يمكن اعتبار إفراط التونسيين في استعمال الأنترنت وخاصة وسائل التّواصل الاجتماعي، في إطار التأويل البلاغي، نوعًا من "القفز على الواقع" على حد عبارة عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب، بل هو سفر يشبه اجتياز الحدود خلسة هربًا من مرارة الواقع وفقدان الحياة لنكهتها.
يمثل السفر عبر الأنترنت ملاذًا مغامراتيًا لعديد التونسيين نحو مدائن الحلم بالأفضل والأجمل. ومن المغامرات التي أقدم عليها بعض التونسيين هي الانخراط في العالم الشبكي انخراطًا مختلفًا وغير معهود وذلك عبر المطالبة بالمواطنة الافتراضية أو الرقمية التي تمنحها دولة إستونيا منذ عام 2014 لكافة سكان المعمورة عبر شبكة الأنترنت.
إستونيا هي دولة موجودة في شمال أوروبا وتطلّ على بحر البلطيق، كانت بالأمس القريب منتمية للاتحاد السوفياتي قبل تفككه 1991، لتنضمّ للاتحاد الأوروبي عام 2004 بعد أن أثار ملف انضمامها جدلًا سياسًيا بين مؤيد ورافض خاصة لتزامنه في تلك الفترة مع رفض الملف التركي، ثم التحقت بمنطقة اليورو عام 2011.
تحصل تونسيون على المواطنة الافتراضية لدولة إستونيا التي تمنح هذا النوع من الجنسية لكافة سكان المعمورة عبر طلبها على الأنترنت
لا تملك إستونيا ثروات طبيعية ومناخها شبه قطبي، ولا يتجاوز عدد سكانها المليون ونصف ساكن، حوالي الرّبع من أصول روسية، لكنّها وبفضل ذكاء خبرائها وساستها تفطنت إلى فكرة وصفت بالعبقرية وهي استثمار فلسفة الأنترنت لصالحها. قام البرلمان الإستوني، في البداية عام 2003، بدسترة الأنترنت عبر جعلها حقًّا أساسيًا للمواطنين الإستونيين تمامًا كالحقوق المدنية والسياسية.
اقرأ/ي أيضًا: شركات الزواج في تونس.. خطّابة العصر لزواج مسكوت عنه
ثم بدأت في الاشتغال على الخطوة الأساسية أو "الحلم الأكبر" وهو منح المواطنة الافتراضية لطالبيها من سكان العالم، غير أن هذا الحلم واجه عوائق قانونية وسياسية متعلقة خصوصًا بسياسات الاتحاد الاوروبي على المستوى الاقتصادي والعلاقات الخارجية.
ولكن تواصل "الحلم الإستوني" ليتحول إلى حلم عالمي، إذ منحت إستونيًا، إلى حدّ الآن، حوالي 50 ألف "بطاقة مواطنة افتراضية" عبر سفاراتها في العالم وهي تأمل أن يرتفع هذا العدد إلى 20 مليون مواطن افتراضي مع أفق 2025.
وقد سارع تونسيون إلى الانخراط في هذا الاستشراف الإستوني وذلك بحصول 170 تونسيًا إلى حدّ اليوم على المواطنة الافتراضية الاستونية، وهم يمارسون حقوقهم وخاصة تلك المتعلقة بمجالات مثل التجارة والتسويق الالكتروني والثقافة الرقمية.
وسام الوسلاتي (مواطن افتراضي إستوني): أوطان جديدة آخذة في التشكل عبر الأنترنت
التقى "الترا تونس" بالمواطن التونسي وأيضًا "المواطن الافتراضي الإستوني" وسام الوسلاتي وهو ثاني تونسي يتحصّل على المواطنة الافتراضية عام 2015، وقد زار "بلده التاني" على حد تعبيره في مناسبتين.
يعتبر وسام الوسلاتي، وهو جامعي وخبير في التكنولوجيا، أنّ إستونيا كانت ذكية في طرحها لمسألة المواطنة الافتراضية وذلك باستغلال الثورة الاتصالية والرقمية عبر تدفق الأنترنت وتنامي العالم الشبكي، مضيفًا أن البلد الصغير صاحب الإمكانيات المحدودة اعتمد سياسة ترويجية من أجل جذب المبحرين والمهتمين بالمغامرة عبر الأنترنت.
وسام الوسلاتي هو واحد من بين 170 تونسيًا تحصلوا على الجنسية الافتراضية لدولة إستونيا
وأشار، في هذا الإطار، إلى أن إستونيا منحت المواطنة الافتراضية لشخصيات اعتبارية وسياسية منها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وبابا الفاتيكان ورئيس الوزراء الياباني.
وأوضح محدثنا أن الحصول على بطاقة المواطن الافتراضي يتم بمقابل بقيمة 100 يورو فقط، معتبرًا أن إستونيا وبهذه الطريقة ستدرّ أموالًا طائلة في حال تنامي عدد طالبي المواطنة الافتراضية التي تمكن بالأساس من التواصل الاقتصادي والتبادل التجاري في الفضاء الاقتصادي الأوروبي دون التنقل والسفر، وفق تأكيده.
