لا يزال تاريخ تونس مجالًا خصبًا للبحث والإثراء خاصّة عندما يتعلّق الأمر بجوانب الحياة السوسيوأنثروبولجيّة الأكثر غموضًا وتعقيدًا في حياة الإنسان لأنّ الإنسان أينما حلّ إلاّ وأوجد سببًا لوجوده ومعنى لعلاقته بالمكان الذي يعيش فيه وبالسياق الزمني الذي يوجد فيه. وكلّ معنى جديد هو بناء ثقافي يتكوّن من جملة من الرموز والمعتقدات والقيم التّي تعرّف بالمجموعة وتحدّد ملامحها ومسارات وجودها وتميّزها عن غيرها من الجماعات إمّا باللّون أو العرق أو الدين.
سنروي لكم حكاية قصيرة عن حياة أتباع "سيدي مرزوق"، حكاية تلخّص أوجاعهم اليوميّة وطرق خلاصهم من الوجع عبر الرقص الذي يرسل أجسادهم إلى نشوة تأرجحهم بين الواقع والخيال. حكاية تحاكي الخيال أكثر مما تحاكي الواقع، هي أسطورة يحوم حولها اللّبس والغموض لأنّ بطل هذه الأسطورة "سيدي مرزوق" كان رجلًا صالحًا من "العبيد" ذوي البشرة السوداء المهمشين اجتماعيّا.
تحوّل سيدي مرزوق من عبد لـ"سيدي بوعلي" إلى رجل صالح بفضل أعماله الخارقة للعادة وصفاته الطيّبة حسب ما يقول المخيال الشعبي
"قدم هذا الرجل من السودان أو من إحدى قبائل مالي"، هذا ما أكدته الباحثة في المسرح والأنثروبولوجيا آمال الفرجي لـ"الترا تونس". كان خادمًا لـ"سيدي بوعلي" العالم السنّي النفطي في القرن السادس عشر تقريبًا بعد ما انتشرت الإباضية في ذلك الزمن.
ويُحكى أنّ "سيدي مرزوق" كان يلبس جلد حيوان ويجول في مدينة "وادي السوف" (مدينة جزائرية على الحدود مع تونس وقرب مدينة نفطة التونسية وسميّت بهذا الاسم لأنّها كانت محلًا للمتصوّفين وفي رواية أخرى تيمّنًا بكلمة "آزوف" البربريّة أي "وادي") مناديًا على ابنة عمّه "مبروكة" إلى أن وجدها وتزوّج بها وأنجب أبناءً صاروا بعد ذلك من أتباعه.
استنادًا إلى رأي الباحثة آمال الفرجي، تحوّل سيدي مرزوق من عبد لـ"سيدي بوعلي" إلى رجل صالح بفضل أعماله الخارقة للعادة وصفاته الطيّبة حسب ما يقول المخيال الشعبي، وصار له أتباع كوّنوا فرقة شعبيّة فلكلوريّة تقديسًا له و تخليدًا لاسمه.
ماذا تعرف عن طقوس "البنقة"؟
"البنقة" هي طقس احتفالي يجمع بين الزيارة لضريح الوليّ الصالح والتحضير للوليمة وأيضًا الإشادة بالولي الصالح وتبجيله والولاء له وصولًا إلى حالة "التخميرة". يدوم الاحتفال أربعة أيام على التوالي وينتهي بـ"الخرجة" في مدينة نفطة، جنوب غرب تونس، وفي اليوم الثالث من الاحتفال يُذبح تيس أسود اللّون كضحيّة لـ"سيدي مرزوق" يُطبخ مع أكلة الملوخيّة ثم يتمّ سكب هذه الملوخيّة على أكلة العصيدة البيضاء.
وفي اللّيلة الأخيرة، وهي اللّيلة التّي تتخمّر فيها أرواح الراقصين، يتّم تحضير قصاع من الماء تسمى بـ"البوري" أي ليلة تحرّر الأرواح واستحضارها لتُمثّل ذكرى "سيدي مرزوق" في أذهان أتباعه من الحاضرين والراقصين والعازفين. والتمثّل هو مجموعة من المعطيات الموجودة في أذهان الأتباع حول الولي الصالح الممتزجة باتجاهاتهم الاجتماعيّة ومخزونهم الثقافي وبيئتهم وحالتهم النفسيّة التّي يتم استحضارها لمواجهة آلامهم.
تدوم احتفالات طقوس "البنقة" أربعة أيام وتنتهي بـ"الخرجة" في مدينة نفطة (أمل هازل/الترا تونس)
هذه هي إذًا تمثلات الأتباع حيال الكيان المعنوي "رواحين" سيدي مرزوق التّي يتصوّرونها في اتّحاد أجسادهم في لحظة "التخمّر". وتتعالى أصوات الطبول في نسق تصاعديّ، موسيقى تشبه إيقاعات "السطمبالي" الإفريقيّة-التونسيّة الهاربة من جلاّدها والصارخة في وجه العبوديّة.
اقرأ/ي أيضًا: وثائقي "مجاذيب".. حينما تكون الطريق إلى عالم السطمبالي والجذب بلا معالم
موسيقى تأخذك إلى صحاري أفريقيا ثمّ تعود بك إلى شمال أفريقيا، ولكن هذه الموسيقى ليست مجرّد ألحان تقتحم آذان الراقصين والرّاقصات، بل هي موسيقى تتجانس مع آلامهم لأنّها ذات جذور تاريخيّة استعباديّة خاصّة بسود البشرة. تتناغم مع هزّات الأجساد في رقصة تعبيرية تلقائيّة تمزج بين الغضب والحماس والاندفاع والهيجان.
تواصل محدثتنا الباحثة آمال الفرجي بالتأكيد أن هذه الموسيقى جُعلت للتعبير عن المكبوت وللتخلّص من شحنات الضغط والرغبة في التحرّر من العبوديّة والقيود الاجتماعية اليوميّة. قد يرقص الجميع رقصة جماعيّة منسجمة مع إيقاع "البنقة" المتسارع الذيّ يأخذ الراقصين إلى سفرة لعالم غامض فيطلقون العنان لأجسادهم وتسكنهم "رواحين" سيدي مرزوق كما تقول.
آمال الفرجي (باحثة في المسرح والأنثروبولوجيا): موسيقى "البنقة"جُعلت للتعبير عن المكبوت وللتخلّص من شحنات الضغط والرغبة في التحرّر من العبوديّة والقيود الاجتماعية اليوميّة
في انسجام وتناغم مع الإيقاع الذّي تعزفه الفرقة، يتمايل الرأس من اليمين إلى اليسار، يجثو الراقصون والراقصات على ركبهم إلى أن يفقدوا السيطرة على أجسادهم في اعتقاد أنّ جدّهم "سيدي مرزوق" قد سكن أجسادهم وتملّكها إلى أن يغيبوا عن الوعي ويدخلوا في حالة "التخمّر" وهي مزيج من النشوة وتحرّر الروح من القيود النفسيّة.
تفوح رائحة البخور وسط حلبة الرقص، وكلّ من يغيب عن الوعي يتم وضع رأسه في قصعة "البوري" كي يستفيق ثمّ يتلقى تهنئة الحاضرين لوصوله إلى حالة "التخمّر". في تلك اللّحظة، قد تتراءى لهم رؤى وأحلام يقظة ويحضر "سيدي مرزوق" ليأمرهم بفعل كذا وكذا، وهو ما يجعلهم يعتقدون أنّه يحرسهم ويوجّه حياتهم وأنّه الأجدر بتقرير مصائرهم.
كلّ من يغيب عن الوعي يتم وضع رأسه في قصعة "البوري" (أمل هازل/الترا تونس)
وتذكر الباحثة أنّه يتم إبعاد الأرواح الشريرة "المستاذية" باستعمال أنواع من البخور والسخاب. وتذهب في حديثها للـ"بوري" إلى أكثر من ذلك بالإشارة إلى أن غالبية النساء يؤكدن أنهم وصلن إلى عالم غير مرئي على الرغم من إرادتهن وذلك بطلب من "الرواحين" الذي يلزمهن بالرقص سنويًا في "البنقة" مقابل حمايتهن من الشرور ومنحهن القدرة على شفاء المرضى و التنبؤ بالمستقبل.
يتداخل هوس هؤلاء النساء بجدّهن "سيدي مرزوق" بعالم سحري عجيب بهموم الحياة الإجتماعية وتتشابك الرؤى فيما بينها، فما إن يفقدن وعيهن في الرقصة حتى يشعرن بالرضا عن أنفسهن ويعدن متحرّرات إلى منازلهن.
"البنقة" خلفت تضامنًا اجتماعيًا بين السود والبيض
سألنا الباحثة في المسرح والأنثروبولوجيا آمال الفرجي، هل مثّل طقس "البنقة" وسيلة للتعايش بين السود والبيض في مدينتي نفطة وتوزر؟ فأجابتنا بأنّ "البنقة" ساهمت فعلًا في الاختلاط بين السود والبيض وقلّصت من حدّة العنصريّة ضدّ ذوي البشرة السوداء بل وأكثر من ذلك خلقت نوعًا من التضامن الاجتماعي بين السود والبيض يتجلى في التحضير للممارسات الطقسيّة والتعاون لإعداد الولائم وذبح الضحيّة.
آمال الفرجي (باحثة في المسرح والأنثروبولوجيا): ساهمت "البنقة" في الاختلاط بين السود والبيض وقلّصت من حدّة العنصريّة ضدّ السود
اقرأ/ي أيضًا: التمييز العنصري في تونس.. السر المخجل؟
تقول إن الولي الصالح يحظى بالاحترام والتبجيل من طرف بيض البشرة أيضا بل وتضيف أنّ الأغلبية من البيض يقدسون "سيدي مرزوق" أكثر من "سيدي بو علي" والأولياء الآخرين في المنطقة ويشاركون في احتفال "البنقة"، وذلك في بيئة اجتماعيّة منغلقة على نفسها تخفي رواسب العبودية ولا تظهر العنصريّة فيها بشكل معلن.
