نحن هنا في حضرة "تربة الباي" أو المقبرة الملكية التونسية زمن حكم البايات الحسينيين من 1705 إلى 1957، أين تتحول رهبة الموت ويقينيته إلى عالم فسيح أليف باذخ غامر للزمن ومتجاوزه بالفن وتلك الجنّة من الرخام الأبيض الصقيل الأسيل الذي يملأ المكان، وبالمجازات والاستعارات والكنايات المنقوشة والموشومة رثاء لا نظير له على القبريات الصامدة في وجه السنون والتي تروي قصص الحكم والسلطة لما يناهز الثلاثة قرون.
"تربة الباي" أو المقبرة الملكية التونسية زمن حكم البايات الحسينيين من 1705 إلى 1957، أين تتحول رهبة الموت ويقينيته إلى عالم فسيح أليف باذخ غامر للزمن ومتجاوزه بالفن
الدخول إلى صمت هذا الرّمس الكبير المسمّى"تربة الباي"، تيه في ملكوت مواجهة حكام تونس لأقدارهم وبما حملت أيديهم من أفعال تجاه رعاياهم... لكنه في نفس الوقت يأخذنا إلى عالم عميق متموج بلا تخوم من التّأمل والسكينة.
إنّ مجرّد التفكير في الموت والرحيل إلى الخلود والأبدية والانجذاب نحوه وجعل الكيان مرهونًا بما لا نهاية له، يعدّ شجاعة وشكلًا من أشكال مغالبة الدنيا بما هو أرحب، أما إذا تعلّق الأمر بسلالة من الملوك حكمت لقرون طويلة فإن ذلك يعدّ نوعًا من التمدد العجائبي في العالم وصونًا لحياتهم بما يتيح للّاحق ذكرهم.
تربة الباي أو المدفن الملكي يفتح أمامنا دروبًا إلى العوالم الخفية وراء العوالم الظاهرة، الموت هنا نجالسه ونحيا في حضرته بجلال وعمق. إنها سرديات الحكم زمن الإيالة التونسية تتجاور وتنام جنبًا إلى جنب في غرف ساحرة يلفها سائل روحي يشبه حزن الزنبق وتخييل المؤرخين عندما يدلفون إلى الزمن العمودي وزمن القيمة وقيمة الوجود.
تربة الباي تضم رفات كل "بايات الكرسي الحسينيين" الذين جلسوا على عرش المملكة التونسية عدا 4 منهم وأيضًا أمهاتهم وزوجاتهم وأغلب الأمراء والأميرات وبعض الوزراء الخلّص
تربة الباي تضم رفات كل "بايات الكرسي" الذين جلسوا على عرش المملكة التونسية طيلة الحكم الحسيني عدا أربعة منهم دفنوا خارج التربة وأيضًا أمهاتهم وزوجاتهم وأغلب الأمراء والأميرات وبعض الوزراء الخلّص. التربة التي تروي قصص الحكم في تونس فتحت أبوابها هذه الأيام للعموم بعد عقود من الغلق والإقصاء السياسي.
- "الترا تونس" يزور المقبرة الملكية التونسية وينقل تاريخها وجمالها
"التربة" تستخدم في الحيز الجغرافي العثماني للإشارة إلى مدفن مخصص لشخص مرموق وأسرته ويمكن أن تتخذ التربة شكل قطعة أرض مسوّرة وغير مسقوفة أو أن تكون مبنى معماريًا متفاوت الفخامة. وقد أستخدمت في الماضي العديد من التسميات للإشارة إلى المباني التي تقام فوق القبور في بلاد المسلمين فعرفت "بالروضة" وأحيانًا "بالمقام" وأحيانا أخرى "بالضريح" و"القبّة" و"المرقد".
وقد عرفت تونس في ظل حكم الأتراك لها والذي انطلق سنة 1574 م تشييد مقامات وأضرحة لفائدة كبار الشخصيات والقادة ومن الأمثلة على ذلك "تربة عثمان داي" الذي دام حكمه من 1594 م إلى 1610 م والموجودة بزاوية سيدي بن عروس أو تربة خليفته "يوسف داي" الذي حكم من 1610 م إلى 1637 م و"تربة أحمد الخوجة" التي يعود تاريخها إلى 1647 م والكائنة بدار الباي بالقصبة حيث يوجد الآن مقر رئاسة الحكومة التونسية.
