحركة نشر مثمرة لمجلات محكّمة ودوريات وكتب ومراجع مختصّة.
أصدر الجامعي والناقد السينمائي أحمد القاسمي مؤلفات في اختصاص النقد السينمائي وأصدر روايتين ومسرحية وهو حاليًا أستاذ مادة "سيميائيات الأدب والسينما" بكلية منوبة
ورغم مناخ الحريّة بعد الثورة، لم ترتق الكتابة والتفكير حول السينما التونسية إلى مستوى التغيرات والمستجدّات التي طرأت على هذا الفنّ كالجانب التشريعي، والالتزام المتصاعد بقضايا الواقع التونسي وإبرازه بجماليات غير نمطيّة ومغايرة تمامًا لما قدّمته التجارب السّابقة، بل بقيت متشبثة بعاداتها القديمة ولم تصنع لها نسقيّة خاصة بها تجعل منها حجز زاوية وصاحبة قول فاصل في قضايا السينما المتشعّبة. وبقيت الأقلام تعزف عزفها المنفرد ومتشتتة رغم متانة وجودة ما تقدّم من كتابات وقراءات.
اقرأ/ي أيضًا: حاتم بالحاج لـ"الترا تونس": نقاد السينما والدراما في تونس عاطفيون (حوار)
ومن هذه الأقلام والأسماء المهمة التي تنحت منذ سنوات في صخرة الكتابة حول فنّ السينما وعلاقته بباقي الفنون الأخرى والسينما التونسية على وجه الخصوص، نجد أحمد القاسمي أستاذ سيميائيات الأدب والسينما بكلّية الآداب والفنون الإنسانيات بجامعة منّوبة، وهو متحصّل على الدكتوراه ولديه بحوث علمية عديدة ومتنوّعة نشر أغلبها بعد الثورة منها "التّقبّل السينمائي للقصّ الأدبي" (2017)، و"جماليّة القصّ من الصياغة اللغويّة إلى المعالجة السينمائيّة" (ط 2 ـ 2018) و"أيقونات: بحوث في سيميائيّات الأنساق البصريّة" (2019)، وهو يستعد لنشر مؤلف جديد بعنوان "في جماليات السينما الوثائقية".
كما كتب القاسمي روايتين هما "زابينغ" (2004) و"الرجل الذي نهشته الكلاب" (2018)، وأخرج شريطين سينمائيين قصيرين هما "تقريب أزواج" (2009) و"سرور" (2010)، وله مسرحية بعنوان "مسافرون" صدرت في شكل كتاب سنة 2006.
"ألترا تونس" التقى أحمد القاسمي وتنافذ معه في مسائل تهم السينما والأدب والنقد السينمائي في تونس وشواغل ثقافية أخرى، وفيما يلي نص الحوار:
- بماذا تفسّر تراجع مستوى الكتابة حول السينما في تونس كمًا وكيفًا رغم الحراك الذي يعيشه هذا القطاع بعد الثورة وكأنّ السينما التونسية تمضي في إتجاه التاريخ بلا تحليل أو تأويل؟
إنّ وضع النّقد السينمائي أو الكتابة حول السينما في تونس سيّء للغاية إذا قارنّاه بالعقود السابقة، ومردّ ذلك في اعتقادي يعود إلى مجموعة من العوامل نذكر منها إختفاء شبكة نوادي السينما واضمحلالها وهي التي كان لها الفضل في إيجاد ما يشبه حركة النقد السينمائي في ستّينيات وسبعينيات القرن الماضي.
أحمد القاسمي: تراجع الأيديولوجيا قلّص من ظهور أقلام ناقدة ومحللّة والجامعة التونسية مدعوّة لبعث اختصاصات تتناول السينما كلغة بصرية
كما أنّ تراجع الأيديولوجيا في العالم وفي تونس، والتي كانت من الدوافع الهامة نحو الكتابة، قلّص من ظهور أقلام ناقدة ومحللّة، ولا ننسى أيضًا ما طرأ على الإعلام من تغيّرات في مستوى تغييب الأقلام المهتمّة بالسينما والصورة والجنوح قسرًا نحو الإعلام الإلكتروني الذي لا يحتمل المقالات التحليلية المعمّقة والمطوّلة.