تذهب الباحثة، في تحليلها الأنثروبولوجي، إلى أنّ العنصريّة تظهر في علاقات الزواج وهي علاقات غالبًا ما تتسم بالعدائية وفيها صراع وتحقير للسود على حد تعبيرها. يقول بعض البيض متحدثين عن السود: "نحن لا نزوّج بناتنا من السود، هوما وصفان وأحنا أحرار"، أما السود فيقولون: "هوما نظاف، وأحنا وصفان" أي البيض أحرار والسود عبيد حسب منطقهم. ولكن يمكن أن يُقبل الزواج عندما يكون الزوج أسود البشرة ميسور الحال، كما أنّ بعض النساء السود قد تزوجن من رجال بيض وهنّ سعيدات بزواجهن رغم معارضة العائلتين.
ويعتقد أتباع "سيدي مرزوق" من سود البشرة أنّه ترك لهم هذه الوصيّة: "عرسو ببعضكم باش تجيبو سود وتكبرو القبيلة متاعكم" (تزوجوا من السود كي تكبر قبيلتكم ولا يندثر اللّون الأسود).
هروب رمزي إلى الخيال المتحرّر
حسب الملاحظات الميدانيّة للباحثة آمال الفرجي، تشهد السنوات الأخيرة نقصًا في عدد السود المواكبين لاحتفال "البنقة" مع غلبة حضور البيض وكأن أتباع "سيدي مرزوق" قد خانوا وصية جدّهم. وعندما سألتهم الباحثة عن سبب نقص تواجدهم، أجابوها بأنّ هذا ليس مهمًا مادام الطقس دائمًا، وفي هذا تعبير عن الاستمرار بالوفاء والعهد لـ"حامي السوق" سيدي مرزوق كما يتغنّى به السود والبيض ويجتمعون معًا لتخليد ذكراه.
يمكننا القول إذًا أنّ المقابلات التي أجرتها الباحثة التي حاورناها كشفت عن تمثّلات الأتباع، ومعتقداتهم، وسلوكاتهم، ومواقفهم وطبيعة العلاقات ونمط التفاعلات الاجتماعية التّي تربط السود بالبيض.
"سيدي مرزوق" بنظر سود البشرة هو الجد المدافع عن قضيتهم والمستغاث به وقت الضيق (أمل هازل/الترا تونس)
في نظر السود، هذا الوليّ الشعبي من طبقة "العبيد" يحرسهم بصفاته الخارقة التّي لا تموت، وهو الجدّ المدافع عن قضيّتهم والمستغاث به وقت الضيق والقلق. وما الممارسات الطقسيّة إلاّ ضامن للتوازن بين علاقاتهم ببعضهم وعلاقتهم ببيض البشرة.
وتستخلص الباحثة بأنّ هذه الممارسات الطقسيّة والاحتفاليّة تخفي وراءها حاجتين في الآن نفسه: حاجة نفسية وأخرى اجتماعية، فهي من جهة أولى مجال للتنفيس عن المكبوت من قهر واستعباد ومن جهة أخرى حاجة إلى الانتماء إلى أصل شريف. وهذا الإنتماء ليس مبنيًا على أساس القرابة بل هو مبني على أساس اللّون والمكان الذي عاش فيه "سيدي مرزوق" يعني أنّ السود قد صنعوا أسطورة "سيدي مرزوق" للخروج من سجن العبوديّة لبناء هويّة عرقيّة عبر مدافع "خارق للعادة" عن قضيّتهم.
الأسطورة المتجسّدة في الولي الصالح هي هروب رمزي ومحاولة للخروج من العالم المادي القاسي إلى الخيال المقدّس الروحي المتحرّر
هذه الأسطورة المتجسّدة في الولي الصالح والطقوس المرافقة لها هي هروب رمزي ومحاولة للخروج من العالم المّادي القاسي إلى الخيال المقدّس الروحي المتحرّر.
أسّس طقس "البنقة"، بالنهاية، بناءً ثقافيًا داخل أسطورة عجيبة قلّصت من حدّة العنصرية وإن كانت مازالت قائمة بشكل خفيّ في منطقتي نفطة وتوزر. لكن تظل حكاية "سيدي مرزوق" شاهدًا على التنوّع الثقافي والأنثروبولوجي في تونس ودليلًا على تنوّع النسيج الاجتماعي وثراءه. ولذلك وجب علينا كمواطنين أن نعيش الاختلاف والتنوّع الثقافي كواقع فعلي ثريّ وليس كعامل إقصاء أو كشعار في خطاب سياسي مولّد للحقد الطبقي والعرقي.
اقرأ/ي أيضًا:
استقبال المواليد في التقاليد التونسية.. طقوس "خلاص الوحل" و"السّابع"