يلعب قياس نسب المشاهدة دورًا مهمًا في تشكيل المشهد الإعلامي في تونس إذ بات معيارًا للمعلنين في اختيار القنوات التي تبث عبرها إعلاناتها. وبهدف الإثارة وجلب أكثر عدد من المشاهدين تتسابق المحطات التلفزيونية في تونس ولا سيما الخاصة على عرض البرامج الترفيهية والمنوعاتية. ولجذب المعلنين، تسعى هذه المحطّات إلى شدّ المشاهد من خلال التركيز أكثر على إحدى وظائف وسائل الإعلام الثلاث المتمثلة في الترفيه، على حساب وظيفتي الإخبار والتثقيف. وتلتجئ هذه المحطات إلى برامج "لايت" ذات مضامين مضحكة ومثيرة ومبتذلة في أحيان كثيرة، لاستمالة المشاهد واستدرار تعليقاته وإن كانت سلبية على اعتبار أن ذلك يساهم في تزايد شعبية هذه البرامج.
لجأت القنوات التلفزية إلى توظيف فنانين وممثلين معروفين لدى العموم في مهمة "الكرونيكور" لاستغلال رصيدهم من المعجبين
ومن بين "الحيل" التي ابتدعها القائمون على بعض المحطات التلفزيونية، الاستنجاد بـ "كرونيكور" على المقاس يجيدون السفسطة وخلق "البوز".
"الكرونيكور".. من الفنانين والممثلين إلى الأجانب
باتت "الكرونيك" صيحة تلفزية غزت البرامج ذات الطابع الترفيهي حتى أصبح فريق "الكرونيكور" ركيزتها وعصبها المحرّك. ولئن كان "الكرونيكور" في الأصل عبارة عن ضيف قار للبرامج التلفزيونية يقدم ركنًا يوميًا أو أسبوعيًا بطريقة جادة أو هزلية، فإنّه في البرامج التلفزيونية التونسية عبارة عن رأس مال رمزي يستثمره مقدم البرامج أو صاحب المحطّة التلفزيونية لضمان أكبر نسب من المشاهدة.
ولجأت القنوات والبرامج التلفزية إلى توظيف فنانين وممثلين معروفين لدى العموم لاستغلال رصيدهم من المعجبين وتحويلهم إلى رقم قار في نسب المشاهدة.
مثال ذلك، وظّفت قناة التاسعة في برنامج "l’émission" (البرنامج) ثلة من الـ"كرونيكور" على غرار الفنان الاستعراضي شمس الدين باشا والممثلين التونسيين عبد الحميد قياس وعزيزة بولبيار إلى جانب "الكوميدي" طارق بعلوش ومريم الدباغ، التي لا نجد لها توصيفًا غير أنها مثيرة للجدل بتصريحاتها التي تظهر أنّها شخص مادي وأن لكنتها تتراوح بين الانقليزية والفرنسية إضافة إلى كونها غير مطّلعة على معاني بعض المفردات من اللهجة التونسية.
وفي قناة الحوار التونسي، أثّث برنامج "أمور جدّية" فريق من الـ"كرونيكور" على غرار الممثلين الصادق حلواس ومريم بن مامي وخولة سليماني والفكاهي وسيم الحريصي والكوميدي كريم الغربي، الذين يدلون بدلوهم في جميع المجالات دون دراية أحياناً كثيرة. وعدوى الـ"كرونيكور" المشوّه طالت الإعلام العمومي وانتقلت إلى القناة التونسية الرسمية عبر برنامج "هدرة أخرى" الذي تؤثثه الممثلة جميلة الشيحي.
وإن كان لزامًا على ممتهن الـ"كرونيك" الأصيل أن يكون قادرًا على التماهي مع المواضيع الآنية ويرتدّ عليها حتّى يجدّد من إطلالته ويحافظ على جذب المشاهد، ولا يكون مستهلكًا بسبب ظهوره المتواتر، فإن ثلة "الكرونيكور" المستنسخين في القنوات التونسية سقطوا في الإسفاف والابتذال وتكرار أنفسهم.
