تقول الأسطورة اليونانية القديمة إن البشرية اكتشفت النسيان في جزيرة جربة، الواقعة على الساحل الجنوبي لتونس، عندما هام "أوليس" في البحر هربًا من بطش الطرواديين الذين أراد خداعهم والاستيلاء على مدينتهم بواسطة حصان خشبي عملاق خبّأ داخله مجموعة من الجنود.
ولمّا اكتشف الطرواديون حيلته، هرب "أوليس" وتاه في البحر لمدة تسعة أيّام حتى رسى في اليوم العاشر على شاطئ الجزيرة، لم يشأ النزول لكنه أرسل اثنين من جنده لاكتشاف المكان فوجدا نفسيهما في أرض عامرة بالسّكان ويعمّها النخيل والبهاء والسّلام. وكان أهل الجزيرة من قبائل "آكلي اللّوتس"، واللّوتس هنا ليس تلك الزهرة التي مجّدها الفراعنة وتغنّى بها شعراء الصين القدامى وإنها هو نوع من التّمر لا يزال موجودًا إلى اليوم.
تقول الأسطورة اليونانية القديمة إن البشرية اكتشفت النسيان في جزيرة جربة، الواقعة على الساحل الجنوبي لتونس، عندما هام "أوليس" في البحر هربًا من بطش الطرواديين
ومن فرط جمال الجزيرة والانشغال بأكل ثمرة اللّوتس، نسي الجنديان مهمّتهما ونسيا السّفينة والوطن والعودة إلى البحر وأصبحا يعيشان في كهف النسيان، فما كان من "أوليس" إلا أن نزل بنفسه للبحث عنهما، وكاد هو الآخر أن يقع في حبائل النسيان لانشغاله ببهاء الجزيرة والحفاوة التي لقيها من "آكلي اللّوتس". لكنّه في لحظة شجاعة حمل بحّارته وصعد سفينته وعاد إلى اليونان محمّلًا بذاكرة من "النسيان" وشفع له هذا الاكتشاف لدى أهله.
لوحة فيسفسائية تصوّر رحلة "أوليس" إلى جربة (Getty)
هذا ما قالته الأسطورة وما دوّن بعض فصوله الشاعر الملحمي "هوميروس" في إلياذته الخالدة، لكن يبدو أنّ "آكلي اللّوتس" لا تزال سلالتهم مستمرّة إلى اليوم على جغرافيا جزيرة جربة، ولا يزال نخلهم باسقًا إلى اليوم، ولا يزالون يغوون زوّارهم بتمر اللّوتس إلى اليوم. وحتى بلغة المجاز، تبدو الجزيرة كالجميلة المستبدّة التي لطالما حدّثنا عنها الشعراء في قصائدهم، فهي المغوية الآسرة والفاتنة التي تنسي زائرها طريق عودته الى أهله وتفتكّ لبّه فيقضّي العمر أسير جمالها، ويلهو بزنبق أصابعها عند شاطئ البحر.
اقرأ/ي أيضًا: معالم المذهب الإباضي في جربة.. من فرادة المشهد المعماري إلى فضاء العيش المشترك
إنّها "ماكينة للإغواء والنسيان" نابعة من أغوار الأساطير القديمة، ماكينة لم يهدأ صوتها يومًا بالجزيرة، الكلّ يشتغل وراءها، إنها قوام كل شيء في جربة، بل هي الرّحى اللامرئية التي تدور حول قطبها حياة "الجّرابة" حتّى باتوا قبلة ومحجّة، يأتيهم الناس "من كلّ فجّ عميق" بحثًا عن خطى "أوليس" أو إله الصواعق "زيّوس" الذي أنجب "أثينا" من رأسه بعد حمل عسير فجاء من أرض اليونان للاستجمام والراحة على شواطئ جربة.
من أجل إضافة الجزيرة لسجل التراث العالمي
وتستعد جربة الجزيرة التونسية البهيّة أو شامة المتوسّط كما يتغزّل بها أهل الفنّ والثقافة هذه الأيام إلى أن تمنح نفسها للتراث الإنساني الخالد عبر ملفّ متكامل قدمته الدولة التونسية منذ سنة 2019 "لليونسكو" (المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم) ضمن وفد رسمي رفيع المستوى، وقد اشتغل على هذا الملفّ كل من خبراء المعهد الوطني للتّراث التابع لوزارة الشؤون الثقافية، ووزارة السياحة، والديوان الوطني للسياحة، وجمعية "صيانة مدينة جربة"، وسفير تونس لدى اليونسكو ولفيف مدني من الجمعيات والمنظمات والشخصيات الوطنية من سياسيين وفنانين ورياضيين.
وتطمح تونس إلى أن تضيف إلى قائمتها بسجلّ التراث العالمي جزيرة جربة باعتبارها الجزيرة الأكبر بشمال إفريقيا و"المعلم" الذي انصبغ على مرّ مئات السنين بحضارات عريقة مثل الأمازيغية والقرطاجنيّة والرومانيّة والعربيّة الإسلاميّة، ومازالت ملامح هذه الحضارات بادية إلى اليوم في المعمار وأنماط الحياة وطرائق العيش والاحتفالات والتنوّع الثقافي والعرقي والديني.
جربة.. كنوز تصبغ الجزيرة
جزيرة جربة التي تقع بخليج قابس بالساحل الجنوبي لتونس تمسح حوالي 514 ألف كلم مربع وتعتمر أديمها مليون نخلة وآلاف الزياتين المعمّرة التي زرعها الفنيقيين أنفسهم عندما كانوا يأتون للجزيرة للإتّجار، كما يعتبرها المؤرخون والمختصّون "كونًا نفيسًا" لزخرفها الانثروبولوجي والديمغرافي والبيئي والمعماري والذي حافظت عليه لقرون مديدة.
