20-نوفمبر-2024
المعارضة الحزبية والحاجة إلى "الآليات الجديدة"

الهزيمة الحقيقية للمعارضة الحزبية هي في فقدانها لعقد الثقة مع جمهور عامّ (صورة أرشيفية لإحدى مظاهرات المعارضة في تونس)

مقال رأي 

 

الآليات الجديدة هي عنوان جوهري في المعجم السياسي لقيس سعيّد منذ تصدّره المشهد منذ سنوات، ولكنه تكثّف بالخصوص منذ 25 جويلية/يوليو 2021 في إطار الوصفة التي يقترحها للتغيير الذي تحتاجه البلاد. فكل مجال وكل مؤسسة بحاجة إلى آليات جديدة حتى ديوان الزيت. ودون الخوض في مضامين هذه الآليات ونجاعتها واقعًا بعيدًا عن الشعارات، ربّما، وللمفارقة، المعارضة الحزبية اليوم هي بحاجة فعلًا للتفكّر في آليات جديدة لنفض الغبار عن نفسها أمام سلطة جدّدت شرعيتها الانتخابية، في نهاية المطاف، بنسبة تسعينية، بغض النظر عن تقييم نزاهة العملية الانتخابية.

المعارضة الحزبية اليوم في تونس هي بحاجة فعلًا للتفكّر في آليات جديدة لنفض الغبار عن نفسها أمام سلطة جدّدت شرعيتها بغض النظر عن تقييم نزاهة العملية الانتخابية

المعارضة الحزبية لا تزال تنقسم لثلاث كتل رئيسية منذ 25 جويلية/يوليو 2021 بين حركة النهضة وحلفائها في إطار "جبهة الخلاص"، وتنسيقية القوى الديمقراطية التقدمية والحزب الدستوري الحر الذي اختار أن يسبح وحيدًا في النشاط سعيًا لتأكيد فرادته عن الجميع دون استثناء. بين التحركات الميدانية في إطار ممارسة حق التظاهر، التي تراجع زخمها، والندوات الصحفية، انحصر نشاط هذه الكتل الرئيسية، ولم تحمل لحظة الانتخابات الرئاسية تغييرًا فاعلًا في ديناميكية نشاطها خاصة في ظلّ التردّد حول الموقف من المشاركة أو المقاطعة داخل كل كتلة بنفسها.

قبل شهر واحد من الانتخابات الرئاسية، تشكّلت الشبكة التونسية للدفاع عن الحقوق والحريات التي تضمّ عددًا من الجمعيات والمنظمات في مقدمتها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان مع مكوّن حزبي يتمثّل في أحزاب القوى الديمقراطية التقدمية وبعض الأحزاب المنضوية ضمن هذا الخط السياسي. حقّقت الشبكة اختراقًا في صف المعارضة من زاوية ربط الصلة بين القوى المدنية من جهة، التي بدت عناصرها الأكثر نشاطًا في التحركات الميدانية للشبكة، والقوى الحزبية من جهة أخرى التي ظهرت كأنها بحاجة لآليات جديدة للخروج من حالة الجمود التي اعترتها. كانت الشبكة، في جانب ما، تأكيدًا على محدودية قدرة القوى الحزبية على تأمين مواجهتها للسلطة دون حاجة للانفتاح على المركّب الجمعياتي.

وجدت الأحزاب نفسها في دائرة فعل محدودة وضيقّة على نحو أدى لتراجع زخمها حتى بين قواعدها أو حزامها على الأقل، في مناخ عامّ مشوب بالخوف من المحاكمات والإيقافات

معضلة القوى الحزبية، بمختلف انتماءاتها السياسية والأيديولوجية، أنها سرعان ما وجدت نفسها محاصرة أمام السلطة، بداية من التقييدات على نشاطها خاصة عبر الاعتقالات التي شملت قيادات حزبية من مختلف الكتل الرئيسية الثلاث (راشد الغنوشي/عصام الشابي/عبير موسي إلخ) على نحو أثّر على حيوية النشاط الداخلي المؤسساتي، ولكن أيضًا والمهمّ في تصدير مهمّة حقوقية للإفراج عن المعتقلين علاوة على المهمة السياسية في مواجهة السلطة. ولكن إضافة لذلك، وجدت الأحزاب نفسها في دائرة فعل محدودة وضيقّة على نحو أدى لتراجع زخمها حتى بين قواعدها أو حزامها على الأقل في مناخ عامّ مشوب بالخوف من المحاكمات والإيقافات.

ولكن المأزق كان في إنتاج الخطاب، وتباعًا في ترويجه لدى العموم. حصيلة سنوات الانتقال الديمقراطي المتعثر في مستوى محدودية النجاعة المؤسساتية، أو على الأقل ترهّل القدرة على الحسم أمام تناحر القوى الحزبية، وكل ذلك ما ظهر أمام الفعل الدولتي القاطع مع هذه السلطة، دفع بوجود حالة مزاج شعبي متحمّس لهذه السلطة. فمثلًا، إن ملفات الفساد المالي المثارة هنا وهناك، هي عنصر يستند عليه العديد، عند الحديث معهم، أنها دليل أن الفاعلين الحزبيين في السنوات السابقة لم تجعل مكافحة الفساد أولوية حقيقية، بل الأكثر أنها كانت متورطة ومتواطئة معه. وهذا مما لا يمكن إنكاره مع التحفّظ على صيغة التعميم.

المعارضة الحزبية بحاجة اليوم، وقبل كل شيء، إلى أن تسمع الناس في الشارع، أي خاصة أولئك الذين يرون السلطة اليوم هي في مهمة إنقاذ للبلد في مواجهة "العملاء"

ولكن المشكل أن هذا المزاج العام ينظر بارتياب للخطاب الحقوقي والدفاع عن الحريات، لأنه يتمثّله كغطاء توظفه قوى غير نزيهة. كلمة السر هنا هي الثقة. والهزيمة الحقيقية للمعارضة الحزبية هي في فقدانها لعقد الثقة مع جمهور عامّ. والصورة تكثيفها أن قياس الموقف لا ينصّب على المضمون بل على صاحبه. ولكن الحذر مهمّ من عدم التعسّف، لأن الخطاب الحقوقي مثلًا بذاته ليس خطابًا جاذبًا لأنه ينظر إليه على أنه خطاب نخبوي لا شعبيّ خاصة مع سلطة محترفة في ممارسة شعبوية قادرة على إثارة العواطف، وأيضًا مشاعر الحقد تجاه أولئك الذين كان يحكمون البلاد.

المعارضة الحزبية، في خضم كلّ ذلك، بحاجة اليوم، وقبل كل شيء، لتسمع الناس في الشارع، أي خاصة أولئك الذين يرون السلطة اليوم هي في مهمة إنقاذ للبلد في مواجهة "العملاء". من لا يسمع الناس ويتعالى عليهم لا يُعوّل عليه. لا يجب التوجه للناس في الأسواق فقط زمن الحملات الانتخابية، بل يجب التوجه إليهم دائمًا وخاصة في هكذا سياق، بغاية فهم اللحظة ومراجعة الأولويات في المضمون والخطاب على حد السواء. هل يمكن تقديم مشروع سياسي جاذب دون استقراء حاجيات الناس؟ لا يمكن. وإنّ التقييم الجدّي واستخلاص الدروس للسنوات العشر هو ضرورة في مسار استعادة الثقة.

المعارضة الحزبية هي في مهمة إثبات أنّ غاية فعلها السياسي هو مصلحة الناس ببساطة، بعد انهيار الثقة تجاهها، وهذا يفترض تبنّي أدوات جديدة

مهمّ في المسألة الحقوقية بذل مجهود لإثبات أن الحقوق السياسية والمدنية هي ضرورة حيوية للمواطن العادي قبل "النخبوي"، وأنه لا مفاضلة بين حرية الناس ونجاعة الدولة. يجب التوجه للناس بكل شجاعة وفي كل مكان بخطاب دعائي لديمقراطية ليست كما كانت مريضة سنوات التعثر، بل ديمقراطية واعدة وناجزة.

المعارضة الحزبية حقيقة، هي في مهمة إثبات أن غاية فعلها السياسي هو مصلحة الناس ببساطة بعد انهيار الثقة تجاهها. وهذا يفترض تبنّي أدوات جديدة والتفكير خارج الصندوق التي تعوّدت عليه طيلة السنوات الفارطة. إن تصفية حسابات بين القوى الحزبية نفسها وتناحرها وتبادل الاتهامات فيما بينها لن يزيد إلا في مزيد محاصرتها. إنّ الرهان الأساسي اليوم هو الخروج من حالة الجمود وإنتاج عرض سياسي يعيد ثقة الناس في "الديمقراطيين". فلا ننسى دائمًا أن الديمقراطية هي الحلّ.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"