تحت سماء الحياة الواسعة وسماوات المسرح التونسي، كنت كلما ألتقي العرائسي الراحل المبهج للمهج والأفئدة الأسعد المحواشي، أشعر أني في حضرة شيخ من شيوخ العشق الإلهي بوجهه الدائري وعيونه الواسعة الجاحظة والشاخصة في المعنى وشواربه الخفيفة التي علاها شيب خفيف.
كان الأسعد المحواشي حبة وازنة في عنقود العرائسيين التونسيين الذين مسّهم وهج النبوءة الفنية وأخذته ديمونة المسرح وهو في أوج شبابه، فافتتن بجمالها الأخاذ وأخرجته عن دوائر الزمن بمفهومه الإنساني الميقاتي ورسّخته في عوالمها
يشرق الحديث معه على مدارات الحكمة الغامرة والتيه في مفازة الفن المنعش الرطيب، ويأخذ بيدي إلى ميراثه المقدس في عالم الماريونات الفسيح وخصوصًا منجزه الأيقوني الآسر بالمركز الوطني لفنون العرائس، هذه المؤسسة العمومية التونسية التي تأسست سنة 1993 لتتوج جهود الفرقة المسرحية لفن العرائس لمدينة تونس التي بعثت سنة 1976.
وكان الأسعد المحواشي حبة وازنة في عنقود العرائسيين التونسيين الذين مسّهم وهج النبوءة الفنية وصنعوا مجد لحظة التأسيس وما جاورها. ونذكر من العنقود الذهبي للعرائسيين: رشاد المناعي ومحيي الدين بن عبد الله وحبيبة الجندوبي وعبد المجيد سعد وحسن المؤذن وعبد الحق خمير.
فقيد المسرح التونسي الأسعد المحواشي أكد لي في أكثر من مرة أنه سحر بفنون العرائس، بل انخطف إليها غير مدرك بما يحصل في جنباته. أخذته ديمونة المسرح وهو في أوج شبابه، فافتتن بجمالها الأخاذ وأخرجته عن دوائر الزمن بمفهومه الإنساني الميقاتي ورسّخته في عوالمها، ليتحول الأمر إلى فريضة فنية يمارسها على أرض المسرح التونسي بلا كلل ولا ملل.
وأنا أقف حذوه جنبًا إلى جنب في جنة دار سيباستيان (المركز الثقافي الدولي بالحمامات) ذات ليلة من ليالي مهرجان الحمامات الدولي لسنة 2023 على إثر عرض المسرحية العرائسية للكبار "ما يراوش" لمنير العرقي والتي كان المحواشي مساعدًا أساسيًا فيها بإشرافه على ورشة صنع العرائس، قلت له: " سي الأسعد لماذا تقف في الكواليس وأنت من صنع كل تلك العرائس المحمولة الجميلة وبعث فيها ما بعث من أحاسيس؟".
أجاب: "قدر العرائسي ألّا يُرى، أن يقف في الكواليس ويراقب بعيون قلبه من يحدث ويتحسس خيوط عروسته كما يتحسس الجندي سلاحه لأنها ما يربطه بهذا العالم الساحر الحالم".
وأضاف: "العرائسي يكفيه فخرًا أنه يعطي من روحه ومهجته لعرائسه ويراها تتنفس أمامه". حملني كلامه إلى يقين ثابت هو أنّ " سي الأسعد " هو من الندرة التي سرقت قبس الفن وإلى الأبد.
اعتبر الأسعد المحواشي أنّ "قدر العرائسي ألّا يُرى وأن يقف في الكواليس ويراقب بعيون قلبه من يحدث ويتحسس خيوط عروسته ويكفيه فخرًا أنه يعطي من روحه ومهجته لعرائسه ويراها تتنفس أمامه"
الأسعد المحواشي هو شخصية على حِدة في مجال مسرح العرائس بتونس. فهو واحد من المساهمين في تلك الفترة الذهبية التي عاشها المركز الوطني لفن العرائس إبّان نشأته بشارع الحرية، حيث التقى المسرحي الحالم المأخوذ بتحريك العروسة الأسعد المحواشي برفيق دربه المنصف بن الحاج يحيى، فكانت الغزارة في الإنتاج، والتاريخ يذكر المسرحيات العرائسية الرائعة: "عرس الخنفساء" و"طاحونة الرياح" و"مرجان الحكيم".
لكن الطموح الصاخب للأسعد المحواشي ذهب إلى منطقة أخرى في أكوان الماريونات، وهي الإخراج. فكانت البداية سنة 2003 عندما ساعد الفنان الكبير محيي الدين بن عبد الله في إخراج مسرحية "العرائسي" التي حققت انتشارًا كبيرًا، ونالت جوائز كثيرة فتحولت إلى أيقونة فنية، بل إلى وثيقة مسرحية مرجعية في تونس وفي الوطن العربي.
وبداية من سنة 2006، أخرج المحواشي أعماله الخاصة فكانت البداية بـ"حمراء والذئب" التي تجول بها في كامل البلاد، فكانت تحمل الأطفال على أثير الدهشة والحلم والخيال. وفي سنة 2011 أخرج مسرحية "الكسوة" بأسلوب أكثر تطورًا في مستوى السينوغرافيا ورسم العروسة. كما أخرج سنة 2012 مسرحية "طبيب الضيعة".
الطموح الصاخب للأسعد المحواشي ذهب إلى منطقة أخرى في أكوان الماريونات، وهي الإخراج.. وسنة 2014 أنتج ماسة أعماله الإبداعية وهي مسرحية "لقاء" التي نالت الجائزة الكبرى بمهرجان ماليزيا لمسرح العرائس وجائزة الإبداع الفني بالمهرجان العالمي لمسرح العرائس بكازاخستان
بَيْدَ أنه ذهب، في سنة 2014، بعيدًا بعملية الإخراج فأنتج ماسة أعماله الإبداعية وهي مسرحية "لقاء" التي تجلت من خلالها خبرة أربعة عقود من ممارسة فنون العرائس. وقد نالت هذه المسرحية الجائزة الكبرى بمهرجان ماليزيا لمسرح العرائس وجائزة الإبداع الفني بالمهرجان العالمي لمسرح العرائس بكازاخستان.
وقد صرح الفنان في أكثر من مرة أن عمله المسرحي "لقاء" هو سيرته الذاتية بأساليب عرائسية إذ يقول "ما شاهدتموه في العرض هو أنا، حلمي ومسيرتي ومعاناة الفنان".
المحواشي اشتغل في العشرات من الأعمال العرائسية صانعًا ومحركًا وموضّبًا وسينوغرافيًا، فاكتسب نضجًا لافتًا استفاد منه كثيرًا طلبة المعهد العالي للفن المسرحي بتونس من خلال الدورات التكوينية التي أشرف عليها بالمركز الوطني لفنون العرائس. كما نشر خبرته بين الأطفال والهواة عبر الورشات التي سيرها بدور الثقافة والمؤسسات التربوية والشبابية.
المحواشي اشتغل في العشرات من الأعمال العرائسية صانعًا ومحركًا وموضّبًا وسينوغرافيًا، فاكتسب نضجًا لافتًا استفاد منه كثيرًا طلبة المعهد العالي للفن المسرحي بتونس كما نشر خبرته بين الأطفال والهواة عبر الورشات التي سيرها بدور الثقافة والمؤسسات التربوية والشبابية
تبقى تجربة الراحل الفنان العرائسي الأسعد المحواشي تمجيدًا لروح الحياة، ولغةً للغريب، وصوتًا بعيدًا للنفس لما تختزنه من براكين جياشة بالفن والمكاشفات الإبداعية. إنها اجتراح للمعاني تحت سطوة النبال القاتلة، نبال اليومي الباهت واللاإنساني واللامعقول الذي يهدّ نفس الفنان الخلاقة.
مدونة الفنان الراحل الأسعد المحواشي أسرجها التاريخ إلى مصاف بعيد عصي على الابتذال، مدونة بلغة خارقة للشعر والشعرية لا تملك إلا أن تشبه قائلها على نحو مطلق، مدونة مزدحمة بالفن الأصيل في الوقت الذي ذهبت فيه تجارب أخرى للتكنولوجي المرقمن الأمر الذي أفقده بعض الدفء.
المحواشي الذي غادرنا سنة 2023، إثر مشاركة له بأحد المهرجانات المصرية، هو استحالة داخل نموذج مسرح العرائس التونسي. هو أحد العلامات الذكية الإنسانية في مواجهة القبح والتنميط الفني التجاري، هو باختصار تجل للكيان التونسي المبدع.