وسام الوسلاتي (تونسي متحصّل على المواطنة الافتراضية الإستونية): أوطان وهويات افتراضية آخذة في التشكل و ذلك لا يمسّ من المواطنة الأصلية والهوية الأم
وحول خصوصية هذه المواطنة، قال "المواطن الافتراضي الإستوني" وسام الوسلاتي إن "أوطانًا وهويات افتراضية آخذة في التشكل"، مؤكدًا أن ذلك لا يمسّ من المواطنة الأصلية والهوية الأم وفق اعتقاده، بل قال إنها تمتّن من قيم التواصل وتجعل للأنترنت معاني اجتماعية جديدة، حسب قوله.
وأوضح الأستاذ الخبير في التكنولوجيا أن الإقبال على المواطنة الافتراضية الإستونية يشهد تصاعدًا من كل بلدان العالم بما فيها الولايات المتحدة الامريكية واليابان وأستراليا، مبينًا أن عدد المواطنين من مختلف الدول العربية والحاصلين على المواطنة الافتراضية لا يتجاوز 500 مواطنًا منهم 300 مصريًا و170 تونسيًا و10 ليبيين، مؤكدًا على تمتعهم بامتيازات هامة على غرار المواطنين الأوروبيين.
تقدم المواطنة الافتراضية الإستونية امتيازات في علاقة بالتجارة والتسويق الإلكتروني
اقرأ/ي أيضًا: لعبة "البلانات".. الإدمان الخفيّ من أجل الربح السريع
وعن زيارته لـ"بلده التاني" إستونيا، قال محدثنا إن هذا البلد لا يزال سوفياتيًا بامتياز إذ لم يتخلص بعد من ثقل الاشتراكية التي سكنته لسنوات طويلة، ولكنه أضاف أنه يطمح للتغيير والاندماج الكلي في الفضاء الأوروبي. وأشار، في هذا الجانب، إلى أن المعاملات اليومية من خدمات إدارية تمرّ عبر الأنترنت التي يلاحظ الزائر أنها مسألة حيوية وضرورية، وفق تأكيده.
وسام الوسلاتي (تونسي متحصّل على المواطنة الافتراضية الإستونية): حدود العالم ستتغير والعلاقات السياسية الاقتصادية والثقافية ستأخذ منحى آخر في قادم السنوات بفضل الأنترنت
وفي قراءته الخاصة لهذا المستجدّ المتعلّق بالأنترنت، قال وسام الوسلاتي: "إن المستقبل هو لصالح مثل هذه المبادرات وعلينا أن نصدق أن الافتراضي بات يعيش معنا نتعلق به ونغادره متى نشاء ونوظفه سلبًا كما إيجابا".
وأضاف أن حدود العالم ستتغير وأن العلاقات السياسية الاقتصادية والثقافية ستأخذ منحى آخر في قادم السنوات بفضل الأنترنت، معتبرًا أن مفاهيم جديدة ستنبثق وأخرى ستتغير كمفاهيم الفقر والغنى والتضامن والتّحابب.
الباحث في علم الاجتماع ممدوح عزّالدين: المجتمعات الشبكية ستتغلب على المجتمعات الحقيقية
توجهنا حول المواطنة الافتراضية كظاهرة جديدة في العالم للباحث في علم الاجتماع ممدوح عز الدين الذي قدّر أن المجتمعات الشبكية ستتغلب في النهاية عن المجتمعات الواقعية الحقيقية مقدمًا لنماذج لمجتمعات افتراضية وخاصة تلك التي تتعلق بجمعيات رياضية شهيرة أو مجموعات موسيقية أو جمعيات بيئية أو ثقافية.
وأضاف أن المجتمع التونسي ليس بمعزل عمّا يحدث في العالم وهو معني بثورة الأنترنت ورقمنة الحياة ويشمله الحديث عن كل بديل افتراضي، مشيرًا إلى أن "المواطنة الافتراضية هي بدايات لأوطان المستقبل حيث سيصبح الوطن الأم جزءًا من المفهوم الشامل للوطن والهوية".
ممدوح عزالدين (باحث في علم الاجتماع): المواطنة الافتراضية هي بدايات لأوطان المستقبل حيث سيصبح الوطن الأم جزءًا من المفهوم الشامل للوطن
لكن حذر ممدوح عز الدين، في حديثه لـ"الترا تونس"، من مخاطر المواطنة الافتراضية والإقامة الشبكية مثل الاكتئاب والتهريب والتعصب والإدمان الالكتروني مشيرًا إلى ضرورة توحيد الجهود من الآن حتى نبني الأوطان الافتراضية والهويات البديلة بطريقة سليمة يمكن لها أن تدفع الانسانية نحو ما يرنو إليه العقل البشري وفق وقوله.
في نهاية المطاف، تُقدّم المواطنة الافتراضية أو الرقمية في ظل ثورة الأنترنت على أنها مناطق للرفاه السلام والمستقبل في حين أن لها مآزقها المنتظرة إذا لم تتدبر الإنسانية المسألة على عديد المستويات وبالخصوص المستوى القانوني والأخلاقي.
اقرأ/ي أيضًا:
رسائل الحب بين الأمس واليوم.. من سهاد المحبوب إلى السهر على فيسبوك