شمل استطلاع المؤشر العربي 2019-2020، الذي أعدّه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تونس، كما جرت العادة دوريًا في الاستطلاعات السابقة، وذلك ضمن 13 بلدًا عربيًا. وقد شمل هذا الاستطلاع 28 ألف عيّنة، وشارك في تنفيذه 900 باحث، بهامش خطأ يراوح بين 2 و3 في المائة، وهو أضخم مشروع مسحي في المجال العربي، بما يجعله فرصة ثمينة للباحثين، للدراسة والتحليل، وتمحيص الأرقام لفهم خلفياتها وأبعادها.
اقرأ/ي أيضًا: تونس في المؤشر العربي.. الأعلى ديمقراطيًا و93% ضد الاعتراف بإسرائيل
في الورقة المنشورة من المركز العربي، على موقعه الرسمي لهذا الاستطلاع، بعنوان "المؤشر العربي 2019-2020 في أرقام"، عُرضت بعض المؤشرات بشكل جمعي إقليمي للدول (بعد توزيع الدول إلى 4 أقاليم: المشرق العربي، والمغرب العربي، والخليج الغربي، ووادي النيل) بحيث ضُمّت أرقام تونس ضمن مجموعة المغرب العربي (التي تضمّ أيضًا الجزائر والمغرب وموريتانيا)، لكن ظهرت بعض المؤشرات بشكل قطري منفرد، وبدت جلّ الأرقام التونسية، هنا، مثيرة للانتباه ما يستوجب الوقوف عندها.
تقييم الوضع الاقتصادي.. تأكيد عمق الأزمة
المؤشر اللافت الأول هو تقييم 85 في المائة من التونسيين أن الوضع الاقتصادي في البلاد سيء، من بينهم 53 في المائة، أي أكثر من النصف، يصفه بأنه "سيء جدًا"، ليحلّ التونسيون في المرتبة الثانية عربيًا في سوء تقييم الوضع الاقتصادي خلف اللبنانيين (96 في المائة من بينهم 68 في المائة وصفوه بأنه "سيء جدًا). واللافت أن وصف "سيء جدًا" (53 في المائة) يعد رقمًا مرتفعًا جدًا، فخلف تونس في المرتبتين الثالثة والرابعة، تحلّ العراق والسودان بنسبتيْ 36 و35 في المائة أي بفارق 17 نقطة كاملة.
في المقارنة داخل الفضاء المغاربي، اعتبر الجزائريون أن الوضع الاقتصادي في بلدهم سيء بنسبة 53 في المائة، والمغاربة بنسبة 47 في المائة، والموريتانيون بنسبة 39 في المائة، مقابل ارتفاع نسبة وصفه بأنه جيّد في هذه البلدان الثلاثة (46 و48 و60 في المائة على التوالي) مقابل أن وصف التونسيين بأن الوضع الاقتصادي "جيّد" في بلدهم لا يتجاوز 12 في المائة فقط، ما يعني ثلث النسبة المسجّلة في الجزائر والمغرب وخمس النسبة المسجلة في موريتانيا. وفي المعدل العربي العام، 52 في المائة من العينة وصفت الوضع الاقتصادي ببلدانها أنه "سيء" (منها 24 في المائة سيء جدًا)، أما وصفه بأنه "جيد" تبلغ 46 في المائة، أي نحو 3 أضعاف تقييم التونسيين لاقتصاد بلدهم.
