مقال رأي
لم يكن الشارع الاجتماعي في تونس ميالًا في الأصل للنخبة. كان زمنه ونسقه ميالًا للتفرد بعيدًا عنها. لكن لم تكن الهوة بينهما عميقة بالقدر الذي نعيشه الآن. عزلة النخبة المعارضة، السياسية والاجتماعية، بأطيافها ليست المعطى الجديد. عزلة الرئيس، المستند في خطابه وجوهر وجوده أصلًا إلى رابط استثنائي مع الشارع في مواجهة النخبة، هي المعطى الذي بصدد التشكل.
ومع تزايد مؤشرات تململ الشارع في سياق أزمة اجتماعية مركبة بين عوامل داخلية هكيلية وظرفية، وأخرى دولية، في سياق "أزمة فوق أزمة" مثلما يقول التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي، تبدو المعضلة الأكبر في ضمور أي إمكانية للتقاطع بين الشارع الاجتماعي وأي تعبير طليعي منظم بأفق سياسي.
تبدو المعضلة الأكبر في تونس حاليًا في ضمور أي إمكانية للتقاطع بين الشارع الاجتماعي وأي تعبير طليعي منظم بأفق سياسي
لنعرف أولاً الشارع الاجتماعي. هو طليعة غير منظمة، "شبابية" في الأغلب، تعبر عن احتقان اجتماعي عميق تتمظهر في حالة احتجاجية منفلتة تتسلح بعنف "بدائي" ضد أي تعبير عن الدولة، وخاصة منها التعبير العنيف المادي، "البوليس"، أو "الحاكم" مثلما يقول اللسان الدارج.
من بين المحطات البارزة لتمظهره، ذلك الشارع الذي نزل في الأحياء الشعبية وأعماق البلاد المهمشة في أحداث جانفي/يناير 1978 و1984 وأحداث الحوض المنجمي أيضًا. وبكل تأكيد أهم محطة وأكثرها فاعلية ونجاحًا وتأثيرًا أحداث الثورة. وبينها وبعدها مسار لم ينقطع يتململ فيه بشكل متواتر بمعزل عمومًا عن المسار النخبوي. لكن من الأمانة أيضًا أن نقول إن الانتخابات كانت بشكل نسبي امتدادًا للتعبير الاحتجاجي للشارع الاجتماعي. كانت "روح" الشارع الاجتماعي تترك أثرها في اتجاهات أو خطاب النخبة السياسية أو في اتجاهات التصويت، خاصة بمعناه "العقابي".
في بعض الحالات كان هناك رابط ما بين الشارع الاجتماعي والتعبير المنظم أو النخبوي عن المسألة الاجتماعية أي الاتحاد العام التونسي للشغل. كانت الفترة الذهبية لهذه العلاقة مرحلة السبعينيات التي وصلت ذروتها في أحداث 26 جانفي. لكن كانت هناك أيضًا محطات التحام محتشمة أو نسبية في أحداث الحوض المنجمي أو أيضًا أحداث الثورة وما تلاها من اعتصامات القصبة.
كانت قيادة الاتحاد ملتحمة بالنخبة أكثر منها بالشارع، سواء عندما كانت مرتبطة عضويًا بالسلطة (ممثلة في الديوان السياسي للحزب أو في البرلمان) أو عندما ساهمت بشكل حاسم في تشكيل مختلف "توافقات" الثورة أو ترتيبات السلطة فيما بعد عبر "الحوار الوطني". لكن كانت الكوادر الوسطى والقاعدية للاتحاد، والكثير منها سياسي متحزب التجأ إلى الاتحاد هربًا من التضييق على المجال الحزبي، تملك علاقة أكثر حميمية مع الشارع، وهو ما سمح للاتحاد بالتقاطع مع الشارع حتى عندما كان قريبًا من السلطة. كتاب هالة اليوسفي "الاتحاد قصة شغف تونسية" رصد ذلك بشكل مفصل في خصوص أحداث الثورة.
قبل الثورة كان الشارع الاجتماعي يمثل ميزان القوى الأهم مع السلطة المستبدة، هو الذي يملك القدرة على إحداث الارتجاج في قناعات السلطة وثقتها في خياراتها وحتى في صراعات الأجنحة داخلها
قبل الثورة كان الشارع الاجتماعي يمثل ميزان القوى الأهم مع السلطة المستبدة. هو الذي يملك القدرة على إحداث الارتجاج في قناعات السلطة وثقتها في خياراتها وحتى في صراعات الأجنحة داخلها. سواء مرحلة صعود اليسار الراديكالي في السبعينيات أو في مرحلة صعود الإسلام الراديكالي في الثمانينيات كان هناك تقاطع محتشم وضامر بين النخبة السياسية الراديكالية أيديولوجياً وبين الشارع الاجتماعي، وكان أكثر هذا التقاطع يحصل عبر الأطر النقابية.
