ساعدت الثورة الاتصالية وخصوصًا عولمة منظومات الإنترنات ونشوء الفضاء السيبرني وتحوّله إلى حياة موازية تامة الأركان تدبّ في عروق الأثير وتسيّرها أقمار صناعية سابحة في الفضاء الواسع وما تفرّع عنها من شبكات متشابكة للتواصل الاجتماعي، على نسف الثابت والهدوء الذي تلا عواصف الثورة الصناعية وتحويل المسافات من عالم الفيزياء إلى العالم الافتراضي، وهو ما سيؤدي بدوره إلى تغيرات جذرية تهم كل شيء يزول معها الاختلاف الذي يجمّل الحياة منذ آلاف السنين وتزول معها فتنة الأشياء ومعاني اللغات.
أصبح لظاهرة "زحلقة" السيارات مغامروها في كل مكان من العالم رغم خطورتها، وقد تحولت في بلدان عديدة إلى ظاهرة تدّعي أنها رياضية في حين أن الرياضات الميكانكية تتنصل منها
لقد تحول الكوكب الأزرق إلى قرية صغيرة يمكن للواحد منّا أن يسافر إلى آخر الدنيا من دون قطع ميل واحد.. لقد أصبح للجغرافيا معنى جديدًا لم تألفه من قبل. ولا يخفى على أحد أن الشباب في كل المجتمعات هم من يقود هذه الثورات اللامرئية فيما يتعلق بالعالم في شكله وصيغته الجديدة وذلك بحكم تغير النظم التربوية التي باتت تعوّل كثيرًا على ثورة الخوارزميات. فكل شيء يتنقل بهدوء عبر الأثير وفي لمح البصر، تطير الأفكار والأحلام وتتنقل الفنون والاختراعات وتسافر الأموال إلكترونيًا وتأتي التقليعات في حينها. هذا هو وجه العالم الجديد.
ومن التقليعات الشبابية المتجددة والآخذة في التسرب إلى أغلب المجتمعات بواسطة انفجار شبكات التواصل الاجتماعي، نجد التزحلق بالسيارات والتي تحولت في بلدان عديدة إلى ظاهرة تدّعي أنها رياضية في حين أن الرياضات الميكانكية تتنصل منها.. وقد أصبح لهذه الظاهرة مغامروها في كل مكان من العالم رغم خطورتها.
"زحلقة السيارات" هي مجموعة الحركات التي يقوم بها السائق الشاب لجعل السيارة تنزلق لأمتار مع التحكم فيها، مما يتسبب في إصدار أصوات انزلاق للعجلات على أسفلت الطرقات والساحات
وتتمثل هذه الظاهرة الميكانيكية في مجموعة من الحركات التي يقوم بها السائق الشاب أو "المزحلق للميكانيك" وهو جعل السيارة تنزلق لأمتار مع التحكم فيها بأن يكون اتجاه العجلات الأمامية مخالفًا للاتجاه الفعلي الذي تسير فيه وفي الوقت نفسه تكون تحت السيطرة بالفرامل مما يتسبب في إصدار أصوات انزلاق للعجلات على أسفلت الطرقات والساحات.
هذه الظاهرة الشبابية انتشرت في تونس في السنوات الأخيرة لكنها استفحلت في الأشهر الأخيرة وتنقلت إلى المدن الكبرى من شمال البلاد الى جنوبها وأصبحت تقليعة للتنافس بين الأحياء والمدن وقد ساهمت الصور الملتقطة للعروض والفديوهات المسجلة لهذه العروض والمروجة تباعًا على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي الخاصة بالشباب في ترويج هذه الظاهرة وتأجيجها فخلقت لها جمهورًا ومتابعين ومعجبين وأيضًا تسببت هذه الظاهرة في حوادث أليمة وخسائر مادية شملت أساسًا السيارات.
"الترا تونس" تناول هذه الزاوية في التقرير التالي:
رأي الشباب المهتم بهذه الظاهرة: نحن نبحث عن السعادة والإحساس بالقوة
"نحن مجموعة من الشباب التونسي الشغوف بسياقة السيارات والميكانيك و'التونينق' (تغيير الشكل الخارجي للسيارة: شكل الأضواء، الطلاء، قابضات الأبواب..) نعتبر أن هذا المجال هو عالمنا الصغير الذي نقيم فيه ونسعد بذلك.." بهذه الجملة بدأ عاطف النوايلي حديثه لـ"الترا تونس" وهو شاب عمره عشرون سنة وتلقى تكوينًا مهنيًا في ميكانيك السيارات والشاحنات الثقيلة لأحد مراكز التكوين والتدريب التونسية.