يصف أكثر من نصف التونسيين (53 في المائة) الوضع الاقتصادي بأنه "سيء جدًا" وهو ما يعكس حجم الأزمة الاقتصادية التي عمّقتها جائحة كورونا
هذه الأرقام المفزعة في تونس تبيّن، بداية، عمق الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ سنوات في البلاد، والتي عمّقتها جائحة كورونا، وتؤشر لحجم سوء تقييم التونسيين للأزمة التي أثرت، بصفة تبعية، في الوضع الاجتماعي وانعكاسه ما تبيّنه المؤشرات المعيشية وبالخصوص ضعف القدرة الشرائية، وارتفاع نسبة البطالة التي بلغت 21.6 في المائة في الثلاثي الثاني عام 2020، عدا عن نسب الفقر التي ارتفعت بشكل كبير في الوسط الغربي تحديدًا. ولا يمكن حقيقة فك الربط بين ارتفاع نسبة وصف الاقتصاد بأنه سيء، 85 في المائة للتذكير، وارتفاع نسبة التشاؤم وفق ما تبينه استطلاعات محلية، بالخصوص مدى قدرة البلاد على الخروج من الأزمة الاقتصادية، وذلك في ظلّ الأزمات السياسية في البلاد ومظهرها تكوين 3 حكومات في ظرف 9 أشهر فقط إثر الانتخابات التشريعية في أكتوبر/تشرين الأول.
إن الأرقام التونسية، وهي الأعلى في التقييم السلبي للاقتصاد والأقل في التقييم الإيجابي خلف لبنان، الذي يشهد أزمة اقتصادية غير مسبوقة مفتوحة على كل الاحتمالات، وهي، أيضًا للإشارة، الأسوء من نظيرتها في بلدان تشهد أزمات اقتصادية (بالخصوص مصر والعراق والأردن والسودان)، تستوجب الاهتمام البالغ لدى الطبقة السياسية في البلاد أمام أولوية حل الملف الاقتصادي والاجتماعي، وبما قد تستوجبه من "هدنة سياسية" دعت إليها بعض القوى لكنها لازالت معلّقة في ظل استمرار مؤشرات التأزم والتصعيد بين الرؤساء الثلاث في البلاد: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من جهة، ورئيس الجمهورية ورئيس البرلمان/الأغلبية البرلمانية من جهة أخرى.
في تأزم الوضع السياسي
تونس نموذج التحول الديمقراطي في المجال العربي بعد الثورات، والديمقراطية الأعلى تقييمًا في الوطن العربي، بل هي "الديمقراطية الوحيدة" وفق معايير منظمات دولية، يقدّر نحو ثلثيْ مواطنيها (63 في المائة) أن الوضع السياسي "سيء" في البلد، منهم 36 في المائة يصفونه بأنه "سيء جدًا"، لتحلّ في المرتبة الرابعة عربيًا (خلف لبنان والعراق وفلسطين)، والأولى في المجموعة المغاربية، مع الإشارة إلى أن النسبة العربية العام لوصف الوضع بأنه "سيء" تبلغ 47 في المائة، أي أقل من 16 نقطة من الرقم التونسي. في المقابل، يصف ربع التونسيون فقط (25 في المائة) بأن الوضع "جيّد" منهم 3 في المائة فقط يعتبرونه "جيد جدًا"، وهي كذلك النسبة الرابعة عربيًا، والأولى مغاربيًا، فيما يبلغ المعدل العام للوضع "الجيد" 48 في المائة ضمنه نسبة 16 في المائة كوضع "جيد جدًا"، أي أكثر من خمس مرّات المعدّل المسجّل في تونس "الديمقراطية".
أدت الأزمة السياسية بتكوين 3 حكومات في ظرف 9 أشهر فقط إثر الانتخابات التشريعية الأخيرة إلى تراجع تقييم التونسيين للوضع السياسي في البلاد
هذه النسبة لا يمكن فصلها عن تقييم الوضع الاقتصادي، باعتبار أن التقدير العام للمواطنين أن الوضع الاقتصادي "سيء" يرتبط بالتقييم السلبي للوضع السياسي، ومحلّ السوء هو الأزمة السياسية بعد انتخابات 2019 بعد تكوين 3 حكومات في ظرف 9 أشهر، تشكلت الأولى ولم تنل ثقة البرلمان، تشكلت الثانية ودامت 6 أشهر فقط بعد استقالة رئيسها إلياس الفخفاخ إثر عريضة لسحب الثقة من الأغلبية البرلمانية، ثم تشكلت الثالثة ونالت الثقة في البرلمان وبدأت عملها مفتتح سبتمبر/أيلول 2020.
كما يعدّ البرلمان عنصر أزمة في تونس بشهادة قيادات حزبية ونواب وليس فقط بما قدّمه من انطباع عام للجمهور، وذلك لأن القانون الانتخابي (النظام النسبي مع أكبر البقايا دون عتبة) أنتج فسيفسائية برلمانية بكتل متقاربة (أكبر كتلة برلمانية تضم ربع النواب فقط)، وهو ما أدى، في الدورة البرلمانية الأخيرة، إلى توتر غير مسبوق وصراع تسجيل للنقاط بين الكتل مع طغيان الخطابات المتطرفة والشعبوية، خاصة مع كتلة الحزب الدستوري الحر المُتهمة بمحاولة ترذيل المشهد البرلماني في سياق سعيها لنسف للمؤسسات الديمقراطية في البلاد لغايات مشبوهة، وفق معارضيها.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة النظام السياسي أم أزمة القوى الديمقراطيّة؟
ولكن الملاحظة الرئيسية، والمهم الوقوف عندها بخصوص دقة الأرقام التونسية، هو زمن تنفيذ استطلاع الرأي لمؤشر هذا العام، والذي يظهر أنه جرى بين نوفمبر/تشرين الثاني 2019 وجويلية/يوليو 2020، دون أن يظهر تحديدًا موعد إجراء استطلاع تقييم الوضع السياسي في تونس، لأن تحديد الموعد الدقيق هو عنصر محدّد، ليس لأن تونس تشهد ديناميكية سياسية نشطة في ظل المناخ الديمقراطي، بل لأن بين التاريخين المذكورين: فارق سياسي شاسع. فشهر نوفمبر/تشرين الثاني 2019، هو أول شهر بعد انتخاب البرلمان الجديد ورئيس الجمهورية الجديد (شهر أكتوبر/تشرين الأول) الذي فاز بنسبة قياسية، وقد عرف الشارع التونسي حالة من النشوة وعودة الأمل ومظهره حملات النظافة التي عرفتها مختلف المدن التونسية في الخريف الفارط.
ولكن أدت الأزمة السياسية المتعلقة بتكوين 3 حكومات في ظرف 9 أشهر فقط إثر الانتخابات التشريعية، والتوتر غير مسبوق داخل البرلمان بين الكتل ما جعل المؤسسة التشريعية الأقل ثقة بين التونسيين، والصراع الحاد بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، عدا عن أزمة كورونا وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية، إلى تراجع تقييم التونسيين للطبقة السياسية وللوضع العام برمّته بشقيه السياسي والاقتصادي.
الديمقراطية.. تأكيد الممارسة ومأزق التقييم
يبيّن المؤشر العربي أن التونسيين يؤكدون أنهم يمارسون الديمقراطية (الأكثر موافقة بشدّة على قيام البرلمان بدوره الرقابي/والأكثر قدرة على انتقاد الحكومة)، ولكن ذلك لا يعني تقييمًا إيجابيًا لتقييم مستوى الديمقراطية.
ففي البداية، التونسيون هم الأكثر تقديرًا عربيًا أنهم "يوافقون بشدّة" أن البرلمان يقوم بواجب الرقابة على الحكومة بنسبة 30 في المائة بحوالي ضعف المعدل العام (16 في المائة)، وتبلغ نسبة الموافقة عمومًا 59 في المائة في تونس ولكنها ليست النسبة الأعلى عربيًا، وهي متقاربة مع المعدل العام (54 في المائة). في المقابل، تبلغ نسبة الرفض لمقولة قيام البرلمان بواجبه في الرقابة 33 في المائة وهي تعدّ مرتفعة (أعلى من الكويت ومصر وموريتانيا والجزائر وقطر والسعودية)، وغير بعيدة عن المعدل العربي العام (38 في المائة)، وهذي تعدّ مفارقة إلى حد ما.