كما نسجّل أيضًا غياب الدوريات المختصّة والمجلات المحكّمة في السينما وذلك إلى جانب غياب كلّي للتصوّرات والسياسات الداعمة لحركة النّقد والكتابة حول السينما من قبل وزارة الشؤون الثقافية أو الجمعيات الثقافية. وكل هذه العوامل وغيرها والتي لا يتّسع المجال لذكرها ساعدت بشكل من الأشكال على غياب الكتابات الجادّة حول السينما التونسية.
- لكنك لم تعرّج على غياب الجامعة التونسية في النهوض بتكوين وتأطير مختصين في السينما والكتابة حولها والإسهام في خلق حركة نقدية وفكرية وفلسفية حول السينما التونسية؟
ساهمت الجامعة التونسية في سنوات سابقة في تأطير بعض الأسماء التي لمعت في مجال النقد السينمائي وكان ذلك عبر مواد اختيارية كانت موضوعة على ذمة طلبة العلوم الإنسانية بمختلف الكليات وعن طريق النوادي الثقافية وإرادات بعض الأساتذة الأجلاّء الذين اهتموا بالسينما واشتغلوا عليها خلال دروس الأدب والفلسفة والتاريخ من أمثال الأستاذ الهادي خليل.
ولكن إلى اليوم لم تفكر الجامعة التونسية في بعث اختصاصات تهتم بالسينما في مختلف جوانبها عدا ما ذهبت إليه كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة التي أدرجت مادة "سيميائيات الأدب والسينما" لطلبة ماجستير الحضارة.
وأعتقد أنّ الجامعة التونسية مدعوة للتفكير الآن وليس غدًا في بعث بعض الاختصاصات التي تتناول السينما كلغة بصرية تنتج المعنى تمامًا مثل اللغة الأدبية.
مراسل "ألترا تونس" مع الأكاديمي والناقد السينمائي أحمد القاسمي
اقرأ/ي أيضًا: رفيقة بوجدي: هذه حكايتي مع الدراما في تونس والجزائر وهكذا ننافس الأتراك (حوار)
- وما هو مشروعك الفكري داخل الجامعة التونسية فيما يتعلّق بالسينما والكتابة حولها؟
إن خياراتي البحثيّة في الجامعة التونسية هي في مجال سيميولوجيا الصورة أو ما يسمّى بـ"السيميوتيقا"، إذ أقوم بمقارنة آليات إنتاج المعنى بين اللغة الأدبية واللغة البصريّة، وتقريبًا أغلب كتاباتي المنشورة وغير المنشورة تمتح من علاقة التأثير والتّأثّر بين النصوص المكتوبة والنصوص البصرية.
وأنا أسعى لتمرير ذلك لطلبتي عبر تمرينهم على الفهم والكتابة النقدية، كما أسعى للنشر كلّما إستطعت الى ذلك سبيلًا وشعرت أن الساحة ثقافية والسينمائية في حاجة لذلك، وإيمانًا منّي بضرورة لعب دور ما خارج أسوار الجامعة وهو بالأساس نشر الثقافة السينمائية السليمة بين النّاس وتزويد المتفرج بأدوات عمل عندما يدخل قاعة السينما لمواجهة اللغة البصرية.
كيف السبيل إلى تحقيق ذلك والجامعة التونسية تعود في هذه السنوات الأخيرة الى عزلتها بعيدًا عن المجتمع؟
كان الانفتاح على المجتمع من هواجس الجامعة التونسية منذ سنوات عديدة لكنها لم تضع إستراتيجية خاصة بذلك، بل كان بعض الأساتذة النوعيين هم من ينهضون بهذا الانفتاح وخاصة الكتّاب والمبدعين منهم على غرار توفيق بكار، وعبد المجيد الشرفي، ومحمد رشّاد الحمزاوي، وجعفر ماجد، ومحمد لطفي اليوسفي، وشكري مبخوت ومبروك المناعي. وشخصيًا، أنا أسير على درب هؤلاء فكلية الآداب والفنون والنسانيات بمنوبة عرفت فتوحات الصورة السينمائية في التسعينيات مع الأستاذ الطاهر الشيخاوي الذي كان يدير ناديًا للسينما بقسم الفرنسية، وحان الوقت أن تنفتح الجامعة أكثر فأكثر على فلسفة الصورة وهذا ما أقوم به الآن في قسم العربية.
أحمد القاسمي: ثمّة من السينمائيين أنفسهم من لا يريد للنقد السينمائي الأكاديمي أن يوجد لأنه نقد كاشف للعيوب والنقائص في الأشرطة السينمائية، وقد يمسّ أيضًا من مسيرات سينمائية تدعي لنفسها المجد
- أي دور للجمعيّة التونسية للنهوض بالنقد السينمائي التي يبدو أنها فقدت بريقها نتيجة لهيمنة بعض أعضائها على برامجها وعلاقاتها الخارجية؟
لا بدّ من التذكير أن الجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي لعبت أدوارًا هامة في الحياة السينمائية التونسية قبل الثورة وبعدها إذ كانت ملاذًا للعديد من الأقلام والجامعيين ممن إهتمّوا بالسينما. كما نظمت العديد من التظاهرات الهامة ومثّلت تونس في مهرجانات عربية ودولية، ولكنّها في الآونة الأخيرة تعاني بعض الصعوبات المادية كما تعترضها عراقيل من السينمائيين أنفسهم.
- هل ثمّة من يعرقل انبعاث حركة للنقد السينمائي بتونس؟
ثمّة من السينمائيين أنفسهم من لا يريد للنقد السينمائي الأكاديمي أن يوجد لأنه نقد كاشف للعيوب والنقائص في الأشرطة السينمائية، وقد يمسّ أيضًا من مسيرات سينمائية تتدعي لنفسها المجد.
فالنقد الجادّ قد يعرقل عملية الدّعم التي ينتفع بها أحيانًا مخرجين هزيلين فنيًا. ولا أخفيكم أن هناك عصابات من الأقلام تشتغل في دوائر شركات الإنتاج السينمائي ومهمتها تزييف حقيقة الأفلام وتمجيد المخرجين والمنتجين، وهذا من شأنه أن يعرقل النقد السينمائي الحقيقي ويحدّ من وجود حركة للنقد السينمائي تتسم بالتماسك والاستمراريّة.
- يفاخر التاريخ الثقافي التونسي بأنّ السينما اختارت توجّهًا غير تجاري لا يزال إلى اليوم عبر "سينما المؤلف"، لكن تعددت الدعوات مؤخرًا لتغيير هذا التوجه والانفتاح على سينماءات أخرى، فأيّ المسلكيْن أسلم من وجهة نظرك؟
كانت سينما المؤلّف ظاهرة ثقافية صحيّة وخيارًا سليمًا في البدايات، وقد عرفت أوجها في تسعينياتت القرن العشرين وذاع صيت أفلامها بين الأمم وحصدت التتويجات والتنويهات من أهم المهرجانات العالمية، لكن بعض المخرجين انصرفوا عن مشاغل الناس والمجتمع وانصبغت أعمالهم بنرجسيتهم وأعطابهم النفسية، وهو أمر يتنافى مع مبادئ سينما المؤلف في تونس التي تتلقى دعمًا ماديًا من دافعي الضرائب.
أحمد القاسمي: السينما بعد الثورة بدأت في التخلّص من قيود سينما المؤلف لتسلك اتجاه "الواقعيّة الفجّة" بمختلف أوجهها الفنية والجمالية
حسب متابعتي للشأن السينمائي التونسي، فإن الموجة الجديدة أو سينما ما بعد الثورة شرعت في التخلّص من قيود سينما المؤلف لتسلك اتجاه "الواقعيّة الفجّة" بمختلف أوجهها الفنية والجمالية، وهو أمر سيثمر فيما بعد منتوجًا فنيًا مختلفًا ومفاجئًا، وأيضًا الذهاب إلى الكوميديا وسينما الرعب. ومن وجهة نظري، إن كلّ تغيير في الاتجاه حسب مقتضيات المرحلة التاريخية هو أمر محمود لصالح الإبداع السينمائي والثقافة عمومًا.