شاب عشريني لـ"الترا تونس": متعتي المثلى تتمثل في الخروج إلى الشوارع مع أصدقائي بسيارات غريبة اللون والشكل والشروع في "التزحلق" في الطرقات والأماكن والساحات والتقاطعات التي لا تعرف زحمة مرورية
ويضيف عاطف النوايلي أنه ومجموعة من الأصدقاء المهتمين اشتركوا في اقتناء سيارتين قديمتين من الماركات الألمانية الشهيرة من سوق اليهودية للسيارات القديمة (وهو مكان في الضاحية الغربية للعاصمة تونس يوجد بين المروج والمحمدية ويشتهر ببيع قطع غيار السيارات المستعملة..) وأدخلوا عليها تغييرات في شكلها ولونها وأصلحوا أعطابها الميكانيكية واقتنوا لها عجلات خاصة بالسيارات الرياضية. وقد تطلب ذلك أشهرًا من الصيانة والعمل الممتع و"الكيف" على حد عبارة هذا الشاب.
وأكد النوايلي أنه يلتقي مع أصدقائه في ورشته المنزلية بإحدى القرى الفلاحية التابعة لولاية منوبة وهناك يقضون الأيام والليالي في الاعتناء بهذه السيارات فالوقت بالنسبة إليهم يتحول إلى مطلق، أما المتعة المثلى فتتمثل في الخروج الشوارع بسيارات غريبة اللون والشكل والشروع في "التزحلق" في الطرقات والأماكن والساحات والتقاطعات التي لا تعرف زحمة مرورية. مشيرًا إلى أن جزءًا من متعتهم يتمثل في رؤية الدّهشة والانبهار والاستغراب في أعين المشاهدين الذين حملتهم الصدفة لمكان "زحلقة" السيارات وخصوصًا الشباب في مثل سنهم.
"مزحلق" سيارات لـ"الترا تونس": متعتي تكمن في رؤية الدّهشة والانبهار والاستغراب في أعين المشاهدين الذين حملتهم الصدفة لمكان "الزحلقة" وخصوصًا الشباب في مثل سني
ومن نفس هذه المجموعة أكد أحمد وهو بعد تلميذ بالبكالوريا أنهم يقومون بتصوير بعض المشاهد وتنزيلها على صفحاتهم الخاصة وذلك ضمن سيناريو خاص حيث يدعون مصورًا محترفًا حتى تكون المادة المصورة جذابة وأنيقة وصادمة لقلوب عشاق هذه التقليعة. وعن خطورة هذه الظاهرة أشار أحمد أنهم يتفقون منذ البداية على التوجه إلى الأماكن التي لا توجد بها زحمة مرورية فيقومون بتلك الحركات الميكانيكية الرائعة والتي تشعرك بالقوة وتمنحك طاقة إيجابية وفق قوله. وأضاف أن ما يقومون به لا يمثل خطرًا على أحد إذا كانت الطريق خاوية.
ومن جهته تحدث محمد أمين الساحلي (تلميذ) وهو من نفس مجموعة شباب منوبة، عن هذه الظاهرة الجديدة المنتشرة في تونس معتبرًا إياها مظهرًا تنشيطيًا ترفيهيًا ممتعًا بالنسبة للممارسين من جهة والمتفرجين من كل الفئات من جهة ثانية، وأوضح أنه لمس ذلك في عيون الناس الذين يتوافدون بكثافة إلى الأماكن التي يدار فيها تحريك السيارات وفرملتها حتى تحدث تلك الأصوات الانزلاقية الخلابة. وأشار الساحلي إلى أن مجموعتهم تذهب من حين إلى آخر إلى أماكن تجمع هواة هذا النوع من اللعب ومداورة السيارات وخصوصًا تقسيم جهة البحيرة الكائن في اتجاه الضاحية الشمالية للعاصمة تونس، حيث يأتي المولعون بسياراتهم المختلفة الأحجام والألوان والماركات وأغلبها معدلة ومن الموديلات القديمة، فيحصل نوع من التباري والاستعراض للمهارات في قيادة السيارات وجرّها على الأسفلت بالدوس على الفرامل وعادة ما يكون ذلك في عطلة نهاية الأسبوع.
تلميذ بكالوريا لـ"الترا تونس": نصوّر بعض المشاهد ونشاركها على السوشال ميديا بعد دعوة مصوّر محترف حتى تكون المادة المصورة جذابة وأنيقة وصادمة لقلوب عشاق هذه المغامرة
أما عماد الدواس الذي أنهي دراسته الجامعية مؤخرًا في مجال التسويق الإلكتروني، وهو أيضًا من نفس المجموعة فإنه يعتبر التزحلق بالسيارات أو انزلاق السيارات المتحكم فيه هوايته المثلى وهو يقضي ثلث وقته في ورشة صديقه الذي يزوره يوميًا. وقد أوضح أنه تأثر في ذلك بشباب بلدان الخليج العربي الذين لهم الأسبقية في هذا المجال، بل حوّلوا ما يسمونه "التفحيط" إلى واقع شبابي وممارسة يومية ترفيهية في المدن والحلبات أو في الصحراء أثناء التريّض.. واقترح الدواس أن يتم تبني هذه المجموعات الشبابية المهتمة وهؤلاء الأفراد الشغوفين بهذا النوع من قيادة السيارات من قبل الجامعة التونسية للرياضات الميكانيكية فتتولى تنظيم دورات تكوينية في السلامة والقيادة والميكانيك، وإحداث مسابقات جماعية وأخرى فردية ولمَ لا الذهاب لتقنينها وفق رأيه.
شاب لـ"الترا تونس": أقترح أن يتم تبني هؤلاء الأفراد الشغوفين بهذا النوع من قيادة السيارات من قبل الجامعة التونسية للرياضات الميكانيكية فتتولى تنظيم دورات تكوينية في السلامة والقيادة والميكانيك
كما حدثنا الشاب الدواس عن الدعوات التي تأتيهم من قبل شباب مثلهم من أجل تنظيم استعراض زحلقة السيارات وأنهم أحيانًا يلبّون دعوات فيشاركون في بعض التظاهرات وذلك دون الخروج عن القوانين التي تنظم السياقة في تونس.
علم الاجتماع: لا بدّ من فهم هذه الظاهرة والاهتمام بها
الأستاذ سفيان الفراحتي المختص في علم الاجتماع والباحث بالجامعة التونسية أوضح لـ"الترا تونس" أن هذه الظاهرة كان منطلقها الولايات المتحدة الأمريكية في سبعينات القرن الماضي ثم انتشرت في أوروبا وتنقلت فيما بعد إلى أغلب بلدان العالم وهي ظاهرة تقيم على هامش رياضة سباق السيارات المحترفة والرياضات الميكانيكية بشكل عام.
مختص في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": ظاهرة زحلقة السيارات هي ظاهرة تقيم على هامش رياضة سباق السيارات المحترفة والرياضات الميكانيكية بشكل عام
وينزع إليها عادة فئة الشباب ويستعملونها كتعبيرة من تعبيراتهم المختلفة والمنشقة، وهي غير مكلفة بالنسبة إليهم وترتكز على الحد الأدنى المالي، لكن قوامها الأساسي هو الرغبة والشغف والالتزام والذهاب إلى الأقصى بمحرك السيارة.
وفي تونس، انتشرت ظاهرة زحلقة السيارات منذ مدة خصوصًا في التسعينات وكانت حكرًا على مناطق وبعض الضواحي الميسورة خاصة، ثم تحولت إلى مشهديات تنشيطية صغيرة تسبق رياضة سباقات السيارات التي تجرى في تونس.. لكن ومع انتشار الإنترنت وخصوصًا انفجار شبكات التواصل الاجتماعي، اهتم الشباب التونسي أكثر فأكثر بهذه الظاهرة وأصبحت موجودة حتى بالمدن الصغيرة.
مختص في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": هذه الظاهرة الجديدة التي تغزو عقول الشباب التونسي بحثًا عن لذة وسعادة ما، يبدو أنها مهملة وغير مقننة وغير مدروسة وهو ما يجعل ممارسيها من الشباب في خطر
وأشار الأستاذ الفراحتي إلى أن كل ظاهرة تنبت في المجتمع لا بدّ لها من تأطير واهتمام ودراسات تحيط بها من من قبل المختصين من أجل فهمها، واستيعاب مدى استمراريتها والفوائد التي تحصل من خلالها والنظر في المخاطر التي قد تنجر عنها. وأضاف أن هذه الظاهرة الجديدة التي تغزو عقول الشباب التونسي بحثًا عن لذة وسعادة ما، يبدو أنها مهملة وغير مقننة وغير مدروسة وهو ما يجعل ممارسيها من الشباب في خطر وربما تتهدد سلامتهم وسلامة غيرهم في بعض الأحيان خاصة وأنهم ينشطون في أحيائهم وفي أماكن غير مخصصة لذلك.
وختم المختص في علم الاجتماع حديثه لـ"الترا تونس" بأنه لا بدّ من الاهتمام بهوايات الشباب وخاصة الجديدة منها والتي تبدو غريبة أحيانًا وخلق الظروف الطيبة لممارستها.
تبقى ظاهرة زحلقة السيارات وانتشارها السريع في تونس هواية للشغف والحلم والإحساس بالقوة والانطلاق والحرية، اهتم بها الشباب التونسي في أكثر من مدينة وقرية وهو من خلالها يعبّر عن وجوده وعن أخلاقه. وبالتالي لا بدّ لهذه الهواية الوافدة من تعاطٍ جدي والبحث عن أطر قانونية لممارسيها.