18-مارس-2019

معالم أثرية شاهدة على تعاقب الحضارات في تونس (Getty)

 

على امتداد الطريق المؤدّية إلى مدينة تستور الواقعة في محافظة باجة، يوشّح الربيع الأراضي باللون الأخضر حتّى بدت وكأنّها قطع متناثرة من الجنّة زادتها الأزهار الصفراء بهاء.

سمفونية من الألوان والأصوات والروائح كانت رفيقة الطريق إلى "تكيلا"، وهي تسمية تستور  في عهد اللوبيين القدامى وتعني المروج الخضراء، في زيارة  إلى المعالم التاريخية والمواقع الأثرية بباجة من تنظيم وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية.

اقرأ/ي أيضًا: توبربو ماجوس.. مدينة شامخة تحدت الزمن وعانت الهجر

تستور.. قصص تعايش حضاري وديني

وعلى مشارف المدينة الواقعة على على ربوة يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر بين 70 و90 مترًا، تطالعك صومعة الجامع الكبير بساعتها ذات العقارب المعكوسة ومعمارها الأندلسي المتفرّد.

وأنت تقف في باحة الجامع الكبير ستلاحظ أن بيت صلاة الجامع الكبير خالية من النوافذ الجانبية ومحرابها كنائسي وأعمدتها وتيجانها رومانية وبيزنطية، وأما مئذنة الجامع فهي متفرّدة إذ تحتوي على قسمين واحد سفلي مربّع سنّي مالكي وثان على شكل مثمّن حنفي وفيها نجمة داود وثلاث كرات ترمز" للأب والابن والروح القدس" يعلوها مرياح وهي آلة لقياس سرعة الريح.

بيت صلاة الجامع الكبير في تستور خالية من النوافذ الجانبية ومحرابها كنائسي وأعمدتها وتيجانها رومانية وبيزنطية

وإلى جانب العمارة الأندلسية للجامعية والتي تزاوجت فيها تفاصيل حضارات قديمة على غرار الرومانية والبيزنطية، توجد الساعة الجدارية المعكوسة التي عادت إلى العمل سنة 2014 بعد ثلاثة قرون.

وعن هذه الساعة، يقول رئيس جمعية صيانة مدينة تستور رشيد السوسي لـ"الترا تونس" إن إحدى الروايات تشير إلى أنّ دوران عقارب الساعة الأندلسية في اتجاه الوقت المعكوس يعود إلى رغبة الأندلسيين الذين استقروا بالبلاد التونسية في العودة إلى الزمن الماضي، أو رفض التسليم بالحاضر والمستقبل.

وحذو الجامع يقع حمام، وفيه إشارة إلى الحضارة الإسلامية التي تحرض على أن تكون الحمّامات متاخمة للمساجد، وعلى باب الحمام علّق فانوس هو دليل دخول النساء للاغتسال إذ اشتعل، وغير بعيد عن مدخل الحمام ممر ضيّق تمر منه النسوة يسمى " الخلوة".

جامع تستور حيث تدور عقارب الساعة بصفة معكوسة (تيري موناس/Getty)

وفي خلفية الحمام، بئر لضخ الماء ومكان مخصص  لتسخينه ، وفيه كمّيات من الرماد كان يستعملها الأندلسيون في بناء منازلهم بمدينة تستور، وفق ما أفادنا به رئيس جمعية صيانة المدينة تستور.

وتعود التسمية الحالية للمدينة إلى موقعها الاستراتيجي إذ تحيط بها الجبال من كل الجوانب أي "تسترها"، وفيها تقع "الرحيبة" وهي  ساحة كبيرة بناها الأندلسيون وكانت تنتظم فيها مسابقات لمصارعة الثيران، حسب حديث رشيد السوسي.

رئيس جمعية صيانة مدينة تستور لـ"الترا تونس":  إحدى الروايات تشير إلى أنّ دوران عقارب الساعة الأندلسية في اتجاه الوقت المعكوس يعود إلى رغبة الأندلسيين في العودة إلى الزمن الماضي

وبُني في الرحيبة أوّل جامع أندلسي سُميّ بجامع الرحيبة أو جامع الأندلس. وتشهد الحجارة المتبقية من الجامع على الغارات التي شنّها الأمريكان لقصف المكان في الحرب العالمية الثانية. وغير بعيد عن الرحيبة يتناهى إليك خرير مياه واد مجردة ليخلق موسيقى قادمة من أعماق التاريخ، موسيقى تسير على وقعها إلى منزل الفنّانة حبية مسيكة الذي تحوّل إلى دار ثقافة بالجهة، وهو منزل شيّده عشيقها اليهودي لياهو ميموني قبل سنة 1930، ولكنّ العشيقين ماتا حرقا قبل أن يسكناه معا.

ومرورا بساحة النارنج الواقعة في قلب مدينة تستور، وهي شجرة فواحة لا تخلو منها المنازل في تستور المدينة التي تروي معالمها التاريخية قصص التعايش الحضاري والديني، انطلقت رحلة أخرى  في عمق التاريخ، رحلة في الموقع الأثري عين تونقة.

اقرأ/ي أيضًا: دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"

عين تونقة.. مهد للثقافات

وغير بعيد عن تجمعات سكنية، يقع معلم عين تونقة الأثري، وتسميته حديثة وهي بربرية تحيل إلى العين والجبل الذين تتميز بهما، وهي منطقة زاخرة بالآثار المتناثرة على سهولها التي لم تخل من بصمة الربيع.

والمنطقة الأثرية، التي تنتظر التفاتة جادة من المعنيين خاصة في علاقة بتوسع العمران على حسابها، كانت تجمعًا سكنيًا نوميديًا تلاحظ من خلال بعض التفاصيل المتشبثة بالتاريخ أنه متأثر بالثقافة البونية.

تسمية عين تونقة تحيل إلى العين والجبل الذان يميزان المنطقة (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)

وفي هذا المكان، تخرج الحجارة الصماء عن صمتها، وتروي قصص مرور البيزنطيين من هنا، من خلال الحصن البيزانطي الذي مازالت معالمه تقاوم السينين. ومن هنا، مرّ الرومان أيضٍا وخلدت بقايا المعبد الروماني الكبير والمواجل الرومانية ذكراهم.

وإلى جانب المعبد الكبير، هناك أيضا بقايا معبد صغير وكنيسة وقوس، وأنت تجول بناظريك في المكان لا تحدّ سفرك في التاريخ إلا تلك البنايات المتناثرة على تخوم الموقع الأثري، وهي من بين العراقيل التي تواجهها الهياكل القائمة على تهيئة المناطق الأثرية على غرار المعهد الوطني للتراث ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية على اعتبار وجود عديد المشاكل العقارية، وفق حديث المحافظ الرئيس للتراث بجهة دقّة محمد علي الشهيدي لـ"الترا تونس".

 المحافظ الرئيس للتراث بجهة دقّة لـ"الترا تونس": البنايات المتناثرة على تخوم الموقع الأثري هي من بين العراقيل التي تواجهها الهياكل القائمة على تهيئة المناطق الأثرية

في الموقع الأثري الذي لم يتنله حظوة التهيئة على غرار مواقع أخرى، تبدو الحجارة التي تحمل تاريخ الحضارات والإنسانية بين جنباتها مبعثرة ولكنها صامدة، صمود الحصود البيزنطية.

وتهمس لك الحجارة بسلمية الرومان وحروب البيزنطيين والتعايش بين الأديان والتناحر من أجل البقاء، وتشدّك النقوش إلى تفاصيلها وكأنها تناشدك التفكّر والتأمل في تاريخ مضى، وتلاحق الحجارة المتناثرة على سهول المنطقة قبل أن تشدّ الرحال إلى الموقع الأثري بدقة.

الموقع لم تنله حظوة التهيئة (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)

دقة.. حافظة أسرار التاريخ

حالة من النشوة والذهول تنتابك وأنت على أعتاب دقة أو "تقة"، المدينة التي مازالت تقاوم الزمن والمناخ لتظل شاهدة على قرون من الحياة، وأنت لا تملك إلا أن تتأمّل هذه التولفية الساحرة بين الثقافات والحضارات، فالحجارة هنا ضاربة في القدم، يعود بعضها إلى العهد النوميدي وبعضها إلى العهد القرطاجيني وبعضها إلى العهد الروماني وبعضها الآخر إلى العهد الهيليني.

موقع "دقة" مدرج ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي العالمي وهو مثال عن تخطيط مدينة شيّدها النوميديون وفقًا للنموذج العمراني الروماني وتأثرت بالحضارة البونية

الموقع المدرج ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي العالمي هو مثال عن تخطيط مدينة شيّدها النوميديون وفقًا للنموذج العمراني الروماني وتأثرت بالحضارة البونية. وأنت تغادر المسرح الأثري بالمكان حيث مازالت المدارج صامدة والأعمدة شامخة، وتتأمّل في أرضية المكان التي تحمل أسرارًا كثيرة من بين ثناياها، تطالعك آثار عجلات العربات التي كانت تقل النبلاء ليدخلوا المسرح من الباب الأمامي.

الموقع الأثري "دقة" مسجل في قائمة اليونسكو (Getty)

وغير بعيد عن المسرح، مسجد مبني على معبد وثني، يؤرخ لتعاقب الحضارات على "تقة" المدينة التي يقع في مركزها أكبر معلم اقتصادي وهو سوق دقة الذي يعدّ من أكبر الأسواق في شمال افريقيا، وخلف السوق معبد "ماركور" الإله الحامي للتجار.

والساحة التي تضم معبد "ماركور" وكانت قديما تسمّى ساحة السوق وفيما يعد سميت ساحة زهرة الرياح، وهي ساحة تحوي 3 دوائر تتوسّط بعضها البعض، كتب على محيطاتها أسماء الرياح حسب الاتجاهات، وفق حديث المحافظ الرئيس للتراث محمد علي الشهيدي.

الموقع الأثري بدقة مسجل في قائمة اليونسكو منذ عام 1997 (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)

وبما أنّ " تقّة" منطقة فلاحية، فإنّ سكان المنطقة كانوا يهتمون باتجاه الرياح الربيعية المفعمة بالرطوبة، وكانوا يتحسسون اتجاهها عبر زهرة الرياح التي تعدّ الثالثة في العالم إذ توجد واحدة في روما وأخرى في أثينا.

وفي المعلم الأثري بدقّة يسترعي انتباهك، مجسّم دون رأس لشخص يظهر من نحت ثيابه أنه الحاكم، وهو ما فسره الشهيدي، بالاقتصار على نحت جسد الحاكم الذي يظل كل مرة على حاله والاكتفاء بنحت رأس الحاكم الجديد.

ومازلت حجارة المكان والنقوش التي تعلوه تحافظ على أسرار التاريخ، وإن باحت ببعضها فإنّ الكثير منها مازالت بحاجة إلى النبش والتنقيب، لتنقل لنا حكايات حضارات سابقة.

المجسّم لإنسان دون رأس في الموقع الأثري بدقة (يسرى الشيخاوي/الترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

جولة في المعالم الأثرية للقيروان.. ذاكرة الحضارة الإسلامية

آثار تونس.. معالم تختزل التاريخ وتعاني التهميش