حيث توجد النخلة يوجد، في الجنوبين الجزائري والتونسي، ذلك أنه يُستخرج من لبّها، ومنها يستمدّ حلاوته وقدرته على إنعاش شاربيه، منافسًا العصائر الطبيعية للفواكه الأخرى، باستقطابه للصغار والكبار والفقراء والأثرياء، خاصّة في موسم الحرّ، حيث يملك مقاومة شديدة للعطش. إنه عصير اللاقمي.
يتم قص النخلة على مستوى الرأس، تسمى العملية تحجيمًا، ثمّ يُعمد إلى إحداث جرح في اللب لينتج اللاقمي، المعروف في الجنوب التونسي
اقرأ/ي أيضًا: بائع الليموناضة الأخير في طرابلس
طريق اللاقمي "يا دلّالي"
ما إن تقترب من مدينة وادي سوف، 600 كيلومترًا جنوب شرق الجزائر العاصمة، حتى تلفت انتباهَك شمسياتٌ يجلس تحتها شباب وكهول وشيوخ، يضعون أمامهم براميلَ صغيرة منه، عادة ما تكون مغّلفة بقماش مبلّل يحافظ على برودته، فنصف متعته من برودته، وتكون مخيّرًا بين أن تشربه فورًا في كأس، أو أن تأخذه معك في قارورة خاصة.
تستحضر، وأنت تشربه للمرّة الأولى، أذواق ما عرفت من العصائر، فتجد نكهته لا تحيل إلا عليه. تسأل إن كان يحوي مواد وسكاكرَ إضافية، فيُجمع على أنه طبيعي تمامًا، وتمتلكك الدهشة حين تقارن بين قيمته ومتعته وسعره الزهيد، إذ لا يتعدّى سعرُه دينارًا تونسيًا واحدًا وما يُقابله من العملة الجزائرية (0.4 دولار أمريكي).
يقول عز الدين، الذي يعرض اللاقمي على مستعملي الطريق الرابط بين وادي سوف وتونس، إنه "لا يمكث أكثر من ساعتين حتى يبيع كلّ ما في البرميل الذي يسع عشرين لترًا، وإن عودته لعرض برميل جديد، مرتبط بوفرة الكمية". ويضيف: "كون هذا العصير من لبّ النخلة، يجعل كمياته محدودة، ذلك أن النخيل المؤهلة للتضحية بها محدودة أيضًا".
حدّثنا أكثر من خبير في مدينة وادي سوف الجزائرية، ومدينة دوز، 540 كيلومترًا جنوب تونس العاصمة، أن النخلة المسنّة التي يُرغب في تجديدها والنخلة غير المثمرة أو ذات التمر الرديء، هما المصدر الرئيسي لللاقمي، إذ يتمّ قصّ النخلة على مستوى الرأس، تسمّى العملية تحجيمًا، قياسًا على الحلاقة، ثمّ يُعمد إلى إحداث ممشى/جرح في اللبّ، يُسمّى "الجمّار"، ليصبّ السائل في قلّة تعلّق خصّيصًا لهذا الغرض.
وتتفاوت الجودة، بحسب الوقت الذي يُجمع فيه العصير، وطبيعة النخلة المستهدفة. يقول الصيدلي محمود بنحامد: "أجود أنواع اللاقمي هو الذي يُعصر فجرًا من نخلة غير مسقية، تسمّى بعلي". ويعدّد مزاياه: "يقاوم العطش لفترة طويلة ويعدّل السكر في الدم، ويصفّي المعدة ويساعد الضعاف جنسيًا، شريطة ألا يكون مغشوشًا".
للاقمي فوائد عدة ومنها مقاومته للعطش لفترة طويلة وتعديل السكر في الدم وتصفية المعدة
اقرأ/ي أيضًا: 5 مشروبات سودانية مميزة لمائدة رمضان
عرّاب العصير المقدّس
للعم طاهر مدّس شهرة واسعة في الأوساط الشعبية بمدينة دوز، فقد حافظ على مهنة بيع اللاقمي أربعة عقود، من غير أن يغيّرها يومًا أو يتكاسل عنها. ويرتبط ميل الشمس إلى الغروب، بقدومه على دراجته النارية، ليستقرّ قبالة تمثال وسط المدينة، من جهة الطريق المؤدّي إلى مدينة قبلّي، وهي اللحظة التي يتهافت فيها الكبار والصّغار عليه، زاهدين في ما تقدّمه مقاهي المدينة على كثرتها من مشروبات.
يقول: "كيف أخون مهنة وفرت لي ولأسرتي لقمة العيش على مدار عقود؟ لقد أقمت بيتًا ودرّست صغاري بعائداتها، على قلّتها". يوضّح كيفية حصوله على مصادر النخيل: "أحيانًا يتنازل لي أحدُهم عن نخلة زهد فيها، وأحيانًا أدفع له ثلث ما أحصل عليه من عائدات، وأحيانًا ألجأ إلى نخلة مهملة". يضيف: "كثيرًا ما أصحو من غير أن تكون لي فكرة عن مصدر واضح، لكن سرعان ما يتوفر، هذا العصير مبارك، لأنه عصير الفقراء".
الوجه الثاني للكأس
سمعنا كثيرًا عبارتي "اللاقمي الحي" واللاقمي الميّت"، مع ملاحظة إجماع من التقيناهم على الإشادة بالأوّل، واختلافهم حول الثاني، وهو ما دفعنا إلى أن نسأل العم طاهر عن الأمر، فقال: "يُسمى اللاقمي في مرحلة كونه عصيرًا طبيعيًا حيًّا، أما إذا أضيفت له خميرة معيّنة، بحيث يصبح مسكرًا، فيُسمّى ميّتًا".
يفقد اللاقمي "بعد قتله" لونه ومذاقه الطبيعيين، وتصبح أهميته محصورة في قدرته على "الإسكار"، ومعه تتغيّر نظرة الناس إليه، فهو مدنّس لدى تاركي الخمر ولاعنيها، مع مراعاة كون المناطق التي ينتشر فيها محافظة دينيًا، حتى أنها لا تسمح بالترخيص للحانات داخلها، وهو "نبيذ المهمّشين الطيّب" لدى مريدي النشوة والهروب من فراغ الصحراء. من هنا، يحرص باعة "الميّت"، عكس "الحي"، على التخفّي، والاكتفاء بالظهور المدروس، وهو الحرصُ نفسُه الذي يتبنّاه المستهلكون، إذ تشكّل غابات النخيل المعزولة الفضاءَ المثاليَّ لـ"التحليق" بعيدًا عن التضييق.
مثل أنواع الخمرة المعروفة، حظي اللاقمي بالدخول إلى نصوص شعرية كثيرة، في منطقة وادي ريغ بالجزائر، ودوز بتونس، خاصة لدى الشعراء الشعبيين الذين يُهيمنون على الذائقة العامة، ولا تخلو مجالسه من روح الفكاهة والطرافة والتنكيت.
اقرأ/ي أيضًا: