في فيافي الصحراء بالجنوب التونسي، تُنصب عشرات الخيام من بيوت الشعر من قبل أصحاب ورعاة الأغنام هناك، منذ بداية شهر أفريل/ نيسان، وإلى منتصف شهر جوان/ يونيو. تلك الفترة التي تتواصل فيها عملية جزّ الخرفان من أجل تخفيف ثقل الصوف قبل ارتفاع درجات الحرارة.
الجزّ هو عملية قصّ صوف الخرفان والتخفيف منه بأقصى ما يمكن، قبل ارتفاع درجات الحرارة، حتى لا تضعف أو تمرض، وحتى تستطيع النمو أكثر وتحفظ سلامتها من الحرارة المرتفعة
والجزّ هو عملية قصّ صوف الخرفان والتخفيف منه بأقصى ما يمكن، قبل ارتفاع درجات الحرارة، حتى لا تضعف أو تمرض، وحتى تستطيع النمو أكثر وتحفظ سلامتها من الحرارة المرتفعة. لذا هي عملية سنوية دورية تتم خلال هذه الفترة من كلّ سنة.
ويتفق سكان المناطق الجنوبية من أصحاب الخرفان على وقت معيّن للالتقاء في إحدى الأماكن البعيدة في الصحراء، لنصب الخيام وتجهيز كلّ ما يلزم عملية الجزّ. فالحدث ليس مجرّد حدث عابر، بل هو بمثابة احتفال سنوي يحتفي به سكان المناطق الجنوبية بطريقتهم الخاصة. فعملية جزّ الخرفان تُوجد بجميع المناطق الريفية والولايات، وتتم أغلبها بطريقة عادية. فكلّ فلاح يقوم بجز خرفانه بنفسه في حظيرته. إلاّ أنّ لأهالي الجنوب عادات خاصة بهذا الحدث. يحتفون به في شكل مهرجان أو كرنفال صحراوي. ويشارك فيه جميع أهالي تلك الجهات.
ويستعد الرجال والنسوة لهذه المناسبة، "فتبدأ العملية باختيار مكان مناسب لنصب الخيام منذ بداية شهر أفريل/ نيسان، ليتوجه الرجال أساسًا بمعداتهم وخيامهم وأوتادهم إلى المكان المتفق عليه. وتستمر عملية نصب تلك الخيام مدّة ثلاثة أيام تقريبًا. خيام قديمة كما تلك التي تنتشر في بعض الصحاري في الجنوب التونسي، مصنوعة من شعر الإبل والماعز لتقيهم حرّ الشمس والرياح الشديدة".
"بعد ذلك، تذهب النسوة إلى المكان لتفرش الأرض تحت تلك الخيام، وتحمل معها بعض الأواني والزاد الذي يكفيهم طيلة أيام الجزّ. وقبل انطلاق هذه العملية، تُقرع الطبول وتُطلق الزغاريد استعدادًا لهذا الحدث الشعبي، الذي توارثوه منذ عشرات السنوات في تلك المناطق"، وفق ما حدّثنا به عربي السكرافي من ولاية مدنين.
صاحب قطيع غنم بمدنين لـ"الترا تونس": تتولى النسوة إعداد الطعام للرجال، فيما تنطلق عملية الجزّ باختيار من يملك أكبر قطيع، وتكون العملية أشبه بالمنافسة بين الرجال، حول من يقوم بجزّ أكبر عدد ممكن
ويقول عربي الذي يملك 80 رأس غنم في الجهة إنّ "كلّ صاحب غنم عليه أن يذبح بعض خرفانه لإعداد الولائم لكلّ المشاركين في هذا الحدث. وتتولى النسوة إعداد الطعام للرجال، فيما تنطلق عملية الجزّ بخرفان أحد الفلاحين. ويقع اختيار من يملك أكبر قطيع لتبدأ عملية الجزّ. وتنقسم الأدوار بين من يقتاد القطيع وبين من يشدّ وثاقها على الأرض. وقد تكون العملية أشبه بالمنافسة بين الرجال، ليتنافسوا فيما بينهم، حول من يقوم بجزّ أكبر عدد من القطيع، ليكون (الشاطر) بينهم".