يبيّن المؤشر العربي أن التونسيين يؤكدون أنهم يمارسون الديمقراطية (الأكثر موافقة بشدّة على قيام البرلمان بدوره الرقابي/والأكثر قدرة على انتقاد الحكومة)، ولكن يحلّون في المرتبة السابعة عربيًا في التقييم الإيجابي لمستوى الديمقراطية
إن الوضع المتوتر في البرلمان، خاصة أمام تقلّب موازين القوى واختلاف كتل دعم الحكومة والمعارضة بين حكومة وأخرى، أدى، في المقابل، في سياق إثبات الكتل المتنافرة علو كعبها على الأخرى، لتصاعد البعد الرقابي للبرلمان، عبر الأسئلة الشفاهية والكتابية أساسًا، ولكن تحديدًا عبر ما عرفه البرلمان خلال الأشهر الماضية من تكوين لجنة تحقيق برلمانية في ملف تضارب المصالح لرئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ، وثم تقديم لائحة برلمانية لسحب من الحكومة في جويلية/يوليو الفارط، وهي المبادرة الأولى من نوعها في تاريخ البرلمان التونسي منذ الاستقلال. وبالتالي، يُعتبر البرلمان قد أدى واجبه الرقابي، ولكن ذلك لا يعني، للمفارقة، الموافقة على أداء المؤسسة التشريعية بسبب التوتر الحاد ومستوى الخطاب السياسي، وأيضًا بما أصبح يمثله، لدى الجمهور العام، كبرلمان أزمة خاصة أمام تبيّن العلاقة المتوترة بينه وبين رئيس الجمهورية قيس سعيّد. وكذل ذلك يفسّر الرقم التونسي في المؤشر العربي حول الأداء الرقابي للبرلمان في شقيه: أعلى نسبة عربية لـ"الموافقين بشدّة" أن البرلمان قام بواجبه الرقابي، وخامس أعلى نسبة لـ"المعارضين" لذلك (من بين 12 بلدًا عربيًا).
المؤشر الثاني المؤكد للممارسة الديمقراطية هو القدرة على انتقاد الحكومة، إذ يتصدر التونسيون أيضًا مقياس الانتقاد بـ6.9/10 نقاط بفارض ضئيل عن موريتانيا والسودان 6.8/10، وحافظت بتونس على تصدر هذه النسبة على غرار مؤشر 2017/2018 حيث تصدرت تونس النسبة أيضًا بنسبة 81 في المائة (بفارق 7 نقاط عن لبنان في المرتبة الثانية). وهذه النسبة منتظرة تؤكد مناخ الحريات العامة في تونس وبالخصوص ممارسة حق التعبير خاصة في منصات التواصل الاجتماعي.
ولكن المؤشر الثالث المهم الوقوف مليًا عنده، في علاقة بالمسألة الديمقراطية، هو "تقييم مستوى الديمقراطية"، فتونس، التي تتصدر مؤشر الديمقراطيات في المجال العربي وفق منظمات دولية متخصصة، لا تتصدر، للمفارقة، الترتيب العربي لتقييم مواطنيها للديمقراطية. إذ أن نسبة تقييم هذا المؤشر في تونس هي 5.9/10 نقاط، في المرتبة السابعة عربيًا، خلف كل من السعودية، وقطر، وموريتانيا، والكويت، والأردن ومصر. ونسبة التقييم التونسي هي ذاتها تقريبًا المعدل العربي العام (5.8/10 نقاط).