على إثر إعتلاء الأسرة الحسينية لسدة الحكم سنة 1705 أمكن لمؤسسها "الحسين بن علي" ومن خلفه بناء العديد من الأضرحة داخل تونس العتيقة وهي موجودة إلى اليوم ويعاني بعضها الإهمال
وعلى إثر إعتلاء الأسرة الحسينية لسدة الحكم سنة 1705 م أمكن لمؤسسها "الحسين بن علي" ومن خلفه من بعده بناء العديد من الأضرحة داخل فضاء مدينة تونس العتيقة وهي موجودة إلى اليوم ويعاني بعضها الإهمال والاستلاءات.
ولعل طول فترة حكمهم التي امتدت لما يناهز 3 قرون من الزمن ساعدتهم على ذلك، وقد أنشئت أول تربة حسينية على يد مؤسس الدولة حسين بن علي سنة 1710 م قبالة المدفن الشهير "تربة الباي" وتعرف "بتربة للّة منانة " وهي مخصصة لنساء وأطفال العائلة و"منانة" هو اسم جارية جميلة سبيت من مدينة جنوة الإيطالية وقدمت في شكل هدية للباي مؤسس الدولة الحسينية وقد أنجبت أربعة أبناء ذكور وكانت تحتل مكانة مرموقة ضمن حريم الباي.
(أمام قاعة بايات العرش ـ تربة الباي ـ صور ألترا تونس)
(مشهد عام لقاعة الباشاوات مرقد 13 بايًا حكموا تونس من 1705 إلى 1957 ـ تربة الباي ـ صور الترا تونس)
- مراسم وطقوس تشييع جنازة باي تونس
قبل النوم الأبدي للباي بالتربة الملكية فإنه ثمّة مراسم خاصة لا بد من اتباعها وذلك بحضور الرعية التي تأتي بكثافة لتوديع حاكمهم حيث ينقل جثمان الباي بالضرورة في نفس ليلة الوفاة من مقرّ إقامته إلى "القصر السعيد" بضاحية باردو للقيام بشعائر الغسل وفقًا لطقوس المذهب الحنفي ثم يتم تكفينه في ثوب قطني أبيض بعد تعطيره بالمسك وزيوت النباتات العطرية.
قبل النوم الأبدي للباي بالتربة الملكية فإنه ثمّة مراسم خاصة لا بد من اتباعها وذلك بحضور الرعية التي تأتي بكثافة لتوديع حاكمهم
إثر ذلك يُسجى الجثمان في تابوت خشبي أبيض مطلي بالزعفران ومغطى بقطعة قماش من الحرير باللونين الأصفر والأزرق، ثم يوضع فوقه الزي الرسمي الخاص بالباي المتوفى والمزين بالقلائد الذهبية والمرصع بالأوسمة والنياشين، علاوة على "الفاشة" وهي شريط من القماش يلبس فوق الكتف الأيمن متدلياً نحو الخاصرة اليسرى وهي جزء من وسام فيلق الشرف.
أما من جهة رأس التابوت فيتم تثبيت نوع من الدعامة توضع فوقها شاشية الباي المتوفى المرصعة بالأحجار الكريمة والنياشين.. ثم بعد ذلك وبالقرب من "باب سيدي عبد الله"، يتم استبدال الكروسة (العربة) التي أقلت الجنازة من باردو إلى تونس بنعش ويتوجه الموكب محاطًا بحرس الباي نحو ساحة القصبة وهناك يلقى الباي الجديد السلام الأخير على سلفه المتوفى ويتقبل تعازي جميع الوجهاء والأعيان الحاضرين وكبار المسؤولين في الإيالة وكبار الشخصيات والضيوف.
ينقل جثمان الباي بالضرورة في نفس ليلة الوفاة من مقرّ إقامته إلى "القصر السعيد" بضاحية باردو للقيام بشعائر الغسل وفقًا لطقوس المذهب الحنفي
يتولى لاحقًا شيخا المذهبين الحنفي والمالكي والأئمة والمفتون والباشمفتون بجامع الزيتونة المعمور إقامة شعائر صلاة الجنازة أمام التابوت بساحة القصبة ثم ينطلق الموكب الذي يتقدمه أمراء البيت الحسيني مرة أخرى لنقل جثمان الباي المتوفى على الأكتاف إلى تربة الباي أين المثوى الأخير .
