15-يوليو-2024
المقر القديم لبورصة الشغل بتونس

انطلقت أشغال بناء مقر "بورصة الشغل" قرب تونس البحرية نهاية سنة 1950 لتتواصل إلى حدود سنة 1955

 

مع نهاية الحرب العالمية الثانية في سنة 1945، جلس الحلفاء المنتصرون حول كومة الدمار العارمة التي خلفتها الحرب الكونية، يحدوهم الشعور بالعظمة، يشربون الأنخاب في انتشاء ويجمعون من حولهم كيمياء شعورية وكيانية لم يتعودوا عليها من قبل. إنها حالة النصر التي يتوحّد فيها الانفعال بالتفكير ويتقطّر منها الحلم بوضع أفضل.

كانت فرنسا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، تشجّع المهندسين المعماريين الشبان المتخرجين لتوهم من كليات ومدارس الهندسة والتعمير، على التوجه لتونس وتنفيذ مشاريع تخرجهم

نعم، لقد جلسوا إلى بعضهم البعض من أجل ترتيب شؤون العالم من جديد والقيام بما لم يستطع الزمن نفسه فعله في اتجاه تغييره إلى الأبد. فكانت الحركة والعمق يتجهان صعودًا في اتجاه العظمة.. هكذا كانوا يعتقدون. وعادت فرنسا لوجهها الاستعماري القديم ملتفتة مجددًا لمستعمراتها -التي كادت تفقدها- بأكثر طموح وشراسة هادئة تستنزف رحيق ثروات الشعوب التي لم تستوعب بعد معنى الحرب ولم تُشفَ من صدى الرصاص ودوي القنابل.. وراحت تنسج حولها بيارق مستقبلها ونهضتها القادمة. 

وكان شمال إفريقيا مجالًا حيويًا لفرنسا يجعل يدها طولى على الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، فشددت هيمنتها على تلك البلدان وحاصرت الوطنيين المطالبين بالاستقلال فشرّدتهم وحملتهم إلى المنافي البعيدة. وفي الوقت نفسه، كانت تقوم بنهضة معمارية باذخة تساعدها على البقاء، اعتقادًا منها أن شمال إفريقيا سيبقى أراض فرنسية إلى الأبد.

 

المقر القديم لبورصة الشغل بتونس البحرية
حازت تونس بذلك على أيقونة معمارية فريدة وغير متداولة: ذات واجهة نصف دائرية بلورية مليئة بالخطوط المنحنية وبانكسارات الظلال

 

ففي تونس، وفي وقت وجيز، شهد الحيّ الأوروبي الكائن خارج أسوار المدينة العتيقة والممتد بين باب البحر وباب الخضراء جنوبًا وخليج تونس شرقًا ولافيات والبلفدير وبورجل غربًا، إنشاءات معمارية إضافية كثيرة وجديدة، وتوسع المجال البلدي بشكل لافت حيث كانت فرنسا تشجّع المهندسين المعماريين الشبان المتخرجين لتوهم من كليات ومدارس الهندسة والتعمير، على التوجه لتونس وتنفيذ مشاريع تخرجهم وهو ما حدث فعلًا مما أثرى المشهد المعماري الأوروبي بتونس وجعله بجماليات مخصوصة. كما كانت تمنح المعماريين المتمرّسين والمشهورين المشاريع الكبرى كبناء المدارس والمعاهد الثانوية ومقرات المؤسسات الحكومية والشركات الكبرى.

كان شارع جول فيري (شارع الحبيب بورقيبة حاليًا) هو الشارع الرئيسي للجالية الأوروبية وخصوصًا الفرنسية منها، حيث يوجد مقر الإقامة العامة (سفارة فرنسا حاليًا) وبناية الجندرمة الفرنسية (وزارة الداخلية حاليًا) والمسرح البلدي ومسرح روسيني وقاعات السينما وكاتدرائية القديس فانسون وهي الكنيسة الرئيسية للرومان الكاثوليك والمركب التجاري الكوليزي. ويمتد هذا الشارع إلى حدود ما كان يسمى بتونس البحرية وهو المكان التاريخي للميناء التجاري العتيق للعاصمة تونس.

