في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، زار محمد الشرفي كلية الحقوق والعلوم السياسية "بكمبيس" المنار (المركب الجامعي بتونس العاصمة) وهو من هو في اليسار وحقوق الإنسان في تونس والموزّر لتوّه بوزارتين خطيرتين (التربية والتعليم العالي)، أبطأ الخطى واختلس نظرة من وراء نظاراته الطبية السميكة إلى "حجرة سقراط" الموجودة أسفل المدرّج المؤدي إلى مكتبة دالوز، وهمس لأحد مرافقيه "أ رأيتها إنها مربية الأجيال على العقل والحكمة والحب والحلم والأمل..".
لم تكن "حجرة سقراط" مجرّد قالب إسمنتي قدّت به نهاية مدرج بسيط بإحدى الكليات التونسية، بل كانت مكانًا شيطانيًا ساحرًا وجذابًا وآسرًا للطلبة المفوهين الاستثنائيين، للطلبة الحالمين بالمدن الفاضلة..
لم تكن "حجرة سقراط" مجرّد قالب إسمنتي مربع فسيح بعض الشيء قدّت به نهاية مدرج بسيط بإحدى أمجد الكليات التونسية، ويمرّ حذوه الطلبة نزولاً أو صعودًا أو يتكئ عليها العشّاق في أوقات ما بين الدروس، بل كانت مكانًا شيطانيًا ساحرًا وجذابًا وآسرًا للطلبة المفوهين الاستثنائيين، للطلبة المتكلمين، للطلبة العاشقين للوطن، للطلبة الحالمين بالمدن الفاضلة..
اقرأ/ي أيضًا: بنت "السبعطاش" أصابتها حجرة سقراط
تسمية "حجرة سقراط " نطق بها طالب مجهول من طلبة السبعينيات تمجيدًا للفعل الذي تقوم به الحركات الطلابية بمختلف تشكيلاتها الإيديولوجية والقومية في "إنارة عقول الشباب الطالبي" باعتباره نخبة لها في أرضها ومستلهمًا التسمية من صورة شهيرة للفيلسوف اليوناني "سقراط" الذي تقدمه وهو جالس في قلب أثينا على بسطة حجرية تشبه المربع الإسمنتي الذي يقف عليه الطلبة الخطباء في الكلية.
كما أن سقراط كان سيد الساحات، يعلم الفلسفة ويطرح الأسئلة بمنطق جدلي على النخبة والعامة على حد السواء دافعًا إياهم إلى التفكير، وقد كان يصف نفسه "بأنه حكيم أدركه الجهل "أما هدفه الأسمى فهو "كلما عرف الإنسان أكثر ازدادت قدرة العقل لديه على الاختيار".
تسمية "حجرة سقراط " نطق بها طالب مجهول من طلبة السبعينيات، مستلهمًا التسمية من صورة شهيرة للفيلسوف سقراط الذي تقدمه وهو جالس في قلب أثينا على بسطة حجرية تشبه المربع الإسمنتي الذي يقف عليه الطلبة الخطباء في الكلية
من هذا المكان وعلى امتداد خمسين عامًا، ناقش الطلبة التونسيين كل القضايا التي تهم الوطن بحيوية نادرة وبتكثيف عاطفي لا مثيل له مقدمين الحلول اليقينية والتصورات المثالية والطوباوية، فأنصف التاريخ بعضهم ولم ينصف البقية وتجمل الوطن وشمًا بأفكارهم وخاصة تلك المتعلقة بالحريات العامة والفردية ومسألة الديمقراطية ومبدأ الحرية وحقوق الإنسان بما حوَت.
"حجرة سقراط " بقلب كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس لم تكتف بالهامش كما يكتفي دومًا شقائق النعمان بسطر على جنبات ربيع مزهر بل صنعت لها ربيعها الدائم الإزهار ودائم الصفاء والعطاء.. ومن على صهوتها مرت أسماء مخلّدة فخطب في جموع الطلبة القيادي اليساري مؤسس حزب العمال حمّة الهمامي، بلكنته الشمالية الجاذبة والوطدي الراحل شكري بلعيد، صاحب الخطب الحماسية المزعجة، والقيادي البعثي عز الدين التليلي وقيادات من التيار الإسلامي على غرار العجمي الوريمي والهاشمي الحامدي.
ووقف على "حجرة سقراط" كل من رضا بن المكي لينين وبرهان بسيس ولخضر لالة ونورالدين بن تيشة ومحمد لسود وأحمد بن عثمان الرداوي ومختار الطريفي وسفيان بن فرحات ونورالدين بن نتيشة وسمير العبيدي ومحسن مرزوق ونوفل الزيادي وعبد الناصر العويني.. وآخرون هم أحياء في ذاكرة الأجيال الطلابية المتعاقبة وفي ذاكرة تاريخ الجامعة التونسية.
وقف على "حجرة سقراط" القيادي اليساري مؤسس حزب العمال حمة الهمامي، والوطدي الراحل شكري بلعيد صاحب الخطب الحماسية وقيادات من التيار الإسلامي على غرار العجمي الوريمي والهاشمي الحامدي وغيرهم
لقد كانت خطب بعض الأسماء المذكورة أعتى من الدرس الجامعي لفيض المعنى الذي تتيحه فترى عموم الطلبة يفوتون الجلوس في المدرجات مقابل الوقوف لساعات تحت الشمس من أجل الاستماع والاستمتاع بخطبة، لقد كانت خطبًا ذات أجنحة مليئة بالحياة وتحمل على الحب والشعر والأمل، خطبًا جريئة وشجاعة تدفع نحو فهم ما يحدث في كواليس الحكم البورقيبي والنوفمبري، خطبًا تعلم الطلبة كيف يكونوا معارضين للظلم والدكتاتورية فتصنع لديهم الحس السياسي والنقابي، خطبًا في صميم فلسفة الاختلاف وفي جوهر الدرس السقراطي، خطبًا مزعجة للنظام والسلطة.. لذلك ترى طلبة الحزب الحاكم حينها يشوشون ويفسدون الاجتماعات العامة التي تتحول في بعض الأحيان إلى صدامات دموية لكن التاريخ في النهاية يقول قوله الباقي..
"لحجرة سقراط" شقيقات في أجزاء جامعية أخرى فنجد "الساحة الحمراء" بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس المعروفة بكلية 9 أفريل و"المربع الأوسط" بكلية الآداب بمنوبة والتي تحوّل اسمها إلى ساحة الشهيد شكري بلعيد.. وكل هذه الأمكنة السحرية تنهض بنفس الأدوار، كلها لها نفس الهوس وهو بناء المدن الفاضلة ونشر الرومانسية السياسية والتأطير السياسي للطلبة.. وكانت نفس الوجوه المفوّهة تتنقل إليها رغم التضييقات البوليسية والإدارية لتلقي الخطب الخالدة.
لا أحد يزور كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس أو "بيروت الجامعة التونسية" كما يحلو لشق من الطلبة تسميتها دون زيارة "حجرة سقراط" في نوع من الحج الرمزي والمعنوي، فالشاعر الراحل محمد الصغير أولاد أحمد ولدى إحدى أمسياته الشعرية بالكلية ترجاه الطلبة أن يلقي قصيد "أحب البلاد" من على صهوة حجرة سقراط لكنه أبى تواضعًا واحترامًا لهيبة المكان والساحة وألقاها في المدرّج.
"لحجرة سقراط" شقيقات في أجزاء جامعية أخرى فنجد "الساحة الحمراء" بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس المعروفة بكلية 9 أفريل و"المربع الأوسط" بكلية الآداب بمنوبة
"الشيخ إمام" المغني الملتزم بقضايا حقوق الإنسان وخلال زيارة له للكلية في بداية تسعينيات القرن العشرين طلب لمس "حجرة سقراط" في حركة رمزية إرضاء لطلبة اليسار الذين دعوه لإحياء حفل. والشاعر محمود درويش وقف أسفل حجرة سقراط وتحدث لمضيفيه عن أهمية الساحات ودورها في تقوية الحس النضالي والوعي بالحقوق لدى الطلبة الذين يعتبرهم "ملح الأرض"، عازف العود العراقي نصير شمة زارها أيضًا، كما زارها شعراء وسياسيون وفنانون من مختلف بلاد العالم، إنه حج صفي لغرف المعنى.
وفي شبه مديح لـ"حجرة سقراط"، يقول المحامي والحقوقي عبد الناصر العويني "نحن أبناء حجرة سقراط العظيمة، علمتنا ما علمتنا من شجاعة وجرأة وعقلانية ما لم تعلمنا إياه الدروس الجامعية...".
وهذا فضل من أفضال الجامعة التونسية أنها كانت ولا تزال معينًا لا ينضب للمثقفين والسياسيين والكتاب والشعراء اللذين يقودون المجتمع بنبل المحاربين وأخلاق النبلاء.
اقرأ/ي أيضًا:
"مقهى لونيفار" في العاصمة التونسية.. أرض فكرية للمقاومة الثقافية والسياسية