استوطن اليهود جزيرة جربة منذ آلاف السنين إثر هدم معبدهم بالقدس بين القرنين السادس والسابع قبل الميلاد على يد الملك البابلي "نبوخذ نصر"
ومن أشهر معالم جربة الأثرية "برج الغازي مصطفى" الذي بني في القرن الخامس عشر ميلادي للدفاع عن الجزيرة ضد هجومات القراصنة وخاصة غزو الأسبان، إضافة لمساجدها المنقورة والبسيطة ذات الهندسات المتقشّفة والمتواضعة والتي كانت تنهض بأدوار دفاعية إلى جانب الأدوار الدينية. إذ يوجد في أسفل أغلب مساجد جربة فساقي لتجميع المياه والتحكّم فيها، ومن أشهرها مسجد "سيدي جمور" الذي يمكن مشاهدته عن بعد كيلومترات شامخًا ببياض طلائه وعفوية صومعته.
كما استوطن اليهود جزيرة جربة منذ آلاف السنين إثر هدم معبدهم بالقدس بين القرنين السادس والسابع قبل الميلاد على يد الملك البابلي "نبوخذ نصر"، ومازال أحفادهم يعيشون في "حاراتهم" بحومة السوق وميدون على أرض الجزيرة بسلام إلى اليوم فبنوا على مرّ القرون معابد عديدة بالجزيرة مازال بعضها موجودًا إلى اليوم. ويعتبر "معبد الغريبة" هو الأقدم وله شهرة عالمية تدفع بيهود العالم إلى زيارته وإقامة احتفال ديني سنوي فيما يشبه الحجّ جعل من تونس أرض تسامح وتعايش ديني وثقافي. كما توجد على أرض الجزيرة معالم مسيحية من كنائس ومقابر منذ العهدين البيزنطي والروماني.
استوطن اليهود جزيرة جربة منذ آلاف السنين (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)
اقرأ/ي أيضًا: دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"
ولـ"الجرابة" خصوصيّات ثقافية وحضارية مميّزة وتختلف عن باقي التونسيين بمختلف المدن الأخرى، فإلى اليوم ومنذ تسع قرون مازال "نظام العزّابة " ينظم الحياة اليومية الفردية والجماعية لسكان جربة. كما يتميز "العرس الجربي" إلى اليوم بعادات خاصة مثل حجب العروس عن أبيها وإخوتها الذكور لمدة 40 يومًا فتخضع لنظام غذائي وتجميلي خاص، أما "الجلوة الجربيّة" فهي مشهد جمالي أخّاذ وفاتن لما فيه من جهد مبذول في إعداد لباس العروس وتناسق حليّها الذهبيّة، أما "يوم بربورة" وهو طواف العريس حول شجرة زيتون عتيقة على ملك جدّه أو والده حيث تضع أمّه بيضة بين ساقيه فيقوم بدهسها درءًا للسحر والنّحس.
يتميز "العرس الجربي" إلى اليوم بعادات خاصة (Getty)
إن هذه العيّنات وغيرها تجعلنا نوقن أنّ جزيرة جربة هي جزيرة يسكنها التاريخ حافظت عليه تونس وجعلت منه تيمة من تيماتها الحضاريّة فوظّفته في سياستها السياحيّة والاقتصادية وعلامة من علاماتها الثقافية.
مواقع تونسية آخرى في قائمة اليونسكو
إنّ جزيرة جربة بكل ما تحوي من كنوز تراثيّة ماديّة ولاماديّة متأهّبة لدخول قائمة التراث الإنساني لتنضاف إلى باقي المعالم التونسية المصنّفة مثل مدينة تونس العتيقة التي بنيت في العهد الحفصي وكانت أول معلم تونسي صنفته "اليونسكو" سنة 1979 إلى جانب الموقع الأثري بقرطاج والقصر الروماني بالجمّ، أما في الثمانينيات تم تصنيف مدينة سوسة العتيقة، ومدينة القيروان العتيقة، والموقع الأثري بدقّة، ومدينة كركوان الأثرية ومقبرتها والمحميّة الطليعية "إشكل" بجهة ببنزرت.
إن التصنيف الذي تمنحه "اليونسكو" لتراث الشعوب من شأنه أن يروّج للبلدان المترشحة ويجمّل صورتها فينعكس ذلك على سياحتها واقتصادها
كما رشّحت تونس بعد الثورة للقائمة الإرشادية للتراث العالمي باليونسكو مجموعة جديدة من المعالم والمواقع التونسية التي قد تتحول إلى تراث إنساني بعد الإعداد الجيد للملفات، ومن المعالم المقترحة، زمن رئاسة المنصف المرزوقي، شبكة مياه زغوان المعروفة بـ"الحنايا"، ومدينة صفاقس العتيقة والأضرحة الملكية لنوميديا.
وإن التصنيف الذي تمنحه "اليونسكو" لتراث الشعوب من شأنه أن يروّج للبلدان المترشحة ويجمّل صورتها فينعكس ذلك على سياحتها واقتصادها ويجعل لشعبها حظوة بين الشعوب. فهل تكون جربة فعلًا جزيرة للإغواء والنسيان فيعود إليها "أوليس" من رحم الأسطورة فتصنّف في قائمة "اليونسكو" عمّا قريب؟
اقرأ/ي أيضًا: