إنها السنوات الأخيرة من القرن الـ17 في تونس، الزمن يبدو خارج الزمن والتونسيون ينتظرون بأنات ورهبة انقشاع حالة الانخطاف السياسي التي تخيم تحت سماء الإيالة العثمانية المطلة على البحر الأبيض المتوسط. لقد كانت سنواتٍ جامحةً وذات نسغ دراميتيكي أليم يناجي المجهول. كان حكم مراد باي الثالث حينها يشبه البرق في كل شيء، حكم غريب دام 5 سنوات من 1698 م إلى 1702 م غير مرتبط بأي حدس إنساني أو عقلاني. لقد كان الحاكم مهووسًا بالانتقام من عمّه رمضان باي الذي سجنه وفقأ عينيه وشرّده إلى أعالي جبال القيروان.
مراد باي الثالث الشهير لدى عامة الناس في ذلك الوقت بـ"بوبالة" نسبة إلى سيفه التركي الصنع والذي كان يستعمله في عمليات الإعدام التي كان يشرف عليها بنفسه، حوّل حاضرة تونس، التي دخلها غازيًا قادمًا من مدينة القيروان بعد أن تمكّن من قيادة مجموعة من المتمردين ناصروه ذات غضب شعبي بجبل وسلات، إلى منصة تطير منها الرؤوس وتتحطم فوقها النفوس.
وبعد أن أزاح عمّه من الحكم استقرّ بقصر باردو وبادر بالتخطيط إلى تحصين القصر وحماية مداخل مدينة تونس وأسوارها العالية المهيبة وتخومها وأريافها المجاورة. فكانت مرحلة هامة لبناء الأبراج والرباطات والقشلات. وهي كلها للدفاع عن الحكم.
ما إن انتهت التخطيطات اللازمة لتركيز جملة المنشآت الدفاعية الجديدة حتى تخلى "الباب العالي" بالآستانة (إسطنبول حاليًا) عن مراد باي الثالث، وفسح الطريق واسعًا لـ"إبراهيم الشريف" الذي قتل بوبالة شر قتلة وأباد كل العائلة المرادية وتولى الحكم من بعده. فذهب إلى تدوين سطور جديدة من التاريخ السياسي التونسي وهي الفترة التي يعرفها المؤرخون بالمنطقة الفاصلة بين حكم المراديين والحسينيين.
تاريخيًا عُدّت هضبة الرابطة مكانًا استراتيجيًا في تأمين مدينة تونس فتم تركيز مجموعة من التحصينات الدفاعية بها اتخذت شكل هلال وضمّت 3 أبراج وهي برج الرابطة وبرج زاورة وبرج فليفل
الباي الجديد، إبراهيم الشريف، الذي حكم من 1702 م إلى 1705 م واصل سياسة بعث المنشآت الدفاعية بحثًا عن استتباب الأمن وتوقيًا من التمرد والأخطار الخارجية وخصوصًا من دايات الجزائر. فانطلقت الأشغال داخل مدينة تونس العتيقة من أجل إنشاء مجموعة من القشلات (القشلة كلمة تركية وكان العثمانيون الأتراك ينطقونها "قشلاك" وتعني العربية الفصحى الثكنة) ومنها نذكر قشلة سوق السكاجين وقشلة سوق العطارين التي تحولت سنة 2008 إلى مقر للمكتبة الوطنية التونسية وقشلة فندق الزبيب بسوق الزنايدية.. وأيضًا في المحيط القريب من المدينة وضواحيها التي تمتد إلى حدود مدينتي باجة وسوق الأربعاء (جندوبة حاليًا) حيث توجد الأطيان والسهول الخصبة والبساتين والحقول المملوكة من قبل الأعيان وأصحاب الثروة وأمراء العائلة المالكة.. وخاصة تأمين الطريق الرابطة بين قصر باردو والقصبة.
وكانت هضبة الرابطة مُطلة من جهة غرب مدينة تونس العتيقة على سبخة سيدي حسين السيجومي وحي الملاسين، وهو من أقدم الأحياء الهامشية المتاخمة لمدينة تونس، وشرقًا تطل على أعالي الجبل الأحمر والعمران، وليس بعيدًا عن هضبة مجاورة وهي "البلفدير" والقريبة بشكل واضح من باب سعدون، وهو أحد أقدم وأشهر أبواب المدينة والشاهد على أحداث هامة من تاريخ تونس.
"برج فليفل"، الذي يوجد الآن داخل القرية الصحية بالرابطة، اختار مكانه مراد باي بنفسه، مؤسس المملكة المرادية التي حكمت تونس من 1631م إلى 1702م، وتابع بناءه من بعده ابنه "محمد الأول" المعروف باسم "حمودة باشا المرادي
وعُدّت هضبة الرابطة مكانًا استراتيجيًا لا غنًى عنه في تأمين المدينة ومسالك تنقل الحكام. وقد زارها العديد من البايات والوزراء وقادة العسكر واعتبروها جدارهم الحامي من كل المخاطر.
لذلك نجد بها مجموعة من التحصينات الدفاعية الأساسية التي تتخذ لها شكل هلال وتتكون من ثلاثة أبراج وهي: "برج الرابطة" الذي تحول إلى سجن مدني وجزء من أرضه تحول إلى كلية الطب الجديدة، و"برج زوارة" وهو قائم وثابت إلى اليوم وتحوّل مع الأيام إلى مكان مهجور ومكب للنفايات، و"برج فليفل" الذي تخير مكانه بكل دقة لقربه من القصبة وإشرافه مباشرة على حي الملاسين وحي هلال.
"برج فليفل"، الذي يوجد الآن داخل القرية الصحية بالرابطة وبالقرب من مستشفى وسيلة بورقيبة، اختار مكانه مراد باي بنفسه، مؤسس المملكة المرادية التي حكمت تونس من 1631م إلى 1702م، وتابع بناءه من بعده ابنه "محمد الأول" المعروف باسم "حمودة باشا المرادي".
يعد برج فليفل ذا شكل مختلف عن بقية الأبراج الأخرى القريبة والبعيدة، فقد كان مراد باي متأثرًا أساسًا بالعمارة العسكرية العثمانية والكورسيكية فتم جلب بنّائين من كورسيكا وذلك لمزيد تمتين البرج من الاعتداءات المباغتة
ويعد برج فليفل ذا شكل مختلف عن بقية الأبراج الأخرى القريبة والبعيدة، فقد كان مراد باي متأثرًا أساسًا بالعمارة العسكرية العثمانية والكورسيكية خاصة إذا علمنا أن العائلة المرادية هي من أصول كورسيكية أسلمت في الأثناء.
فتم جلب بنّائين من كورسيكا وذلك لمزيد تمتين البرج من الاعتداءات المباغتة، وتم بناؤه بالطين المرصوص المعروف بـ"الطابية" (وهو طين يخلط بالقش المطحون والرماد والصوان المدكوك ثم يقولب حسب ما يطلبه البنّاء).
ورفعت جدرانه عاليًا مع ميلان واضح في الأسفل حتى يصعب التسلّق، أما عرض الجدران فيتجاوز العشرة أمتار في بعض الزوايا. وهو أسلوب دفاعي معروف في بلدان وممالك البحر الأبيض المتوسط. وفي أعلى الأسوار توجد فتحات موجهة إلى جميع الاتجاهات لا تزال موجودة إلى اليوم وهي مخصصة لوضع المدافع وتبادل إطلاق النار مع الغزاة.
على الرغم من تصنيف "برج فليفل"، مبنًى تراثيًا منذ سنة 1999 وتم تعهيد رعاية للمعهد الوطني للتراث، إلاّ أنه لم يلقَ الرعاية الدورية وتم الاعتداء على محيطه بإنشاء محلات عشوائية كما تحوّل أسفل البرج إلى مصبّ للفضلات
يوجد داخل برج فليفل صحن مركزي مبلط بالحجر وبئر وصهريج وملاحق لسكنى الجيش وكبار الضباط، أما بوابته فهي من الخشب المدعم بالصواري وهي في اتجاه الشرق.
هذا المبنى التراثي الضخم والجميل صنفته الدولة التونسية منذ 31 أوت/أغسطس 1999 وهو تحت رعاية "المعهد الوطني للتراث" (أهم مؤسسة ترعى التراث في تونس وهي تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية) وقامت بصيانته، لكنه منذ ذلك الوقت لم يلقَ الرعاية الدورية المطلوبة.
ونجد أنّ هذا المبنى لا يزال آهلًا بالسكان إلى اليوم، كما أنه تم الاعتداء على محيطه بإنشاء جملة من المحلات التجارية العشوائية، كما أنّ أسفل البرج تحول إلى مصبّ للفضلات، والأشجار الغابية المجاورة له تحجبه عن العيان، وفي الليل لا إضاءة تبرزه.
برج فليفل شهد طيلة قرون طويلة أحداثًا عديدة إذ صد محاولات تمرد الانكشارية داخل مدينة تونس وشهد حروب الغزاة القادمين من الغرب، كما كانت الخيالة المرابطة داخله تشارك يوميًا في تأمين مواكب العائلة المالكة
برج فليفل شهد طيلة قرون طويلة أحداثًا عديدة إذ صد محاولات تمرد الانكشارية داخل مدينة تونس وشهد حروب الغزاة القادمين من الغرب (دايات الجزائر)، كما كانت الخيالة المرابطة داخله تشارك يوميًا في تأمين مواكب العائلة المالكة وهي تتوجه من قصور منوبة وباردو إلى القصبة والحاضرة في الليل والنهار.
هذا المعلم في علاقة بباقي المعالم الأخرى الموجودة بهضبة الرابطة التي حولتها دولة الاستقلال إلى قرية صحية تضم مستشفيات ومدارس، وأيضًا في علاقة عضوية بالأبراج الأخرى القريبة مثل برج أحمد الرايس بالزلاج والبرج الجديد، وذلك لتكامل الأدوار مما يشكل واجهة دفاعية لمدينة تونس العتيقة وضواحيها ومقرات الحكم فيها.
برج فليفل معلم دفاعي مهدد بالزوال والاندثار وسط صمت الجهات المسؤولة، وبذلك تخسر تونس واحدًا من أهم أبراج هضبة الرابطة التاريخية
برج فليفل معلم دفاعي مهدد بالزوال والاندثار وسط صمت الجهات المسؤولة، وبذلك تخسر تونس واحدًا من أهم أبراج هضبة الرابطة التاريخية، إذ كان من الأجدر بعث مسلك سياحي ثقافي داخل القرية الصحية يقدم المعالم الثلاثة ويروي تاريخها المتشابك. برج فليفل صرخة صامدة وقصة شاهدة تنتظر سامعًا من الجهات الرسمية المعنية بالتراث والثقافة.