23-أغسطس-2019

المطربة التونسية اليهودية نجمة عشرينيات القرن الماضي

تصدير: "حبيبة مسيكة هي شهيدة الحبّ والحريّة" (الرّوائي التونسي حسّونة المصباحي)


يطغى اسم المطربة التونسية حبيبة مسيكة (1903-1930) بقوة عند الخوض في التاريخ الاجتماعي والثقافي والغنائي اليهودي بتونس في النصف الأول من القرن العشرين، إذ تحضر كشخصية عامة دخلت كواليس السياسة منذ حداثتها إبان الحكم الباياتي لتونس عن طريق دوائر أمراء العائلة المالكة.

وكانت تربط مسيكة علاقات مع رجال المال والأعمال آنذاك الذين كانوا يتقربون إليها لفرط جمالها وتحررها اللافت، وقد كانت تتلقى الدعوات الرسمية لإحياء الحفلات في الخارج. ويسجلّ لها التاريخ بعض المواقف السياسية المنددة بالاحتلال الفرنسي لتونس ترجمت بعضها في أعمال مسرحية لم تعجب المستعمر لعل أشهرها مسرحية "شهداء الحرية" التي قدمتها بالعاصمة سنة 1928.

اقرأ/ي أيضًا: اليهود في الحياة السياسية التونسية.. حضور محتشم ومحاولات للتوظيف

بيانو مسيكة تحت الأضواء

وعاد الحديث، في الفترة الأخيرة، ليطفو من جديد عن الفنانة التونسية اليهودية بعد الظهور المفاجئ للبيانو الخاص بها ضمن معرض عاطفي ونوستالجي عنوانه "مغادرة بدون عودة" انتظم، في أفريل/نيسان 2019، بالمتحف التاريخي والأثري بتلّ أبيب عاصمة الكيان الصهيوني المحتل، وهو متحف يضمّ أغراض اليهود الذي غادروا الدول العربية في اتجاه دولة الكيان منذ خمسينيات القرن العشرين إلى اليوم.

ومثل هذا البيانو الخشبي لحبيبة مسيكة أيقونة المعرض الذي شهد إقبالًا كبيًرا حسب ما أوردت الصحف الإسرائيلية على غرار "هآرتس" التي خصصت حيزًا للحديث عن خشب البيانو ولونه البني والشمعدان الحديدي الذي يزيّنه، واعتبرته تحفة نادرة وجزءًا من ذاكرة الأمة اليهودية المليئة بالمآسي، كما تدعّي.

يطغى اسم المطربة التونسية حبيبة مسيكة (1903-1930) بقوة عند الخوض في التاريخ الاجتماعي والثقافي والغنائي اليهودي بتونس في النصف الأول من القرن العشرين

وذكرت الصحيفة بأن البيانو قدمته للمعرض عائلة راشيل توبيانا، وهي عائلة يهودية تونسية رحلت سنة 1952 إلى باريس ثم استقرت بداية السبعينيات بالكيان الصهيوني، وقد حملت معها هذا البيانو في حلها وترحالها.

ويعود تاريخ حصول هذه العائلة على البيانو إلى ثلاثينيات القرن الماضي حينما كانت تسكن في نفس عمارة سكن حبيبة مسيكة، وقد كانت تجمعهما صداقة وثيقة. وإثر اندلاع النيران في شقة المطربة في فيفري/شباط 1930 الذي أودى بحياتها، حاولت الجارة راشيل إنقاذ جارتها، التي حزنت هي وابنتها غابريالا، التي كانت تقرب حبيبة في السن، لفراقها المفاجئ. وطلبت راشيل من عائلة مسيكة أن تمنحها البيانو تذكارًا عن صديقتها الراحلة، وكان لها ذلك وظلت تحمله معها لأنه يروي قصة قريبة من قلبها وفي نفس الوقت هو جزء من تاريخ فنانة تونسية ملأت الدنيا وشغلت الناس.

هكذا نشأت المطربة الجميلة

وُلدت حبيبة مسيكة سنة 1903 بالعاصمة التونسية وهي أصيلة قرية تستور الموريسكية وتنحدر من عائلة يهودية أندلسية، وكانت شديدة الجمال بعينين خضراوين وشعر أشقر وامتلائها المتناسق الأخاذ، وكانت تنشر الفتنة بجمالها أينما حلت.

ومنذ مراهقتها، انتبهت خالتها ليلى سفاز (1874-1944) لصوتها الجميل فعلمتها الغناء والعزف على البيانو، وكانت الخالة صاحبة صوت غنائي ممتاز ولها شهرة واسعة بباريس وبرلين، وهي من دربت ابنة شقيقتها على الغناء في المسارح والمطاعم الشهيرة، لتسافر إلى أوروبا وتلاقي المشاهير.

وُلدت حبيبة مسيكة بالعاصمة التونسية وهي أصيلة قرية تستور الموريسكية منحدرة من عائلة يهودية أندلسية

والتقت حبيبة أو مارغريت مسيكة، كما يحلو للتونسيين تسميتها في باريس أواسط عشرينيات القرن الماضي، بالرسام الأسباني الشهير بابلو بيكاسو ليحصل الانبهار والافتتان المتبادل بين الرسام العالمي والفنانة التونسية الشابة صاحبة الجمال الأخّاذ والصوت الرخيم. وقد وعد بيكاسو بزيارة تونس ووعدته حبيبة بزيارة أسبانيا لكن الموت أوقف بوادر هذه العلاقة ولم يمهلهما تنفيذ وعودهما.

اقرأ/ي أيضًا: تجارة المخطوطات العبرية.. تاريخ يهود تونس المهرّب

العاشق يقتل "حبيبة الكل"

 توفيت "حبيبة الكل" يوم 20 فيفري/شباط 1930 بطريقة دراميتيكية اهتزت لها تونس بأسرها. كان يوم موتها يومًا باردًا عندما عادت فجرًا لشقتها بشارع "ألفريد أوكران كلاي" بحيّ "لافيات" بالعاصمة تونس وهي متعبة من السّهر، فيما كان صديقها تاجر المجوهرات الشهير اليهودي التونسي إلياهو ميموني، والذي ينحدر هو الآخر من قرية تستور الموريسكية، يقف بمعطفه الأسود الطويل بانتظارها أمام بوابة العمارة يدخّن بعصبيّة وتبدو عليه أمارات الغضب الشديد.

دار نقاش حاد بينهما أنهته حبيبة بقولها إنها لا تحبّه و لا شيء يربطهما وأنه حان الوقت لانفصالهما إلى الأبد، لم يحتمل قلب إلياهو الغيور قسوة كلام حبيبته وهو الذي أغدق عليها بلا حساب وساهم في شهرتها في الوسط الغنائي التونسي، وبنى لها قصرًا صغيرًا في تستور مازال قائمًا الى اليوم وتملكه الدولة التونسية وحولته الى دار للثقافة ووضعت على بوابته رخامة تروي مسيرة حبيبة.

توفيت حبيبة مسيكة في أوج نجوميتها في عمر 27 سنة حرقًا على يد صديقها تاجر المجوهرات اليهودي التونسي إلياهو ميموني بسبب غيرته عليها وكانت جنازتها ضخمة حضرها أهل السياسة والفن والمال 

عاد ميموني إلى سيارته غاضبًا وحمل قاروة بنزين وعاد إلى حببية، وقد كان يملك مفتاح الشقة ليدخل بهدوء ليجدها في سريرها وقد نامت من فرط التعب والسهر. سكب البنزين في غرفة النوم وقدح النار لتموت حبيبته حرقًا، فيما غادر نحو فندق " بينيارون " أين حاول الانتحار إلا أن عمال الفندق أنقذوه من الموت المحقق.

وكانت جنازة حبيبة مسيكة ضخمة حضرها أهل السياسة والفن والمال وعامة الناس الذين كانوا يتابعون فنها عبر الإذاعة والمسرح. ودُفنت في مقبرة اليهود ببورجل المعروفة الآن بمونبليزير بالعاصمة، وظل قبرها ممنوعًا من الزيارة لعقود ولم يسمح بتصويره إلا بعد الثورة. وأوعز المؤرخون ذلك إلى أن يهود تونس في تلك الحقبة يُعتبرون مجتمعًا صغيرًا محافظًا داخل المجتمع التونسي، وكانت أوساط رجال الدين اليهود في حالة غضب من "مارغريت" التي حولت اسمها إلى "حبيبة" وتحديدًا من طريقة عيشها في عالم الفن والسياسة بما يتنافى مع التقاليد اليهودية.

هل حان وقت إنشاء متحف خاص بالتاريخ اليهودي بتونس؟

تظل حبيبة مسيكة شخصية جدلية يدور حولها الكثير من النقاش ومازالت حادثة حرقها يشوبها الغموض الى اليوم حتى أن نقاشًا اندلع على أعمدة الصحف الإسرائيلية بهذا الخصوص بين الأجيال الثلاثة للعائلات اليهودية التونسية التي هاجرت إلى إسرائيل، وقد دافعت أولكا كارب، ابنة فيليكس ميموني، عن جدها إلياهو ميموني محاولة تبييض صورته وقصة حبه لحبيبة.

تظل بذلك المطربة التونسية مادة خصبة للإبداع والبحث، وقد تناولها الشريط السينمائي "رقصة النار" للمخرجة التونسية سلمى بكار سنة 1995 وشاركها في صياغة السيناريو الكاتب والصحفي سمير العيادي ونفذ موسيقاه الرائعة الفنان الكبير حمادي بن عثمان، ولكن لم نرى أعمالًا أخرى أو كتابات بحثية حولها.

ظهور بيانو حبيبة مسيكة ضمن معرض بتل أبيب يضم أغراض اليهود المشهورين من ذوي الأصول العربية يجعلنا نقلب مجددًا في موضوع قديم وهي الدعوات المتكررة لإنشاء المتحف الخاص بالتاريخ اليهودي بتونس

وظهور بيانو الفنانة التونسية اليهودية ضمن معرض بتل أبيب يضم أغراض اليهود المشهورين من ذوي الأصول العربية يجعلنا نقلب مجددًا في موضوع قديم وهي الدعوات المتكررة لإنشاء المتحف الخاص بالتاريخ اليهودي بتونس بما سيحد من تسرب التحف والآثار التي تنهب وتباع في المزادات العلنية الأوروبية لينتفع بها جامعو القطع الفنية وأصحاب المتاحف الخاصة ودولة الاحتلال الصهيوني.

وربما حان الوقت اليوم، أكثر من أي وقت مضى، كي تلتفت الدولة التونسية لهذا الملف بعيدًا عن الحساسيات السياسية والدينية حماية لجزء من التاريخ الحضاري والثقافي للبلاد، في مواجهة ثقافة السطو والاستيلاء الصهيوني على المدخرات الثقافية والتراثية والتاريخية للبلدان العربية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مقالة في"طبع المزموم".. أو عندما تخوض الموسيقى معركة التحرر

فيلم "بابا هادي": حياة عرّاب الموسيقى التونسية كما رأتها حفيدته