لا تتأخر تونس فقط أمام بلدان خليجية ذات مستوى اقتصادي جيّد ودخل فردي مرتفع بما يهمّش حضور المسألة الديمقراطية، ولكن أيضًا أمام بلدان تتشابه مع تونس في الأزمة الاقتصادية وتدهور المستوى المعيشي وتحديدًا مصر والأردن وأيضًا موريتانيا. إن هذا المؤشر يؤكد قناعة متصاعدة داخل الشارع التونسي، وتعمل بعض القوى السياسية على الاستثمار فيها، وهي التلازم بين العملية الديمقراطية والتدهور الاقتصادي والاجتماعي في محاولة لتعزيز الانطباع أن الديمقراطية لا تؤكل الخبز، بل بالعكس قد تحول دونه. وهو ما يفسر، في الأثناء، تصاعد المطالبة بتبني النظام الرئاسي في البلاد لضمان الاستقرار والنجاعة في آن باعتبار أن الممارسة الديمقراطية طيلة السنوات الأخيرة لم تؤدي إلا لتأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي، أو أن المُنجز السياسي بعد الثورة ليس فقط لم يلحقه المنجز المعيشي الموعود بل سبب ضعف سلطة الدولة وتراجع أداء الإدارة وانفلات النقابات إلخ، وهو ما يجعل، بالتتابع، الاعتقاد بالديمقراطية أو مدى لزومها يضعف خاصة في أوساط الطبقات الضعيفة، ما يمثل، في العمق، التحدي الرئيسي للقوى الديمقراطية في البلاد.
وما يؤكد هذا الاستنتاج هو رقم نجده في المؤشر العربي الفارط (2017/2018)، إن أن التونسيين هم الأكثر اعتقادًا عربيًا أن "النظام الديمقراطي يتسم بأنه غير حاسم وحافل بالمشاحنات" وذلك بنسبة 56 في المائة وهي الدولة العربية الوحيدة عربيًا التي ترى أغلبية مواطنيها هذا الموقف، والرقم التونسي أعلى بـ22 نقطة كاملة من المعدل العربي العام الذي يبلغ 34 في المائة. وما يعزّز أيضًا الربط بين الأزمة الاقتصادية بنظيرتها السياسية، أو أدق ارتباط الديمقراطية بالأزمة الاقتصادية، هو رقم نجده كذلك في المؤشر العربي لعام 2017/2018، إذ أن 40 في المائة من التونسيين يرون أن "الأداء الاقتصادي يسير بصورة سيئة في النظام الديمقراطي"، وهي أعلى نسبة عربيًا، وتتجاوز بفارق لافت المعدل العربي العام المؤيد للمقولة (24 في المائة).
تونس.. أكثر بلد يرى أن التهديد الرئيسي قادم من "دول عربية"
تضمّن المؤشر العربي رقمًا لافتًا ومثيرًا للانتباه يهمّ تونس، وهو الذي يتعلق باتّجاهات المستجيبين نحو الدول الأكثر تهديدًا أمن بلدانهم؛ إذ يرى التونسييون أن أكثر ما يهّدد بلدهم هي "دول عربية" بنسبة 19 في المائة وهي النسبة الأعلى عربيًا، ولو يُضاف إليها صنف "دول عربية مجاورة مجاورة في الإقليم" التي تبلغ نسبة 14 في المائة، تصبح نسبة "التهديد العربي" لتونس 23 في المائة. وتحل إسرائيل والكيان الصهيوني في المرتبة الثالثة معًا كأكثر عنصر تهديد لتونس بنسبة 11 في المائة لكل منهما. فيما يرى التونسيون أن تركيا لا تمثل تهديدًا بالنسبة لهم إلا بنسبة 1 في المائة فقط، مقابل عدم وجود أي تهديد من إيران.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا تتصدّر تونس مناهضة التطبيع في موجته الجديدة؟
هذه النسبة المرتفعة للتهديد من الدول العربية، المجاورة والإقليمية، لتونس، التي تحدها ليبيا شرقًا والجزائر غربًا، يفسّر مبدئيًا بالتهديد الأمني المرتفع من الجوار الليبي التي تشهد احترابًا أهليًا منذ 6 سنوات بلغت أحيانًا بعض آثاره للجنوب التونسي، وبالتالي مؤشر التهديد لا يعني تهديد عسكري/وجودي من عدو إقليمي (كحالة دول المشرق العربي والخليج العربي)، ولكن تهديد أمني/طارئ من البلد وليس من نظامه السياسي.
ولكن تجاوزًا للمعطى الليبي الميداني، لا يمكن تجاوز تقدير التونسيين لوجود تهديد من دول في الخليج العربي لنظامهم الديمقراطي، الذي يُرى أنه النموذج المثالي للثورات العربية، وهو تهديد مصدره تحديدًا دولة الإمارات العربية المتحدة، التي باتت تُوجه إليها الاتهامات العلنية بمحاولة تخريب المشهد السياسي، وذُكر اسمها صراحة تحت قبة البرلمان أكثر من مرة هذا العام، كما سمّى المستشار السابق لرئيس الحكومة جوهر بن مبارك، في جويلية/يوليو 2020، الإمارات والسعودية كمصدريْ تهديد للانتقال الديمقراطي في البلاد، وما فاقم هذا التقدير هو الإشارات الدائمة من رئيس الجمهورية لوجود "مؤامرات خارجية".
يرى التونسييون أن أكثر ما يهّدد بلدهم هي "دول عربية" بنسبة 19 في المائة وهي النسبة الأعلى عربيًا، ولو يُضاف إليها صنف "دول عربية مجاورة مجاورة في الإقليم" تصبح نسبة "التهديد العربي" لتونس 23 في المائة
وفيما يتعلق بمؤشر التهديد، يُلاحظ أيضًا رقم لافت أن 0 في المائة يرون في فرنسا تهديدًا، وهي النسبة التي تبلغ في الجزائر المجاورة لوحدها نسبة 65 في المائة، مقابل انخفاضها في المغرب وموريتانيا (2 و3 في المائة على التوالي) مع معدل 16 في المائة في المجال المغاربي. وتأتي النسبة الصفرية في تونس تجاه فرنسا رغم أن ملف العلاقة معها طُرح، هذا العام، كما لم يُطرح طيلة الأعوام الفارط بمناسبة لائحة برلمانية لطلب فرنسا الاعتذار من تونس، وما خلفته زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى باريس من جدل بعد إعلان تحفظه عن هذا المطلب، وذلك بالتوازي مع ارتفاع الأصوات للقيام بـ"كشف الحساب" مع فرنسا واعتذارها عن جرائمها زمن الاحتلال. وبذلك إن النسبة الصفرية لا تعني دعم سياسات فرنسا أو الموافقة على اعتبار طيْ صفحة الماضي الاستعماري أو أيضًا تعبيرًا عن تأييد الفرنكفونية في تونس مثلًا وإلا بما يفسر تحقيق ائتلاف الكرامة (إسلامي مشوب بالشعبوية) وحركة الشعب (قومي عربي) لنتائج مميزة في الانتخابات التشريعية الأخيرة وقد كان الموقف "العدائي" من فرنسا واضحًا خاصة في خطاب الائتلاف. ولذا إن المقصود بالتهديد، في هذا الجانب، هو التهديد الأمني الصرف، وفرنسا لا تمثل تهديدًا أمنيًا مباشرًا لتونس. وأما الارتفاع القياسي للنسبة في الجزائر، يُفسّر بالحساسية الشعبية التاريخية ضد الاحتلال الفرنسي الذي دام قرن ونصف القرن، وأيضًا بتزامن الاستطلاع مع بداية عهدة الرئيس الجديد عبد المجيد تبون الذي عبر عن مسافة تجاه فرنسا، ومنها دعوته لها، مؤخرًا، للتعويض عن تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية.
موقع الدين في الحياة العامة.. مفارقات تونسية
في مقولة "ليس من حقّ أيِّ جهة تكفير الذين ينتمون إلى أديانٍ أخرى"، يؤيد 57 في المائة من التونسيين هذه المقولة، من بينهم 29 في المائة "يوافقون بشدّة" وهي أعلى رابع نسبة عربيًا (خلف مصر والأردن ولبنان)، فيما يعارضها 32 في المائة وهي أعلى رابع نسبة عربيًا أيضًا (خلف الجزائر والسعودية وموريتانيا). ولكن التدقيق في هذا المؤشر يعطينا أيضًا النتيجة التالية: تونس أكثر دولة عربية "معارضة بشدّة" للمقولة المذكورة بنسبة 17 في المائة (9 في المائة المعدل العام). والمؤشر العربي، في هذا الجانب، يبيّن أيضًا أن التونسيين يؤيدون التكفير أكثر من المعدل العربي العام (65 في المائة تأييد للمقولة و27 في المائة رفضا لها)، وذلك على عكس الانطباع العام.