ولم تتوقّف "حيل" مقدمي البرامج والقائمين على القنوات التلفزية الخاصة عند الاستنجاد بالفنانين والممثلين لأداء وظيفة "الكرونيكور" بل باتوا يستنجدون بالأجانب. وتُقدّم العارضة الروسية "ليتيسا" على أنّها "كرونيكوز" في برنامج "l’emission " الذي يبث على قناة التاسعة، والحال أنّ جل ما تفعله في البرنامج هو نطقها الغريب للكلمات التونسية بلهجة تمزج بين الروسية والفرنسية. وفي قناة الحوار التونسي، يحظى "يوكي" الياباني و"جوال" الأمريكي" بلقب "كرونيكور"، الأول في برنامج "أمور جدّية" والثاني في برنامج "نهار الأحد ما يهمّك في حدّ"، وما يميز الإثنين طريقة نطقهما الغريبة للهجة التونسية والتي قد تدفع المشاهدين إلى الضحك إضافة إلى الطرائف التي يصادفونها في حياتهم اليومية.
وفيما يعمل الـ"كرونيكور" الأصيل والموهوب على إبراز صورته وتعاليقه ويرتكز في ذلك على شخصية قوية أو موهبة في التحليل ودراية واسعة، يجترّ الـ"كرونيكور" الصوري الذي يزيّن شاشات القنوات التلفزية في تونس تعاليقه ويستعين بالتهريج إذا ما خانته القريحة.
اقرأ/ي أيضًا: حين تطبّع وسائل الإعلام التونسية مع الذكورية..
برنامج "l'emission" يستعين بـ"كرونيكوز" روسية وممثلين تونسيين
معز بن مسعود (أستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار في تونس): مجال عمل الـ"كرونيكور" يشهد نوعًا من الفوضى في تونس
الـ"كرونيكور" جزء من العملية الربحية للقناة
في تعريفه للـ" كرونيكور" يقول أستاذ الاتصال بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار معز بن مسعود في تصريح لـ "الترا تونس" إن الـ"كرونيكور" عمومًا هو شخص يكون على اطلاع واسع بعدد من القضايا وقادر على الخوض فيها ومناقشتها. ويستطرد " اليوم في المشهد الإعلامي هناك تسطيح لمهنة الـ"كرونيكور" وأصبح يمارسها أشخاص من تخصّصات مختلفة على غرار السياسة والثقافة والمسرح".
ويضيف: " في بعض الأحيان نجد أن بعض القنوات توظّف أصحاب مؤسسات سبر الآراء للحديث عن هذا المجال والإفتاء في ميدانه وهو أمر ينطوي على تضارب مصالح". ويعتبر أن مجال عمل الـ"كرونيكور" يشهد نوعًا من الفوضى إذ أنّ كل شخص لديه دراية لمجال معين يطلق على نفسه هذه التسمية وينسب إلى نفسه الاطلاع الواسع على قضايا سياسية واقتصادية وثقاقية، وفق قوله.
ويؤكّد أنّ الـ"كرونيكور" عمومًا لا يتحدّث في أمور تقنية بحتة بمعنى أنه مثلًا عند طرح موضوع اقتصادي يتطلب الأمر شرحًا مفصلًا من خلال معطيات اقتصادية تقنية يفقهها المختصون في المجال، مشيرًا إلى أن البعض منهم عوض أن يفسّر بعض الأمور يزيد من تشعبها وتعقيدها ما يجعل الأمر يلتبس على المشاهد.
ومن بين الإشكالات الأخرى التي تتعلّق بـالـ"كرونيكور" في تونس يقول بن مسعود إنه لا يجهز مداخلاته ولا يحدّد المجالات التي سيتدخل فيها مسبقًا فتكون المداخلات مرتجلة وفورية ما يزيد من إمكانية الخطأ، على حد تعبيره.
وعن الاستنجاد بفنانين وممثلين وأجانب لأداء مهنة الـ"كرونيكور"، يعتبر أن القنوات التلفزيونية عمومًا تبحث عن "البوز" أو الإثارة بغاية تحقيق أكبر نسب مشاهدة التي يرتبط ارتفاعها ارتباطًا وثيقًا بالمداخيل التي تحصل عليها القناة التلفزية. ويضيف أن السعي إلى تحقيق أكبر نسبة من الأرباح من عائدات الإعلانات هو السبب في سقوط بعض البرامج التلفزية في الابتذال، وفي النهاية المحطات التلفزيونية تبرر ذلك بكونها تحقق انتظارات المشاهد الذي يرغب في برامج ترفيهية بالأساس، حسب تعبيره.
ويتابع "إقبالًا على تحقيق الأرباح المادية وتحت مظلة تحقيق تطلعات المشاهد، تحيلنا المعادلة على الابتذال والتهريج الذي نشاهده اليوم في عديد البرامج التلفزية التي توصف بالترفيهية ولكن كثير منها يبحث عن "البوز"." ويؤكّد بن مسعود أن الـ"كرونيكور" نفسه يصبح وسيلة تستخدمها القناة وتوظفها للوصول إلى غاية تحقيق الأرباح وانتظارات المشاهد مما يعني أنه أضحى جزءًا من العملية الربحية للقناة.
معاذ بن نصير (باحث في علم الاجتماع): ننتظر ثورة ثقافية وعلى المنابر الإعلامية التمهيد لها
اقرأ/ي أيضًا: الإعلام التونسي.. خريف الأزمة يتلو ربيع التعددية
التونسي يكره النمطية
عن أسباب اكتساح بعض الوجوه التلفزية والمسرحية والغنائية وخاصة عارضات الأزياء للمنابر الإعلامية، يؤكد الباحث في علم الإجتماع معاذ بن نصير لـ"الترا تونس" أن "عصر اليوم يرتكز أساسًا على الصورة وعملية استقطاب الجماهير تتم عبر الترويج للصورة الخارجية بعيدًا عن المضمون والمحتوى لذا شاهدنا العديد من المشاهير في العديد من القنوات التلفزيونية التونسية دون أي إضافة تُذكر".
ويضيف " لا يمكن التغافل عن العامل الأساسي لتنامي هذه الظاهرة، ألا وهي أن هؤلاء الـ"كرونيكور" لهم جماهيرهم ومتابعيهم ومعجبيهم وهذا ما يضمن للمؤسسة الإعلامية نسب مشاهدة أكبر.
وعن تبعات هذه الاختيارات، يقول بن نصير إن "تقديم هذه الوجوه على أنها "مثال جيد" من شأنه أن يجعل الناشئة والمراهقين يقلدونهم على مستوى اللباس وقصات الشعر وغيرها من السلوكيات تحت غطاء ثنائية "التأثر والتأثير"، لكن أي مثال قد يُقدم خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن بعض الحضور ليس له أي بصمة إيجابية معرفيًا أو ثقافيًا أو فكريًا، ونحن في تونس ما بعد 14 جانفي 2011 ننتظر ثورة ثقافية وعلى المنابر الإعلامية التمهيد لها".
وعن الالتجاء إلى الـ"كرونيكور" الأجانب، يشير إلى أنه " يجب الأخذ بعين الاعتبار أن التونسي يكره النمطية ويبحث عن التجديد ولذا نجد حضورًا من جنسيات مختلفة امريكية ويابانية وروسية وذلك من أجل العمل على إحداث نوع من النقلة النوعية في المشهد الإعلامي، وتلبية لرغبة الجماهير التي تُحبذ مثل هذه الصور التي تقدم لهم".
في ظل هذا المشهد الإعلامي الذي تسيطر عليه السطحية والابتذال، لا بدّ من أن تسعى وسائل الإعلام التونسي إلى القيام بوظائفها الأخرى المتعلقة بتثقيف الرأي العام والمساهمة في دفعه للاهتمام بالقضايا التي تهمه والنهوض بوعيه.
اقرأ/ي أيضًا: