"لن أذهب إلى المدرسة إلا بعد أن تتزيني بأحمر الشفاه يا أمي" إنه الطلب الذي يكرره "هارون" ذو الست سنوات باكيًا كل صباح، أمّا "لجين" فهي تصر على رفض مرافقة أمها لها بسبب لهجتها المختلفة عن لهجات أمهات أصدقائها وهو ما يشعرها بالخجل والإحراج، بينما يطالب "باسم" بأن يقتني له والده لوحة ذكية، إذ أنه يتعرّض إلى التنمر من طرف زملاء الدراسة بسبب لوحه التقليدي.
هذه الطلبات يكررها عدد من الأطفال على مسامع أهاليهم يوميًا، حتى أن بعضهم يستشهد بما يملكه أقرانه من محافظ وأقلام وأدوات، فضلاً عن علب الطعام الفخمة "lunch box" و"اللمجة" الفاخرة، وليس من الصعب ملاحظة البهرج المبالغ فيه أحيانًا بمجرّد المرور أمام بعض المؤسسات التربوية، فترى زينة مبالغًا فيها أحيانًا وسيارات فخمة وهواتف من أحدث من صدر.
ليس من الصعب ملاحظة البهرج المبالغ فيه أحيانًا بمجرّد المرور أمام بعض المؤسسات التربوية في تونس
"الغريب في الأمر هو أن الأطفال باتوا أكثر تركيزًا على الاهتمام بالمظهر الخارجي وبتفاصيله، من الاهتمام بما سيقدم في الدرس"، هذا ما قالته والدة هارون في تصريحها لـ"الترا تونس"، مضيفة أن طفلها يشترط أن تضع أحمر شفاه باللون الأحمر حتى تبدو جميلة كأمهات أصدقائه وحينما تسأله عن الدرس تجد أنه لا يتذكر حتى ما طلب منه من واجبات.
وتابعت: "إننا نعيش فعلاً في عصر المظاهر وتحولت ساحات المدارس صباحًا ومساءً إلى قاعة عرض أزياء، كما تحول الطفل إلى منصة لاستعراض الإمكانيات المادية لهذه العائلة أو تلك، إنهم يتفاخرون بما لديهم وهذا حقيقة أمر محزن".
أما والدة لجين فتحدثنا عن محاولتها لتغيير لهجتها حتى لا تحرج ابنتها ذات الـ10 سنوات، أمام أمهات صديقاتها: "فكلما ذهبت معها وحاولت التحدث مع المعلمة ورافقت أمهات زملائها تدخل في نوبة بكاء لأنها محرجة من لهجتي وهو أمر يؤلمني ولم استطع إيجاد حل سواء تغيير لهجتي، وكلما حاولت محاورتها وإقناعها بأن هناك لهجات مختلفة وهذا أمر عادي لا أنجح في تغيير طريقة تفكيرها.
أما باسم ذو الـ9 سنوات فهو يخجل من لوحه لأن معظم أقرانه في القسم يمتلكون ألواحًا ذكية، خاصة وأن معلمته معجبة أيضًا بهذه الألواح وهو مستاء من "لمجته" ومن علبته "lunch box" التي لا تبدو فاخرة وباهظة الثمن، ومحفظته المثيرة للسخرية، حسب قول أحمد والده في حديثه مع "الترا تونس".
وأمام هذه المظاهر المستجدة التي تتصاعد مع كل عودة مدرسية، وباتت تطرح أكثر من سؤال بشأن أسبابها وتأثيرها على الأطفال وخاصة على مستواهم التعليمي، فضلاً عن دور المؤسسة التربوية في الحد منها، نجد أنفسنا في مواجهة عشرات القصص والحكايات داخل الأسرة، فحاولنا طرحها على أهل الاختصاص بحثًا عن الجواب.
ومن جانبه بيّن الدكتور في علوم التربية والباحث في التربية قبل المدرسية،ومتفقد عام بوزارة التربية جميل الزغل، أن "الحل يبدأ وجوبًا من الأسرة التي يجب أن تربي ابنها على أن الغني ليس عدوًا، ومن السوي أن ننظر إليه بغبطة متمنين له زيادة في الخير والمال، دون محاولة التعدي على حقه في اقتناء ما يريد لأطفاله"، كما لفت إلى "أهمية تعليم الطفل منذ الصغر أن الله خلقنا درجات وأن علينا أن ندرس وننجح ونتميز كي نصبح قادرين على تحقيق ما نريد".
دكتور في علوم التربية لـ"الترا تونس": الحل يبدأ وجوبًا من الأسرة والدور الثاني في تأطير الطفل وتربيته على سلوك سوي تقوم به المؤسسة التربوية
وتابع الدكتور الزغل في حديثه مع "الترا تونس": "أبرز الشخصيات التي قادت وتقود البلاد هي من طبقة فقيرة ولكنها تميزت عبر المصعد الاجتماعي وتمكنت من تحقيق طموحاتها، ولابد أن تتم تربية الطفل على هذه القناعة وترسيخ فكرة أن الموجود وعلى قليله ليس سيئًا وليس عيبًا وأن بإمكانه أن يصبح الأفضل بالنجاح والتميز العلمي".
ويعتبر المختص في علوم التربية أن الدور الثاني في تأطير الطفل وتربيته على سلوك سوي تقوم به المؤسسة التربوية، إذ أن اللوازم المدرسية على سبيل المثال وظيفتها بيداغوجية، فمن الأجدر التخلي عن طلب أدوات لا فائدة منها، قائلاً: "ما الفائدة من طلب كراس يتجاوز سعره الـ14 دينارًا في حين أنه يمكن أن يلبي كراس لا يتعدّى سعره الديناران الحاجة نفسها؟".
أما فيما يتعلق بظاهرة التنمر المتفشية بين التلاميذ والتباهي، فيرى الدكتور الزغل أن الدور مناط بيد الإعلام ورجال التربية والمختصين في توعية الناس والعمل على التحسيس بهذه السلوكيات المشينة والتي من الضروري تجنبها، داعيًا إلى إبراز ذلك أيضًا من خلال البرامج التعليمية التي تقدم للطفل.
وعبّر الباحث في التربية والبيداغوجيا والتربية قبل المدرسية، عن أسفه مما تقدّمه بعض القنوات الإعلامية من نماذج لا تملك سوى التباهي بالمظهر الخارجي في وقت يغيب فيه صاحب الفكر، ولهذا فإن معالجة هذه المظاهر تحتاج إلى خطة مجتمعية متكاملة.
دكتور في علوم التربية لـ"الترا تونس": معالجة هذه المظاهر تحتاج إلى خطة مجتمعية متكاملة ينخرط فيها الإعلام ورجال التربية والمختصون
من جانبها بينت المختصة في الإرشاد التربوي والمهارات النفسية الحركية، الأستاذة حليمة ورفلي أن "الإشكال الأساسي يتمثل في وجود مؤسسات للتعليم فقط استغنت عن دورها كمؤسسة تربوية، والإشكال الأكبر اليوم هو أن الأستاذ أو المعلم لم يعد ذو سلطة على التلميذ، رغم أنه كان يتدخل سابقًا لمنع تشتيت انتباه التلاميذ ويحجز لديه أي ممتلكات مبهرجة يمكن أن تكون مصدرًا للتفاخر والتباهي، أما اليوم إذ تدخل فقد يقع في إشكال مع الولي، وهذا ما جعله يستقيل من هذا الدور".
أما فيما يتعلق بالجانب الأسري، فتقول الأستاذة ورفلي في حديثها مع "الترا تونس"، إن بعض العائلات لم تعد تقتني الأدوات من أجل التعلم بل من أجل التفاخر أيضًا، حتى أن البعض يتباهى بالمكتبة التي اقتنى منها الكتب، والفضاء التجاري الفخم الذي اقتنى منه الأدوات، والعلامة التجارية لهذه المقتنيات.
وتحمّل الأخصائية في الإرشاد التربوي المسؤولية أساسًا إلى العائلة التي تحاول توفير أدوات من أفضل العلامات التجارية للأطفال، كآلية لتعويضهم عن فترات الغياب الطويلة طيلة النهار وضعف التواصل نتيجة للضغوطات اليومية.
مختصة في الإرشاد التربوي لـ"الترا تونس": بعض العائلات لم تعد تقتني الأدوات من أجل التعلم بل من أجل التفاخر أيضًا
ولفتت محدثتنا أيضًا، إلى "التزايد الملفت في عدد المدارس الخاصة وهو ما خلق فوارق أخرى بين التلاميذ، إذ أن المدرسة الخاصة أرقى وأفخم هذا طبعًا إلى جانب الهوة التي أصبحت بين تلاميذ المدراس العمومية وتلاميذ المدارس الخاصة".
واعتبرت الأستاذة حليمة ورفلي في حديثها مع "الترا تونس"، أن "الأم أصبحت تلعب دور الشرطي في البيت نظرًا لحجم الضغوطات المسلطة عليها، وصارت تصدر التعليمات وتطلب من الطفل أن يطبقها دون الاهتمام في معظم الأوقات بما يعانيه بدوره من ضعوطات نفسية واجتماعية".
وبدوره أكد رئيس قسم الطب النفسي بمستشفى الرازي وحيد المالكي في تصريح لـ"الترا تونس" أن "الأطفال هم الفئة الأكثر أنانية لأن سنهم لا يسمح لهم بتنسيب الأمور ومازالوا غير قادرين على إدراك أهمية جوهر الأشياء عوضًا عن التركيز على المظهر الخارجي، ولهذا فهم يتأثرون بسرعة ويسعون إلى أن يكونوا الأفضل أمام أصدقائهم وهو أمر طبيعي جدًا في هذا السن"، وفق قوله.
واعتبر الدكتور وحيد المالكي أن الأطفال يمكن أن يتنمروا بأي طريقة كانت وهنا يكمن دور الأسرة التي يجب أن تخصص وقتًا كافيًا دوريًا وليس مناسباتيًا لتبسيط القيم الأخلاقية والإنسانية للأطفال، وحتى يبوح الطفل بما يعيشه من تنمر داخل القسم فأحيانا يخاف الطفل من البوح بما يحدث معه".
رئيس قسم الطب النفسي بمستشفى الرازي لـ"الترا تونس": تركيز الأطفال على المظهر الخارجي وسعيهم إلى أن يكونوا الأفضل أمام أصدقائهم هو أمر طبيعي جدًا في سنهم
ويضيف: "من العلامات التي يجب أن ينتبه إليها الولي هو تغير سلوك طفله كأن يصبح عنيفًا أو عدوانيًا أو يميل إلى الوحدة أو تغير نمط حياته فيصبح نومه متقطعًا ويفقد شهيته في الأكل فعليه وقتها أن يبحث عن الأسباب".
واعتبر الدكتور المالكي أن "أهم عامل يجب الانتباه له هو نتائجه الدراسية فإذا كانت نتائجه جيدة فهو بالتأكيد بخير مهما كان سلوكه لأن النتائج المتميزة تتطلب تركيزًا وانتباهًا للمعلم وبالتالي فإن الطفل سليم".
وأبرز رئيس قسم الطب النفسي بمستشفى الرازي لـ"الترا تونس"، أن في كل مدرسة طبيب يشرف على صحة تلاميذها في إطار خدمات الطب المدرسي والجامعي وبالإمكان الاتصال بمدير المدرسة الذي سيدله عليه عند الحاجة، مضيفًا أن "الصحة نفسية التلميذ هي محل ملاحظة الأسرة وكذلك المعلم الذي يمكن أن يتفطن إليها".