اقرأ/ي أيضًا: عندما تلتقي السلفية بالشعبوية: ائتلاف الكرامة ومرونة السلفية السياسية في تونس
وللملاحظة، تتباين بشكل لافت أرقام تونس بين مؤشر هذا العام والمؤشر العربي 2017/2018، فنسبة تأييد المقولة كانت 75 في المائة (أي أكثر من 18 نقطة من الرقم الحالي) وهي أعلى نسبة تأييد عربيًا، أما نسبة الرفض كانت 21 في المائة (أي أقل من 11 نقط من الرقم الحالي). والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا تباينت النسبة إلى حد ما في الموقف من تكفير المختلفين دينيًا في تونس بين آخر مؤشرين؟
تونس هي أقل دولة عربية ترى أن تنظيم "داعش" هو نتيجة وجود التطرف والتعصب الديني في المجتمعات العربية
في مقولة ثانية وهي "لا يحقّ للحكومة استخدام الدّين للحصول على تأييد الناس لسياساتها"، يدعم 59 في المائة من التونسيين هذه المقولة ولكنها ليست فقط أقل من المعدل العام بفارق لافت (71 في المائة) ولكن هي أقل ثاني نسبة تأييد عربيًا (خلف السعودية فقط-48 في المائة) بل أيضًا أقل بفارق كبير عن نسبة المؤشر السابق (2017/2018) حيث بلغت النسبة 73 في المائة وكانت وقتها ثاني أعلى نسبة عربيًا، ولكن الملاحظة الأهم لهذا العام هي الآتي: تونس أكثر دولة ترفض "بشدّة" هذه المقولة بنسبة 15 في المائة والمعدل العربي العام في حدود 6 في المائة فقط (العراق 12 في المائة والسعودية 11 في المائة)، وقد كانت نسبة الرفض المطلق في المؤشر السابق في تونس 9 في المائة.
عمومًا، هذان المؤشران يفسّران، في جانب ما، خصوصية مقاربة التونسيين للمسألة الدينية، وقد تصاعدت التيارات التكفيرية في البلاد طيلة السنوات الماضية ومظهره جحافل الإرهابيين التكفيريين التونسيين الذي نشطوا ضمن تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا وليبيا عدا عن نشاطه في الجبال الداخلية في البلاد. وتؤكد المؤشرات مدى تعقد المسألة الدينية في البلاد التي قادت قافلة الإصلاح في المجال العربي عبر ترسانتها القانونية (مجلة الأحوال الشخصية تحديدًا)، ودعم فيها رئيس جمهورية بعد الثورة (الباجي قائد السبسي) المساواة في الإرث، وهي كذلك للمفارقة البلد الوحيد عربيًا الذي ينص دستورتها على رفض التكفير، وكل ذلك في مقابل تصاعد نزعة الخطاب المتطرف داخل المجتمع وتطوّره للتنظم والعمل المسلح ضد الدولة. فأن يكون التونسيون هم الأكثر رفضًا "بشدة" عربيًا لمقولة عدم جواز تكفير الذين ينتمون لأديان أخرى، وهم أيضًا الأكثر رفضًا "بشدة" عربيًا لمقولة عدم جواز استعمال الحكومة للدين، هو مؤشر لافت جدًا يستحق الوقوف عنده مليًا بالنسبة للباحثين المشتغلين في الحقل الديني، لمزيد التمحيص في أسبابه وتحليل أبعاده.
ويوجد واقعًا مؤشر ثالث، في نفس السياق، يؤكد وصف المفارقة، فوفق ذات الاستطلاع، تونس هي أقل دولة عربية ترى أن تنظيم "داعش" هو نتيجة وجود التطرف والتعصب الديني في المجتمعات العربية وذلك بدعم 31 في المائة فقط لهذه المقولة، أقل من 11 نقطة من المعدل العربي العام. وهو رقم يشير إلى محدودية الاعتراف بمشكل التطرف الديني في تونس، على الأقل مقارنة ببقية الأقطار العربية.
تونس وفلسطين.. تأكيد المؤكد
أكد المؤشر العربي فيما يهم القضية الفلسطينية الموقف الشعبي التونسي المساند للحق الفلسطيني، إذ اعتبر 89 في المائة من العينة أنهم يرون أن فلسطين هي قضية جميع العرب وليس الفلسطينيين لوحدهم، وهي أعلى رابع نسبة عربيًا بعد الجزائر والأردن وقطر، والنسبة التونسية هي أقل من المعدل العام بـ10 نقاط. وفيما يهم رفض اعتراف بلدهم بالكيان الصهيوني، عبرت العينة التونسية عن نسبة رفض مرتفعة تبلغ 93 في المائة، وهي ذات النسبة في مؤشر 2018/2017، وأعلى رابع نسبيًا عربيًا أيضًا بعد الجزائر والأردن ولبنان، فيما تبلغ نسبة الموافقة 3 في المائة فقط وهي ثاني أقل نسبة بعد الجزائر حيث تبلغ النسبة 0 في المائة.
تدعّم أرقام تونس فيما يهمّ القضية الفلسطينية (89 في المائة يعتبروها قضية عربية و93 في المائة يرفضون الاعتراف بالكيان الصهيوني) موقف القوى المؤيدة لإصدار قانون لتجريم التطبيع
هذه الأرقام تأتي لتؤكد الأرقام السابقة الثابتة، ولكن تأتي هذا العام بعد صعود رئيس الجمهورية قيس سعيّد الذي تميّز بموقف رسمي غير مسبوق رفضًا للتطبيع مع إسرائيلي بوصفه "خيانة عظمى" كما صرّح في المناظرة الرئاسية عشية الانتخابات الرئاسية، وجدّد، بعد التطبيع الإماراتي، موقف رفض التطبيع بمناسبة استقبال السفير الفلسطيني بتونس. وقد شهدت البلاد موجة وقفات احتجاجية رافضة لموجة التطبيع الإماراتي والبحريني والتي قد تشمل دول عربية أخرى تحت رعاية الإدارة الأمريكية وفي إطار تنفيذ مشروع صفقة القرن، التي أكدت تونس رفضها لها بتأكيد موقفها المبدئي والثابث الداعم للحقوق الفلسطينية. وقد تبنى البرلمان موقفًا رسميًا واضحًا ضد موجة التطبيع، عدا عن مواقف المنظمات الوطنية وعديد مكونات المجتمع المدني في البلاد.
والتأكيد على الدعم المطلق للقضية الفلسطينية ورفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، وفق الأرقام الأخيرة، يمثل دافعًا متجددًا للقوى الداعمة لسن قانون لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، خاصة أن الوزن البرلماني لهذه الكتل تدعّم في برلمان 2019، إذ من المنتظر تقديم مشروع قانون جديد في الفترة المقبلة مع العلم بوجود مشروع سابق لم يناقشه البرلمان السابق. وهذا المشروع سيمثل اختبارًا جديًا بالخصوص لحركة النهضة التي رفضت خلال إعداد دستور 2014 تجريم التطبيع في توطئة الدستور مقابل "الوعد" بالتجريم بقانون مستقل وهو ما لم ير النور بعد.
اقرأ/ي أيضًا:
العدالة الانتقالية في تونس.. مسار بطيء ومعطّل لازال يبحث عن تحقيق أهدافه
منها الزغرادة والباراشوك والبراميل.. السجل الجديد للسٍّباب بين الأحزاب والنواب