30-نوفمبر-2023
صليحة

المطربة صليحة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس أواسط القرن العشرين

 

ذات يوم شتائي بارد من أواخر سنة 2007، كنت في رفقة الصحفي الثقافي والناقد الموسيقي والفني الراحل التونسي عبد المجيد الساحلي (1943 - 2020) على تخوم ساحة روما بالعاصمة، كان صحفيًا ألمعيًا ينبض بالحياة والطرافة والثقافة. بدأ المطر في غسل المدينة حتى تبدو أكثر بهاءً وأكثر جمالًا، دلفنا مقهى الباشا -مقهانا المعهود- ومع خيوط رائحة القهوة المنسلة من الفنجانين الصغيرين ورائحة التبغ التي تغمر المكان، كان "سي عبد المجيد" يسهب في الحديث مغمورًا بصوت المطر عن الفنانة الكبيرة "صليحة" وهي من هي في أكوان الموسيقى التونسية، تلك التي ملأت الدنيا وشغلت الناس أواسط القرن العشرين. 

عبد المجيد الساحلي (ناقد فني راحل) عن صليحة: هي فنانة نحتت مصيرها وسط عواصف كثيرة منها المكائد والجهويات والضيم من قبل فنانات عصرها

قال إنها "علَمٌ شقَّ التاريخ الثقافي التونسي واستوى مباشرة على الذرى تحت شمس الأمجاد وتحول إلى صوت ذهبي زاخر بالقصص، هادر بالمعنى والإلذاذ الروحي، صوت نافذ إلى مسام الروح.." وأضاف "سي عبد المجيد" أنها فنانة نحتت مصيرها وسط عواصف كثيرة منها ما هو ذاتي ومنها ما وجدته في الساحة الموسيقية من مكائد وجهويات وخصوصًا الضيم الذي تعرضت له من قبل فنانات عصرها خاصة الفنانة شافية رشدي، الصوت الراسخ في ذلك الوقت. كما أشار "سي عبد المجيد" إلى المقالات العديدة التي حبّرها حول صليحة والفترة التي عاشت فيها والهامش الثقافي الذي كان يحيط بها، ومن أشهر ما كتب "صليحة صوت تونس الأعماق".

 

 

تلك الجلسة المشبعة بالذكريات مع الصحفي الثقافي الراحل عبد المجيد الساحلي حملني إليها تاريخ 26 نوفمبر/ تشرين الثاني الذي يقابل ذكرى وفاة الفنانة "صليحة" المولودة بقرية "نبر" من ولاية الكاف سنة 1914 والتي رحلت سنة 1958 واسمها الأصلي هو "صلوحة بنت إبراهيم بن عبد الحفيظ".

  • صليحة ورحلة البدايات

"صليحة" لم تعش طويلًا جرّاء مرض أصاب كبدها، فقد فارقت الحياة وسنها لم يتجاوز 44 سنة، لكنها صنعت لها مجدًا فنيًا كبيرًا جعلها تتربع على عرش الغناء التونسي من سنة 1938 إلى 1958.

لم تعش صليحة طويلًا جرّاء مرض أصاب كبدها، (44 سنة) لكنها صنعت مجدًا فنيًا كبيرًا جعلها تتربع على عرش الغناء التونسي

لم تكن الأمجاد الفنية بالأمر السّهل بعد الحرب العالمية الأولى وما خلفته من أزمات في العالم وخصوصًا أزمة الثلاثينات، زد على ذلك أن تونس كانت ترزح تحت الاستعمار الفرنسي وكان طريق "صليحة" في بداياتها محفوفًا بالأشواك وهي البدوية القادمة من سفوح جبال الكاف العالي.

 

صليحة
شاء أن تتحوّل صليحة بعد مكابدة وتحدٍ كبير وإصرار، إلى مطربة الرشيدية الأولى بل إلى مطربة تونس الأولى

 

بعد تنقلها مع عائلتها إلى حاضرة تونس، دبّت أزمة بين والديها انتهت بانفصالهما عن بعضهما البعض فتشتت العائلة الريفية، واضطرت للعمل كمعينة منزلية في بيت الأمير محمد باي وهو شقيق المنصف باي الملقب بباي الشعب، وهناك تفتحت قريحتها الغنائية باستماعها لمغنين تونسيين كانوا يرتادون المجالس الموسيقية والغنائية للأمير الحسيني، ومن ثمة تعيد ترديد الأغاني التي استمعت إليها في خلواتها.

اضطرت صليحة للعمل كمعينة منزلية في بيت الأمير محمد باي  قبل أن تنتقل للعمل في بيت الفنانة "بدرية" لتتفتح قريحتها الغنائية باستماعها لمغنين تونسيين كانوا يرتادون المجالس الموسيقية

لم تعمّر صليحة طويلًا في قصر الأمير، إذ انتقلت للعمل في بيت فنانة شهيرة في ذلك الوقت وهي المطربة "بدرية" وكانت صاحبة صالونات فن وموسيقى، وكان من مرتادي تلك المجالس "حسونة بن عمار" وهو موسيقى من عائلة ثرية ويعتبر أحد المساهمين في تأسيس "المعهد الرشيدي" أو "الرشيدية" نسبة إلى الأمير "محمد رشيد باي" صاحب قصر قبة النحاس بمنوبة. وبهذه الدار، انشدّت صليحة أكثر فأكثر إلى عالم الغناء، فكانت تلتقط ما يدور في مجالس بدرية من ملاحظات تهم الصوت والطبقات والألحان، ثم تغني بأعلى صوتها.. إلى أن تفطن إليها بن عمار وحاول التعرف إليها، إلّا أن بدرية لم تكن موافقة على ذلك لمجرد الغيرة من هذا الصوت الهادر الذي يسكن بيتها.

 

 

خرجت "صليحة" من منزل "بدرية" -بعد أن تعرفت إلى العديد من الوجوه الفنية مثل متعهد الحفلات "الباجي السرداحي" والموسيقى الليبي "البشير فحيمة"- إلى العمل في "الكافيشانطات" الشبيهة بالعلب الليلية وإحياء الحفلات الخاصة. وكانت تغني الأغاني البدوية المعروفة في ذلك الوقت أو الأغاني الشرقية.

دُعيت صليحة للمشاركة في حفل افتتاح مقر الإذاعة التونسية وكان ذلك حدثًا مفصليًا في حياتها، إذ تمت دعوتها للانضمام إلى الرشيدية بعد أن تأكد لشيوخها أن صوت صليحة هو صوت متفرد ونقيّ

وفي سنة 1938، دُعيت للمشاركة في حفل افتتاح مقر الإذاعة التونسية بشارع روما. وكان ذلك حدثًا مفصليًا في حياتها، إذ تمت دعوتها للانضمام إلى الرشيدية بعد أن تأكد لشيوخ هذه الجمعية التعليمية أن صوت صليحة هو صوت متفرد ونقيّ ومن الندرة، لأنه "يمتد على مساحة صوتية تفوق الديوانين من درجة اليكاه إلى درجة جواب جواب البوسلك"، حيث اعتبر الشيخ خميس الترنان وهو أحد أعمدة الرشيدية أن صوت صليحة هو صوت تونس قاطبة لقدرته العالية على غناء "البدوي" و"الحضري" كأحسن ما يكون.

 

صليحة
دخلت صليحة منازل التونسيين وذاع صيتها في العالم عبر المذياع فكان ذلك طريقها إلى قلوب الناس

 

  • صليحة والمدرسة الرشيدية

لم تكن الطريق إلى الرشيدية سالكة، لأن هذا المعهد كان مخصصًا لأبناء الحاضرة حيث انتبذت صليحة من قبل زميلاتها فلم يصنّفوها من الجميلات الأنيقات وخصوصًا شافية رشدي وفتحية خيري، واعتبرنها ريفية "آفاقية" لا ذوق لها، ترتدي "الملية الشمالية" وتضع وشمًا على جبينها. وحاولت المطربة شافية رشدي أكثر من مرة التأثير على رئيس الرشيدية من أجل إبعادها وهو ما آلمها كثيرًا وجعلها منكسرة، لكن إصرارها القوي على شق طريقها كمطربة لم يلن، فكانت تتدرب على الغناء صباحًا مساءً، فغنّت كل الأنماط: "الشعبي والعروبي بإيقاعاته الجبلية والفوندو والمونولوق والقصيد..".

انتبذت صليحة من قبل زميلاتها في الرشيدية الذي كان مخصصًا لأبناء الحاضرة، واعتبرنها ريفية لا ذوق لها، ترتدي "الملية الشمالية" وتضع وشمًا على جبينها

وشرع أساتذة المعهد الرشيدي على غرار خميس الترنان ومحمد التريكي ومصطفى صفر في إنجاز ألحان خاصة بصوت صليحة. فلحّن لها الترنان أجمل أغانيها وأشهرها: "خالي بدلني" و"ساق نجعك ساق" و"عرضوني زوز صبايا" و"آه يا خليلة" و"يا للي بعدك ضيع فكري" و"فراق غزالي" و"يا خيل سالم"..

 

 

وشاء أن تتحوّل صليحة بعد مكابدة وتحدٍ كبير وإصرار، إلى مطربة الرشيدية الأولى بل إلى مطربة تونس الأولى، فنجدها تعتلي المسارح الكبرى وتحيي الحفلات الرسمية في الأعياد والمناسبات ويمرر صوتها عبر الإذاعة، وتكتب حولها الصحافة، كما كانت قريبة من رموز الحركة الوطنية ولها مواقف واضحة تجاه الاستعمار الفرنسي.

"يا زين الصحراء وبهجتها" و"أم العوينة الزرقاء" و"يا لايمي على الزين" و"بخنوق" من بين أغاني صليحة الشهيرة التي مازالت تتردد إلى اليوم

دخلت صليحة منازل التونسيين وذاع صيتها في العالم عبر المذياع فكان ذلك طريقها إلى قلوب الناس فغنّت لهم بروح عالية الحساسية والصدقية، معطاءة.. ومن أغانيها الشهيرة التي مازالت تتردد إلى اليوم "فراق الحياة يذبل الروح" و"أوتاري وعودي" و"يا زين الصحراء وبهجتها" و"يا خدود التفاح" و"أم العوينة الزرقاء" و"تونس اليوم برات" و"يا لايمي على الزين" و"بخنوق"..

لقد كانت رحلة صليحة في عالم الغناء والثقافة في النصف الأول من القرن العشرين تشبه الشهاب الذي شقّ السماء لكنه توقف ليضيء العتمة وبقي عالقًا إلى اليوم، حيث لم تذهب صليحة في دروب الضغينة والتشفي ممن أساء إليها وهي في قمة شهرتها بل كانت تساعد كل من حولها بما أوتيت من محبة. لقد كانت تشبه نفسها وتشبه ريفها الذي تشبّعت بنقائه وجماله وصدقه، لقد بقيت وفية لقيمها الإنسانية.

 

صليحة
"لقد كانت صليحة تشبه نفسها وتشبه ريفها الذي تشبّعت بنقائه وجماله وصدقه"

 

رحلت صليحة ذات نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 1958 بعد معاناة مع المرض، وكانت آخر أغنية صدحت بها حنجرتها الذهبية في حفل المغرب العربي وهي تستند كرسيًا خشبيًا على ركح المسرح البلدي هي "مريض فاني".

فارقت الفنانة صليحة الحياة تاركة 63 أغنية منها 36 أغنية محفوظة بخزينة الإذاعة التونسية، بعد أن طبعت التاريخ الثقافي التونسي وأثّرت في الذائقة الفنية والثقافية التونسية

رحلت الفنانة الكبيرة صليحة تاركة 63 أغنية منها 36 أغنية محفوظة بخزينة الإذاعة التونسية أما بقية الأغاني فهي موزعة بين الأرشيف السمعي للرشيدية وجامعي الإسطوانات من الخواص داخل تونس وخارجها.

وبالرغم من قصر عمرها، فإن صليحة أثّرت في الذائقة الفنية والثقافية التونسية وطبعت التاريخ الثقافي التونسي وتحولت إلى نموذج للمرأة الصامدة والفنانة المثابرة.