وتعدّ تلك الطرق من الطقوس القديمة البدوية التي توارثتها العديد من القبائل هناك في الجنوب التونسي، وبقيت من العادات التي يُحييها أهل البادية أساسًا. وحتى أهالي القرى والمدن القريبة من الصحراء لم يستغنوا عن ذلك الحدث الذي يُقام بطرق مختلفة بين جهة وأخرى، لكنها تشترك في الطابع الاحتفالي والفلكلور الشعبي الذي يختلف أيضًا حسب عادات كلّ جهة.
ففي ولاية تطاوين، يقوم سكان الجهات القريبة من الصحراء أيضًا، بالتنقل إلى الصحراء خلال هذا الموسم ونصب الخيام. ولكن دون أن ترافقهم النسوة. وحدهم الرجال من يشدّون الرحال إلى البوادي التي اعتادوا الرعي فيها. يختارون فيها مكانًا بعد الاتفاق حوله، ويحملون الزاد البسيط: بعض الخضر والزيت، وبعض الأواني ليتولوا الطبخ بأنفسهم.
يقول عبد الكريم الحاجي أحد سكان الجهة لـ"الترا تونس" إنّهم يلتقون بعد الانتهاء من نصب الخيام عشية لإيقاد النار وليذبح كلّ منهم ما جادت به نفسه من كرم على الحاضرين. ليُشوى اللحم على الحطب، أو يُطبخ في قدر كبيرة ويوزع على بعضهم البعض. ويمضون تلك الليلة يتسامرون فيما بينهم. وأحيانًا تصدح أصواتهم في البادية بأهازيج الغناء البدوي أو الأشعار الصحراوية التي يحفظونها جيلًا بعد جيل".
أحد سكان تطاوين لـ"الترا تونس": تنطلق عملية الجزّ منذ الساعة الرابعة صباحًا، ونبدأ يومنا بشرب الشاي ولبن الماعز وبعض الخبز، ونعيش تلك الأيام بشكل بدائي جدًا
وفي اليوم الموالي، تنطلق عملية الجزّ منذ الساعة الرابعة صباحًا. يبدؤون يومهم بشرب الشاي ولبن الماعز وبعض الخبز. ليعيشوا تلك الأيام بشكل بدائي جدًا. وينقسم فريق العمل فيما بينهم، بين من يقوم بتقييد الشياه وربط أرجلها جيّدًا، وبين من يسنّ مقص الجز الذي يسمى "الجلم"، فيما يختار البعض القيام بعملية الجزّ.
وتتواصل تلك العملية لأيّام، إلى أن تنتهي بجزّ جميع القطيع. ويشير عبد الكريم إلى أنّ العديد من أصحاب القطيع يدفعون المال لمن امتهنوا مهنة جزّ الخرفان في الصحراء، "وتتم العملية في أجواء خاصة بتلك الجهات، وتخلف عن مناطق الشمال، وتشارك أحيانًا بعض النسوة في ذلك الحدث الموسمي".
ويبقى هذا الحدث المتكرر سنويًا في الفترة نفسها، يوفر مواطن شغل موسمية، ويُحدث حركة في تلك الجهات بإحياء حدث شعبي يستبشر به سكان الصحراء والفلاحين وأصحاب القطيع.
ويقول أهل البادية هناك إنّه يقع جمع الصوف لتسليمه إلى النسوة ممن يتقننّ صناعة الصوف وغزله، لصناعة السجاد أو "المرقوم" و"الكليم"، على الرغم من تراجع عدد الحرفيات في تلك الجهات. كما يُسلّم إلى بعض مجمعات تجميع الصوف لاستخدامه في عدّة صناعات لا سيما النسيج. فيما أصبحت كميات كبيرة من ذلك الصوف تذهب سدى بسبب انعدام وحدات تحويله إلى نسيج في الجهات الداخلية.