- قاعة الباشوات أكثر القاعات فخامة.. كان البايات يزورونها ويختارون أماكن دفنهم
تربة الباي أو المقبرة الملكية تأسست سنة 1777 م وتضم 153 ضريحًا من العائلة الحسينية و4 أضرحة لكبار الوزراء ممن كانت تجمعهم بالعائلة إلى جانب الوظيفة والولاء المصاهرة والزواج، ويخضع الدفن في التربة الملكية التونسية إلى تراتبية والمكانة التي كان عليها أصحابها في الحياة.
تربة الباي أو المقبرة الملكية تأسست سنة 1777 م وتضم 153 ضريحًا من العائلة الحسينية و4 أضرحة لكبار الوزراء ويخضع الدفن إلى تراتبية والمكانة التي كان عليها أصحابها في الحياة
نجد القاعة الرئيسية وهي أكثر قاعات هذا الضريح فخامة والمسمّاة بقاعة الباشوات وهي مخصصة لأولئك الذين حكموا البلاد فعليًا وتضم 13 قبرًا لبايات عرش من جملة 19 وتحديدًا من "علي باي الثاني" الذي حكم من 1759 إلى 1782 م وهو الرابع في الترتيب إلى " أحمد باشا باي الثاني" الذي حكم من 1922 إلى 1942 م وترتيبه هو 17.
علمًا وأن البايين الأخيرين وهما "محمد المنصف باشا باي" الذي حكم من 1942 إلى 1943 م والملقّب بباي الشعب قد دفن بمقبرة الجلاز بطلب منه والباي الأخير "محمد الأمين باشا باي" والذي حكم من 1943 م إلى 1957 م وهو تاريخ إعلان الجمهورية فقد دفن بمقبرة المرسى بقرار من حكومة دولة الاستقلال في ذلك الوقت.
أما حسين باي الأول، الجد المؤسس الذي حكم من 1705 م إلى 1735 م والباي الثاني "علي باشا باي الأول" الذي حكم من 1735 إلى 1756 م والباي الثالث "محمد رشيد باي" الذي حكم من 1756م إلى 1759م فثلاثتهم مدفون بضريح خاص قبالة تربة الباي.
(المثال الهندسي للمقبرة الملكية للبايات الحسينيين بتونس ـ تربة الباي ـ صور الترا تونس)
(صورة لموكب جنازة أحمد باشا باي الثاني ـ تربة الباي ـ صور الترا تونس)
قاعة الباشوات مليئة بالأسرار حيث نجد بها قبرًا فخمًا بارزًا يزينه تابوت خشبي ملون وهو للولي الصالح "سيدي حسن الشريف" الذي كانت العائلة المالكة تعتقد في كرماته وتتنعم بها، ونجد بها أيضًا ضريحين للأميرين "مأمون باي" و"إسماعيل باي" وضريحين آخرين لطفلين مجهولين.
في تربة الباي وتحديدًا في قاعة الباشوات، نجد قبرًا فخمًا بارزًا يزينه تابوت خشبي ملون وهو للولي الصالح "سيدي حسن الشريف" الذي كانت العائلة المالكة تعتقد في كرماته
ويروى أن البايات كانوا يزورون المقبرة الملكية في العديد من المناسبات ويختارون أماكن دفنهم لذلك لا نجد القبور مرتبة ترتيبًا تاريخيًا، أيضًا ولأسباب مجهولة، اختار الباي رقم 14 وهو "محمد الهادي باشا باي" الذي حكم من 1902 إلى 1906 م أن لا يدفن في قاعة الباشوات وخيّر أن يدفن في ملحق قاعة الأميرات في ركن خاص مع زوجاته وبناته وأن يحاط مدفنه بسور خشبي مزوق ومطلي بالأبيض والأخضر.