اقرأ/ي أيضًا: مهدي البرصاوي: السينما اقتربت أكثر من التونسي و"بيك نعيش" فيلم عن الإنسانية
- ولكنّ "الواقعية الفجّة" قد تؤدّي أحيانًا إلى الابتذال؟
شخصيًا، أنا ضد التوغل الكلّي للسينما في الواقعية الفجة وذلك من منطلق جمالي وليس أخلاقي لأن فنّ السينما يعيد تمثّل الواقع بحثًا عن عالم ممكن ينفر الابتذال. وإن تسنى لي أن أخوض تجربة في الإخراج فإني لا محالة سأختار سينما المؤلف.
- ولكنك خضت تجربة الإخراج سابقًا.
نعم بين 2009 و2010 ولكنها تجربة قصيرة تواصلت في الكتابة للسينما وحولها ونشر الكتب وإدارة ورشات لكتابة السيناريو.
- هل يمكن القول إننا في زمن "السينما الوثائقيّة" التي نراها تكتسح أروقة السينما في كل المجتمعات ؟ وبماذا نصف التجربة التونسية في مجال الأشرطة الوثائقية؟
السينما الوثائقية هي التعبير بعبقريّة الصورة وهي أيضًا "سينما علاجية" فيما يتعلق بالذاكرة والتاريخ والزمن، والعالم كله يمضي الآن في هذا الاتجاه بثبات نحو تأصيل الوثائقي.
وبخصوص التجربة التونسية، فإنّها لم تتخلص بعد من ربقة "الريبورتاج الصحفي"، إنها وثائقيات بيروقراطية تغيب عنها العفوية والدقة التاريخية ويندسّ فيها السياسي والأيديولوجي فيفسد ماهيتها وموضوعيتها، فتأتي وثائقيات مشوهة وبالتالي لا تستطيع إنتاج المعنى لأننا في النهاية نكتب أنفسنا بالصورة فتنفجر المعاني لتتغذي بها أرواحنا من جديد، وتلك هي فلسفة السينما.
أحمد القاسمي: الوثائقيات في تونس لم تتخلص بعد من ربقة "الريبورتاج الصحفي" وهي بيروقراطية ومشوّهة تغيب عنها العفوية والدقة التاريخية ويندسّ فيها السياسي والأيديولوجي
- في السنوات الأخيرة، وُجّه الكثير من النقد لمهرجان "أيّام قرطاج السينمائية"، في اعتقادك ما الذي يحصل لهذه التظاهرة الثقافية العريقة؟
"أيام قرطاج السينمائية" مكسب ثقافي وتاريخي لتونس ولا يمكن الاختلاف حول ذلك، لكن هذه التظاهرة تتطلب مراجعات هيكلية والذهاب لإنشاء مؤسسة للمهرجان بكامل استقلاليتها والتزامها بالمبادئ التي من أجلها بعثت، والنأي بها عن الفلكلورية، وتجذيرها في إنتاج جماليات متجددة.
- ما هي الضرورات الملحّة حتى ننهض في تونس بواقع السينما؟
السينما فنّ وعلم وتفكير حول الإنسان وشواغله، ولا يجب أن تترك على قارعة الهواية. بات من الضروري إنشاء "معهد السينما"، ويكون مؤسسة جامعية صارمة ومتعددة الاختصاصات مهمتها استقطاب الشباب المشغولين بالصورة وتبني معهم مرحلة جديدة نحن في حاجة إليها.
ولا بدّ أيضًا من التربية على السينما والصورة بمدارسنا ومعاهدنا الثانوية عبر شبكة من النوادي أو إدراج مادة خاصة بذلك، كما لا ننسى مسألة التوثيق حول الفعل السينمائي التونسي. وأخيرًا، لابد من مأسسة ودمقرطة مسألة الدعم لمزيد الوضوح والشفافية خاصة وأنّ الأمر يتعلّق بالمال العام.
اقرأ/ي أيضًا:
المسرحية ارتسام صوف: المرأة التونسية تخوض حروبًا باردة وخفيّة (حوار)
بن عمّو مؤلف "عام الفزوع": شوقي الماجري أراد تزييف تاريخ "بن غذاهم" (حوار)