راسلت وزارة العمل الفرنسية وقتها المجلس البلدي لمدينة تونس تطلب منه منحها قطعة أرض قرب تونس البحرية لتشييد مقر جديد لـ"بورصة الشغل" يكون بديلًا للمقر القديم الكائن بنهج الجزيرة

قبالة هذا الميناء، منطقة تعرف لدى التونسيين بـ"ديبوزفيل" حيث توجد المخازن التجارية الضخمة المخصصة للبضائع الواردة من وراء البحر أو تلك التي ستشحن من تونس إلى الخارج وهي تبدو اليوم كالأطلال بعضها مستغل بتقشف، لكن أغلبها مغلق ومهجور ومتداع للسقوط، فذهب رونقها وجمال وفخامة عمارتها المزدانة بالقرميد الأحمر المصنّع بداية القرن العشرين بمدينة مرسيليا الفرنسية، وعارضات خشب الصنوبر الجبلي التي تشد السقوف ومزاريب الحديد والبوابات الضخمة.

وفي إطار النهضة المعمارية التي شرعت فيها فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية على أرض المستعمرة التونسية، وكي يكتمل جمال العمارة بأقصى شارع جيل فيري، راسلت وزارة العمل في ذلك الوقت المجلس البلدي لمدينة تونس بتاريخ 6 مارس/آذار 1950 تطلب منه منحها قطعة أرض قرب تونس البحرية وتطل على الشارع الرئيسي من أجل تشييد مقر جديد لـ"بورصة الشغل" يكون بديلًا للمقر القديم الكائن بنهج الجزيرة المبني سنة 1920. 

 

المقر القديم لبورصة الشغل بتونس البحرية
من أهم الأنشطة التي عرفتها أروقة البورصة هو احتضانها في جويلية 1957 للمؤتمر الدولي الكنفدرالية الدولية للنقابات الحرة

 

وهو ما تم فعلًا، إذ منحت البلدية وزارة العمل مكانًا جميلًا أنيقًا فسيحًا بعد أن أزاحت بعض المخازن القديمة. وفي الوقت نفسه، كانت المكاتب الفنية للوزارة قد ألغت فكرة التعامل مع المهندس المعماري الفرنسي ريموند الذي أعد تصميمًا نمطيًا لبورصة الشغل منذ 1945 لكنه بقي طي الرفوف. وشرع في الاتصال بمكتب المهندس المعماري الروسي الشهير "يريل لوفيدوسكي" وهو من رواد العمارة السوفياتية المعروفة في ذلك الوقت بالعمارة البنائية المنبثقة عن تيار فني راج في الاتحاد السوفياتي بين الحربين. 

 

 

وقد شرع في إعداد تصميم مختلف عن كل العمارة الموجودة في الحي الأوروبي التونسي، إذ أعدّ تصميمًا دائري الشكل جاء مختلفًا عن التصاميم المتداولة في ذلك الوقت سواء بالشارع الرئيسي أو خارجه، لكنه كان متماهيًا روحيًا مع مبنى قريب معروف بروعة هندسته الرومانية النزعة وهو مقر مدرسة الديوانة التونسية المعروفة لدى العموم بقبّة الديوانة والذي أزيل مؤخرًا جرّاء أشغال جسر مجاور.

المهندس المعماري الروسي الشهير "يريل لوفيدوسكي" أعدّ تصميمًا دائري الشكل لمقر بورصة الشغل جاء مختلفًا عن كل العمارة الموجودة في الحي الأوروبي التونسي

وبدأ المهندس الروسي في الإنجاز معتمدًا على مادة الإسمنت المسلّح التي دخلت لتوّها حيز الاستعمال الهندسي متأثرًا في ذلك بالمهندس المعماري السويسري الفرنسي "لو كوربوزييه" الذي شيّد أعماله المعمارية الخالدة معتمدًا على ثورة الإسمنت المسلّح.

انطلقت أشغال بناء مقر "بورصة الشغل" قرب تونس البحرية نهاية سنة 1950 لتتواصل إلى حدود سنة 1955 لتكون المحصلة النهائية أن حازت تونس بذلك على أيقونة معمارية فريدة وغير متداولة: ذات واجهة نصف دائرية بلورية مليئة بالخطوط المنحنية وبانكسارات الظلال بما يمنح المزيد من الضوء الطبيعي داخل المبنى، وترتكز هذه الواجهة أيضًا على مجموعة من السواري الإسمنتية النحيفة التي تمنح الرائي إحساسًا بأنها هي الرافعة لكل المبنى.

 

المقر القديم لبورصة الشغل بتونس البحرية
مقر بورصة الشغل بتونس البحرية (ت ـ ج ـ م) يحتوي على مدرّج أو قاعة اجتماعات بطاقة استيعاب لألف شخص لتكون بذلك أكبر قاعات عصرها إلى حدود سنة 1970

 

جعل المهندس الروسي المدخل الرئيسي لمقر بورصة الشغل من جهة شارع داغ همرشولد (الأمين العام السابق للأمم المتحدة) حيث تعترضك حديقة بخطّيْ نخيل باسق وبركة ماء تنعكس عليها واجهة المبنى.

مقر بورصة الشغل بتونس البحرية (ت ـ ج ـ م) وإضافة إلى المكاتب الإدارية والمصاعد الرخامية الفخمة، يحتوي على مدرّج أو قاعة اجتماعات بطاقة استيعاب لألف شخص لتكون بذلك أكبر قاعات عصرها إلى حدود سنة 1970، مما مكّنها من احتضان أغلب الندوات والتظاهرات واللقاءات والمؤتمرات الدولية التي عرفتها تونس. 

استرجعت الدولة التونسية مقر بورصة الشغل وألحقته نهائيًا وإلى اليوم بمصالح وزارة الشؤون الاجتماعية، بعد أن كانت قد ألحقته مع الاستقلال بمصالح اتحاد الشغل

كما شهدت بورصة الشغل بتونس أيضًا، زيارات تاريخية لكبار ضيوف الدولة التونسية ومن أهم الأنشطة التي عرفتها أروقة البورصة هو احتضانها في جويلية/يوليو 1957 للمؤتمر الدولي الكنفدرالية الدولية للنقابات الحرة (السيزل) بدعوة من الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر منظمة نقابية تونسية تأسست سنة 1946 على يد الزعيم فرحات حشاد خلال مؤتمر الخلدونية، والذي كان منخرطًا بقوة في الكنفدرالية. وكان النقابي التونسي الفذ أحمد التليلي أمينًا عامًا مساعدًا لرئيسها. ويذكر أنه ألقى خطابًا تاريخيًا خلال مؤتمر السيزل ببورصة الشغل، كما شهد المقر أيضًا، مؤتمر جمعية الصحفيين التونسيين نهاية التسعينات.

مبنى بورصة الشغل هو مبنى عمومي كان تحت إشراف كتابة الدولة للشؤون الاجتماعية ثم مع الاستقلال ألحقته الدولة بمصالح الاتحاد العام التونسي للشغل في لحظة تاريخية كانت فيها المنظمة الشغيلة شريكًا سياسيًا لدولة الاستقلال وعاشا معًا مسارات النضال ضد المستعمر الفرنسي وأحلام بناء المجتمع التونسي الحر. لكن ومع اختلافات الرؤى بين الجانبين وتعمق الخلاف بينهما، استرجعت الدولة التونسية مقر بورصة الشغل وألحقته نهائيًا وإلى اليوم بمصالح وزارة الشؤون الاجتماعية.

 

جدارية للفنان عبد العزيز القرجي منجزة ببورصة الشغل سنة 1962
جدارية للفنان عبد العزيز القرجي منجزة ببورصة الشغل سنة 1962

 

وفي سنة 1962، تمت مجددًا تهيئة فضاء مبنى بورصة الشغل بإضافة مأوى للسيارات، كما تمت دعوة الفنانين التشكيليين التونسيين الشهيرين عبد العزيز القرجي وحاتم المكي لإنجاز جداريات تزويقية، فخلّدا معًا أعمالًا خزفية مواضيعها لها علاقة بمفهوم الشغل والتفاني في العمل.

بات الآن مقر بورصة الشغل بتونس البحرية، الذي عرف عهدًا ذهبيًا أواسط القرن العشرين مهملًا، مهجورًا، وهو ما يستدعي ضرورة الالتفات إليه وإنقاذه من الإهمال وجعله مزارًا سياحيًا

مقر بورصة الشغل بتونس البحرية الكائن نهاية شارع بورقيبة بالعاصمة تونس والذي عرف عهدًا ذهبيًا أواسط القرن العشرين بات الآن مهملًا، مهجورًا، متروكًا، منسيًا.. وهو الذي ينطوي على جزء لامع وهام من التاريخ الاجتماعي للشعب التونسي، كما يشكّل مظهره الخارجي جزءًا من الإرث المعماري الاستعماري بلمسات روسية.. وهو ما يحدو بنا الآن وهنا وأكثر من أي وقت مضى من جهة الاتحاد العام التونسي للشغل والدولة ممثلة في وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الشؤون الثقافية، إلى أن يتم الالتفات لهذا المبنى والمحافظة عليه من الزوال وإنقاذه من الإهمال وجعله مزارًا سياحيًا ولمَ لا أن ننشئ داخله متحفَا يروي تاريخ النقابات في تونس وفي العالم.