كما تتميز هذه القاعة الفخمة بثراء زخارف "النقشة حديدة" وبنقائش الرخام الأبيض النافر من نوع " كارارا " المستجلب من إيطاليا ولكل قبر زخرفه وصوره وأغلبها تجنح نحو عرائش الأزهار وتوضع عند الرأس قبريات مثمنة مكللة إما بعمامة أو طربوش مجيدي والتغيير هنا كان تماهيًا مع ما حصل من تغييرات في البلاط العثماني بإسطنبول حيث أصبح السلطان يضع طربوشًا بدل العمامة.
ومباشرة قبالة القاعة الرئيسية، توجد قاعتان مخصصتان لأمهات البايات وكافة الأميرات، الأولى: "قاعة الأميرة للة جنات" وتضم 15 قبرًا والثانية تسمى "قاعة الأميرات الحسينيات" وتنقسم بدورها لقاعات صغرى: قاعة الأميرة فاطمة عثمانة شقيقة الأميرة الشهيرة عزيزة عثمانة وقاعة الأميرة للة كلثوم.
(الولي الصالح حسن الشريف المدفون تبركًا بقاعة بايات العرش ـ تربة الباي ـ صور ألترا تونس)
(قبر محمد الهادي باشا الباي الرابع عشر الذي خيّر أن يدفن خارج قاعة الباشاوات تربة الباي ـ صور الترا تونس)
ومن الجهة الجنوبية للتربة، يوجد الصحن الثاني وبه قاعتان رئيسيتان الأولى "قاعة الأمراء وكبار الوزراء" وتضم 28 قبًرا لأشقاء البايات وأعمامهم ومن الوزراء نجد محمد العزيز بوعتور وأحمد زروق أما الوزير الشهير مصطفى خزندار فقد دفن في الصحن الثاني في العراء أمام قاعة الأمراء. أما القاعة الثانية فنسبت للأميرة "للة زليخة" وتضم 15 قبرًا لأمهات وشقيقات البايات.
تعلو القبور مرثيات من أجود ما نظم شعراء تلك الحقب الزمنية من حكم البايات الحسينيين في تونس
وكل القاعات المذكورة تتحوز على جماليات مخصوصة من النقش على الرخام و على الخشب الصقيل والجليز الأندلسي الملوّن والمصنّع بالقلالين بمنطقة الحفصية بتونس والقباب التي تشبه قباب الجوامع التركية والمشرقية عمومًا.
واللافت للانتباه أيضًا أن القبريات التي تعلو أغلب القبور تضم مرثيات من أجود ما نظم شعراء تلك الحقب الزمنية من حكم البايات الحسينيين في تونس وهي تستحق الدراسة والتحقيق والتثمين.
مرثية على قبر الأميرة عائشة إبنة محمد الهادي باشا باي ـ تربة الباي ـ صور الترا تونس
المقبرة الملكية الباذخة "تربة الباي" ومباشرة بعد الإطاحة بحكم البايات الحسينيين وإزاحة الباي الأخير محمد الأمين باي وقيام الجمهورية سنة 1957 م تم إلحاقها بالمعهد الوطني للتراث التابع لوزارة الشؤون الثقافية ومن ثمة غلقها نهائيًا لسنوات طويلة وكانت أعمال الصيانة شحيحة جدًا فتعرضت للإهمال والانتهاك والنسيان المقصود.
مع حلول الثورة وتغير الوضع السياسي في تونس، تم الالتفات لتربة الباي فقامت الدولة بترميمها وجعلها معلمًا تراثيًا يروي جزءًا من تاريخ تونس وفتحته للعموم وللسياح
ورغم النداءات المتعددة من قبل الباحثين والمؤرخين لجعل "تربة الباي" معلمًا تاريخيًا وتمكين عامة الناس من زيارته والاطلاع على مكوناته الجمالية والتاريخية إلا أن السلطة في ذلك الوقت كانت لا تجيب وأرجع المختصون ذلك لأسباب سياسية.
وتواصل إقصاء هذا المعلم الفريد من المسالك الثقافية والسياحية في فترة حكم بن علي، لكن مع حلول الثورة وتغير الوضع السياسي في تونس تم الالتفات للتربة فقامت الدولة بترميمها وجعلها معلمًا تراثيًا يروي جزءًا من تاريخ تونس وفتحته للعموم وللسياح.