عقد حازم العزم على المشاركة في وقفة احتجاجية يوم السبت وسط العاصمة تنديدًا بالتضييقات الأمنية على الحريات الفردية، وكان متحمّسًا للالتحاق برفاقه حوالي العاشرة صباحًا، عدّل ساعته على الساعة الخامسة، حتّى يقوم مبكرًا فيغادر المنزل قبل ذروة حركة المرور الصباحية، قام متثاقلًا بعد أن أقضّ مضجعه طوال الليل ناموس لا يهجع وأصوات صخب لا تكف ولا ترتدع، لمّا همّ بفتح الباب، نادته زوجته في رجاء تُذكره بإحضار الخبز والزيت والسكر وبعض الحاجيات الأخرى التي سجلتها له بعناية في ورقة وضعتها على مكتبه، مضى مهرولًا إلى الفرن فقضّى ساعة قبل أن ينال بغيته، وقد عاودته أوجاع في ركبته بسبب الوقوف في طابور طويل متعثر متوتر، الساعة السابعة توجه إلى "عطّار الحومة" سأله عن الزيت فأظهر البائع عبوسًا وتجهمًا، وقبل أن يتمادى في الشكوى من معضلة التزود في سخط وتزيّد، تركه "حازم" وأسرع إلى مغازة غير بعيدة، وظلّ يتنقل من محلّ إلى أخر، هذا يتعمد إخفاء البضاعة ليُكرم بها حرفاءه القارين، وذاك يسحبه إلى الداخل حالفًا متبرّئًا من الاحتكار كاشفًا شحّ السلع وندرة المواد الغذائية، ظلّ على ذاك الحال ساعتين أو يزيد إلى أن وجد من يجود عليه بالأدنى حتى لا يجوع ولا يأسى.
باتت الهموم اليومية وتوفير الحاجيات الضرورية أعدل الأشياء توزيعًا بين المفقرين والمنتمين إلى الطبقة الوسطى في تونس
أدرك حازم الحادية عشرة ولم يبلغ الطريق السريعة إلى وسط العاصمة، فقد تعطلت الحركة، أخرج رأسه من النافذة فرأى طابورًا لا صبر لمثله عليه فقد انحرف جلّ السواق إلى محطة الوقود للتزود بعد أن سرى خبر حول إمكانية نفاذ مادّة البنزين، أدار المقود إلى اليسار صعد إلى الطريق المعاكسة وعاد إلى بيته وفي قلبه شيء من التطلع إلى الحرية خنقته الحاجة الماديّة.
وفيما كان ينخره القلق ويعصر قلبه الأسف يفكر في أكذوبة لتبرير خذلانه الرفاق، رنّ هاتفه وقرأ رسائل وردت إليه متزامنة، "عفوًا حازم لم أتمكن من الحضور، لقد دُعيت إلى المدرسة لأسوي غياب ابني، لكُم مني كلّ الدعم..، رفيقي حازم لا تنتظرني أنا في المستشفى زوجتي منهارة قد بلغها نبأ رحيل أخيها إلى إيطاليا مع عدد من الحارقين ولا علم لها بمصيره، أشدُّ على أياديكم.. عفوًا رفيقي وجدت سيارتي مهشمة هكذا فعل بها رجل تشاجر مع زوجته فصبّ جام غضبه عليها، أقصد سيارتي، التي كانت رابضة أمام بيته، بلّغ الأحرار مساندتي المطلقة..".
هذه الحكاية ليست مجرّد حادثة فريدة استثنائيّة إنّما هي واقعة تلخّص المحن المتواترة التي يواجهها المواطن التونسي أو يعاني بعضًا منها كلّ يوم تقريبًا، فهو يتنقل من وحل إلى وحل حيثما حلّ، وضعيّة لخّصها المثل الشعبي المشهور بعبارة "هز ساق توحل الأخرى".
- الطبقة الوسطى.. من وجع المعاينة إلى هول المعاناة
هذه التعطيلات والمطبّات التي عطّلت حازم ورفاقه عن الالتحاق بوقفة الدفاع عن الحريّات، جعلت جلّ التونسيين في دوّامة من الهموم اليومية التي لا تكاد تنتهي، هؤلاء الرفاق ينتمون وفق بعض المؤشرات إلى الطبقة الوسطى في تونس التي كانت رهاناتها ثقافيّة وفكريّة وفنيّة وإبداعيّة، وكانت الطاقة الذهنية والحجاجية لهذه الفئة متجهة إلى النقاشات السياسية والسجالات الإيديولوجية والمقابسات الفكريّة والخلافات الذوقية والجماليّة، وكان الحديث عن الخصاصة والعوز يصدر من برج المعاينة. وهي منزلة تضمن لصاحبها حدّا أدنى من الرفاهية الماديّة والاجتماعية التي تتيح للناظر التنديد والاحتجاج نصرة لطيف من أبناء الوطن في الأرياف والمناطق الداخلية والأحواز المهمشة التي ظلّت منذ عقود تواجه معضلات الافتقاد إلى الحاجيات الأساسية من ماء صالح للشرب وصرف صحّي وكهرباء ومرافق عمومية ومستوصفات وثنايا آمنة. ها قد باتت تلك الهموم الدنيا أعدل الأشياء توزيعًا بين المفقرين والمنتمين إلى الطبقة الوسطى.
حينما تنشغل الطبقة الوسطى بالمطالب اليومية بحثًا عن الحاجيات الغذائيّة البسيطة يغدو الحديث عن الحريات والديمقراطية بابًا من أبواب الترف وفق البعض
حينما تنشغل هذه الطبقة الوسطى بالمطالب اليومية بحثًا عن الحاجيات الغذائيّة البسيطة يغدو الحديث عن الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان والحريات الفردية والقيم عامّة بابًا من أبواب الترف والرفاهية ويمكن أن يُنعت الخائض في هذه المشاغل بكونه حالمًا واهمًا "برجوازيًا"، وفق البعض، وقد يتحوّل في رأي المحتاجين المقهورين إلى شخص مستفز سخيف جاهل بمقتضيات المقام، مقام الجوع والخوف والفوضى وضبابيّة المشهد حاضرًا وأفقًا.
- ارتفاع أسعار المواد الغذائية واحتجابها..القوس المفتوح
لتعديد نماذج من المواد الغذائية المفقودة في الأسواق أو التي اشتعلت من غلائها الرؤوس غضبًا يفتح المتابِعُ قوسا يذكر فيه عنصرًا أو عنصرين ويغلقه، ثم سرعان ما يفتحه من جديد ليضيف مادّة ثالثة ورابعة، وحينما تتواتر الأمثلة يضطر إلى أن يترك القوس مفتوحًا، موقفٌ يشبه مشهدًا كوميديًّا من فلم ليلة سقوط بغداد، من أبطاله الممثل المصري حسن حسني كان الطلبة يرفعون لافتة يحتجون من خلالها على التدخل الإمبريالي في الدول العربية والإسلامية، فيكتبون أفغانستان أولا ثمّ يضطرون لاحقًا إلى فتح القوس وإضافة العراق..وحينما تتوالى التهديدات لتشمل سوريا ودولًا عربية أخرى يطلب الناظر من ممثلي اتحاد الطلبة أن يتركوا القوس مفتوحًا.
حينما أصبح الحصول على الخبز والفرينة والسميد مطلبًا عزيزًا بلغ التونسيون منتهى القلق والذعر عند أول رجة غذائيّة، لأنّ هذه المادة ثقيلة على البطون ساكنة في العقل السياسي التونسي
أزمة شح المواد الغذائيّة واحتجابها لم تخضع إلى التدرج ولم تمارس مع التونسيين سياسة التطبيع، فحينما أصبح الحصول على الخبز والفرينة والسميد مطلبًا عزيزًا بلغ التونسيون منتهى القلق والذعر عند أول رجة غذائيّة، لأنّ هذه المادّة ثقيلة على البطون ساكنة في العقل السياسي التونسيّ، فهي فيزيولوجيًا الضامن الأمثل لبلوغ حالة شبع البطون بأبخس الأثمان، وهي ذهنيًا مشحونة برمزية تاريخية ثورية دموية خطيرة تدفعنا دفعًا إلى تذكّر أحداث انتفاضة جانفي 1984.
أبدى التونسيون تفهمًا لهذا النقص في مادّة الخبز، وقد بدت شُبهة الاحتكار في البداية موضوعية مقبولة بالنسبة إلى الغالبية لا سيما أنصار رئيس الجمهورية قيس سعيّد.
بعد أسابيع بدأ داء النفاذ والنقص يصيب جلّ المواد من زيت مدعم وسكّر انتهاء إلى القهوة وغيرها من الحاجيات الأساسيّة، وها أنّ الألبان تنذر بالهجر والتمنع بعد سريان خبر التقلص في إنتاج الحليب، وممّا ضاعف الشعور بالقلق تراجع سرديّة الاحتكار وتضاربها مع اعترافات من بعض ممثلي الحكومة تقرّ بأزمة في الإنتاج والتزود، فقد أرجعت فضيلة الرابحي، وزيرة التجارة، غلاء سعر الدواجن إلى ارتفاع تكلفة الأعلاف، وأكدت في تصريح للقناة الوطنية (عمومية) "نفوق كمّ هائل من طيور الدجاج بسبب الارتفاع القياسي لدرجات الحرارة في شهر أوت/ أغسطس 2022". ينطبق هذا على مادّة السكّر وغيرها من العناصر المفقودة أو المنقوصة أو تلك التي دخلت بابَ طاعة أحكام السوق وإكراهات قانون العرض والطلب.
تراجعت سرديّة الاحتكار "الرسمية" فيما يخص نقص عديد المواد من الأسواق التونسيةوتضاربت مع اعترافات من بعض ممثلي الحكومة تقرّ بأزمة في الإنتاج والتزود وغير ذلك
- لولا كثرة الباكين حولي..
ما يجعل التونسي يشعر بالاختناق والحصار هو غياب البدائل فقد هجر اللحوم الحمراء والأسماك إلى الدواجن، فإذا بها تترفع سعرًا وتتدنى جودة، وحينما أقنع الآباءُ والأمهات أنفسهم وبنيهم بالقيمة الغذائيّة للبيض والخضر، فاحتكموا إلى التناوب بين العجة والشكشوكة أصابت البيض والطماطم والبصل والفلفل وغيرها من الخضر الصيفيّة جرثومة التضخم والغلاء ممّا اضطرّ وزارة التجارة إلى التدخل للحدّ من الارتفاع الجنوني للأسعار، لكن السقف الذي وضعته ظلّ عاليًا بالنسبة إلى المستهلك الذي أتى سوق الحشائش لاجئًا من هول ما عاناه من أروقة اللحوم، فخاب مسعاه، ولسان حاله يقول في وغْر أمام تطاول أسعار الخضر "رضينا بالهم والهم ما رضاش بينا" حتّى "الكركاس"، يا ناس!، أي جناح الدجاج وعنقه وجلده بعد أن كان يُرمى في المزابل أو يقدم مجانًا لمربي القطط والكلاب بات سعره للآدميين بين 2 و4 دنانير للكغ الواحد.
من يستطيع أن يتعمّق في فكرة ذكية أو يلتذ بنغمة شجية أو ينتصر لقيمة إنسانية، وهو في حراك دائم "يشهق ما يلحق" يتخبّط في أسفل هرم الاحتياجات كما حدّدها في النصف الأول من القرن العشرين العالم الأمريكي أبراهام ماسلو ودوّنها لاحقًا مفصّلة في كتابة "الدافع والشخصيّة" ، وعدّلها نسبيًا بعض الباحثين بعده وأجمعوا على تسميتها الحاجيات الفيزيولوجية التي تكاد تقتصر على التنفس والأكل والمشرب والنوم.
- "ما ناقص المشنوق كان ماكلة الحلوى"
حينما تُحدّث التونسي في شأن فنّي جمالي وهو غارق في الأوحال الماديّة والصحيّة والأمنيّة يردّ عليك في حسرة يخالطها الامتعاض "ما ناقص المشنوق كان ماكلة الحلوى".
التونسي مشنوق، بحبال القروض والديون وتراجع الشعور بالأمن على الأجساد والممتلكات والأبناء والأسرة، رأسه في غليان دائم يخشى على ابنته وزوجته من التحرّش في المحطات الخالية المظلمة وفي الحافلات المكتظة، ويصيبه الهلع حين يتخيّل ابنه أمام سيارة مجنونة تقود مراهقًا بلا رخصة سياقة، (عفوًا لم يتسرب إلى كلامنا خطأ في الإسناد والإعراب نعم هي تقوده فعلًا)، ويرتاع هذا الأب من قاطع طريق يمكن أن يقصف رأسه من أجل سيجارة، كيف لا تخامر ذهنه هذه الهواجس في بلد تخطّى فيها عدد الجرائم الخطيرة يوميًا الخمسة والعشرين فيها ما يرقى إلى مرتبة الفضاعة والاستعراض والتشفيّ والتعذيب قبل إزهاق الروح، كيف لا يصيبه الرعب ونشرة الحماية المدنية تعلن في كلّ ساعة عن عشرات عمليات التدخل وعدد من القتلى كل 24 ساعة يتخطّى أحيانًا عدد الشهداء في غزة والأقصى عندما يتجدد العدوان على الفلسطينيين.
هذه الجرائم فرضت على التونسي الإفراط في الحذر، وتغيير نمط عيشه، عشرات الأقفال المتينة وأطنان من الأبواب والنوافذ الحديدية ومنبهات، كاميراوت وكلاب حراسة وتحكم في رغبات الأطفال ودفعهم دفعًا إلى ممارسة الرياضات القتالية عوضًا عن الرياضات الجماعية.
لم تعد السلطة في حاجة إلى ممارسة سياسة التعتيم والإلهاء عن الهموم السياسيّة، لقد نابت عن ذلك الأزمة الغذائيّة، لا وقت للاحتجاج، ها قد تزايد الوافدون على من يسمون أنفسهم "خُبزيست"
هذه التغييرات في نمط الأكل والذوق والسلوك لم تكن تلقائيّة طوعيّة إنما هي سليلة إكراهات اقتصاديّة وماديّة وأمنية، لم تعد السلطة في حاجة إلى ممارسة سياسة التعتيم والإلهاء عن الهموم السياسيّة، لقد نابت عن ذلك الأزمة الغذائيّة، لا وقت للاحتجاج ولا طاقة عليه، ها قد تزايد الوافدون على من يسمون أنفسهم "خُبزيست" هؤلاء الذين يقتصر اجتهادهم وجهادهم على تحصيل لقمة العيش.
يقول الأديب السوري سعد الله ونوس في مشهد من مسرحيته مغامرة رأس المملوك جابر على ألسنة بعض الشخصيات:
* أصوات: الخبز، جاء الخبز، دوري أنا، أخيرًا بعد هذا الانتظار
( ينهضون جميعًا باستثناء الرجل الرابع الذي يتابعهم بعينين حزينتين يتدافعون أمام شباك الفرن في هياج وتعجّل)
* صوت الفرّان: لمن الدور؟
* المرأة الأولى: أولادي وحدهم في البيت منذ الصباح
* الرجل الثاني: وراءنا جميعًا أهل ينتظرون في البيت جئتُ قبل الكلّ.
* ...
* الرجل الثالث: (للرابع) انهض وخذ دورك وتحصّن في بيتك لن تُصلح العالم على كلّ حال
* ...
* الرجل الرابع: (وهو يمضي) وحقّ الله ليس هذا طريق الأمان.
- من الصدام العمودي إلى الصراع الأفقي
لا يمكن الارتياح إلى اعتبار المحنة الغذائيّة والأمنيّة الخانقة قد تمثل الدافع الأوحد لإعراض جزء من التونسيين عن الشأن السياسيّ وكفرهم بشعارات الحريّة والديمقراطيّة والعمل الحزبي، فلطالما كان الفقر محرّضًا على الاحتجاجات والانتفاضات، ثمّة إذًا أسباب أخرى تراكمت على امتداد أكثر من عقد عنوانها الأدق والأوضح الإحساس بالخيبة والشعور باللاجدوى، والزهد في البشر. يقول المسعدي على لسان بطل حدث أبو هريرة قال: " إنّ ذلك لهوَ القنوط الأشقى، أن تُغري عِشرةُ الجماعة بظاهر البركة والطهر والكثرة، فتنكشف شرّا ونجاسة وعقما وشقاوة وحِدّة".
هذه المقاربة تؤكّدها تواصل نسبة تشاؤم التونسيين وفق الأرقام التي تقدمها مؤسسات سبر الآراء، تشاؤم يمكن نعته بحالة الاكتئاب العام ومن علاماته تزايد علامات التوتر، غير أنّ هذا التوتر لم يعد عموديًا على النحو الذي شاهدناه قُبيل الثورة وبعدها حينما كانت الساحات لا تكفّ عن رفع شعار الصدام مع النظام.
الصدام هذه الأيام اتخذ منحى أفقيًا مع الجيران والزملاء في العمل والتاجر والفران وبائع الخضر وسائق الحافلة العمومية وكل من تربطهم علاقات تواصل يومية، طاقة النقد والسباب والاتهام التي كانت موجهة إلى البرلمان والنهضة وشركائها في الحكم بدأت شيئًا فشيئًا تتراجع وتنحو منحى أفقًيا، يميل أحيانًا إلى الأعلى من خلال بداية القلق بسبب بعض اختيارات رئاسة حكومة نجلاء بودن وعدد من وزرائها.