لو تمعنا بشكل مدقق في التاريخ المصغر لأحياء شعبية مثلت رمزيًا الشارع الاجتماعي مثل "الجبل الأحمر" سوف نلاحظ حضور كوادر ومناضلي هذه الحركات الراديكالية مبثوثة في ثناياها. كان هناك حلم "ثوري" رومانسي لديها في التحول إلى طليعة سياسية للشارع الاجتماعي، وإن كان ذلك بديهي في الخطاب اليساري الراديكالي بمنطق "ثورة العمال والفلاحين"، حضر ذلك الحلم أيضًا في الجناح المتأثر بالثورة الإيرانية داخل "الاتجاه الإسلامي" بمنطق "ثورة المستضعفين".
ولا يزال هذا الحلم الرومانسي يراود بعض بقاياها لكن بنوستالجيا مهترئة. في خضم أحداث الثورة أضحى معظم النخبة "إصلاحيًا" لا يؤمن أصلًا بأن للشارع قوة الحسم، أنه معني بـ"حرب تحرير" بل فقط بأنه قادر على "تحريك" بعض موازين القوى. بل إن بعض النخبة المعارضة كان متهيبًا في البداية من عنفوان الشارع الاجتماعي الذي تفجر بشكل مفاجئ للجميع. نجاح الشارع الاجتماعي في فرض نسقه في مع حلول جانفي/يناير 2011 قبل ثم خاصة بعد هروب بن علي، إلى أن تبنت النخبة بشكل متدرج لكن واضح شعاراته، وعلى رأسها مختلف تنويعات شعار "الشعب يريد".
الاحتجاجات الراهنة للشارع الاجتماعي في تونس متعلقة بالعنف المادي ضد شبيبة الكرة والعنف الرمزي عبر الإهمال أو حتى الإهانة في خصوص ضحايا الهجرة غير النظامية
إذا تمعنا في الاحتجاجات الراهنة مثلًا للشارع الاجتماعي في تونس تبدو متعلقة بدافعين، كلاهما يعكس الاحتقان ضد العنف الرمزي للدولة. شبهة العنف المادي الخام ضد شبيبة الكرة، والعنف الرمزي عبر الإهمال أو حتى الإهانة في خصوص ضحايا الهجرة غير النظامية. هنا تلخص كلمة "الحقرة" هذا الشعور العميق بالظلم. ومن أعماق ذلك الشعور بالحقرة تنبع شعارات تهديدية وحانقة مثل "إما العدالة أو الفوضى".
وهنا ليكن واضحًا منذ البداية أن النخبة الحزبية التي أسست للديمقراطية الفاسدة لا يمكن أن تجني حصاد الشارع الاجتماعي ولا أن تكون مقصده. بل بالعكس هي مستهدفة منه كجزء من الشكل لا سيما منها التي تورطت إلى الأقصى في تهرئة فرصة الثورة وقبرها ومنع أي إصلاحات فعلية واستعمال التداول الانتخابوي كغطاء للتموقع في الدولة لا غير. ولم تقم حتى بمراجعات الحد الأدنى ولا تزال تتشبث، خاصة قيادة راشد الغنوشي للنهضة، بأن أقصى أخطائها كانت طيبتها الزائدة عن اللزوم ونكرانها للذات وربما أيضًا سذاجتها. حالة مستعصية من الإنكار.
قيس سعيّد بنى كل سيرته السياسية على الالتصاق باعتصامات وتحركات الشارع الاجتماعي وهو الآن بصدد وراثة وتملك عنف الدولة الرمزي وأصبح هو أيضاً في مرمى الاحتقان
في المقابل، من المفارق أن قيس سعيّد بنى كل سيرته السياسية على الالتصاق باعتصامات وتحركات الشارع الاجتماعي غير المتحزب. حرص دائمًا أن يكون قريبًا منها، واشتغل خطابه على مركزية "الشعب يريد"، وكاستحضار لأصولية خطاب الثورة. إلا أنه بوصفه المالك الحصري للدولة، والتي كانت فرصة قبل أن تتحول إلى ورطة في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية المركبة، فإنه بصدد وراثة وتملك عنف الدولة الرمزي، وأصبح هو أيضاً في مرمى الاحتقان.
في جوهر العطب الذي يواجهه قيس سعيّد عجزه عن فهم أنه لا يمكن لأي إصلاح أن يتم إلا عبر النخبة، وأنه الآن هو رمز النخبة ورأسها وأنه لا يمكن أن يتملص من مسؤولية الإنجاز تحت عنوان لنترك "الشعب يريد" وتحميل مشكلات الحاضر إلى الماضي أو الماضي الحاضر لمؤامرات هلامية.
احتجاجات الشارع الاجتماعي التي تزايدت وتيرتها في تونس ربما لا تتجه بعد إلى "ثورة" عاجلة لكنها تعكس تململًا عميقًا من كل النخبة. وإن لم تبتدع طلائع جديدة ذات أفق سياسي واقعي فإنها لن تفعل إلا التمهيد لحالة ارتباك عامة جديدة وربما الفوضى
احتجاجات الشارع الاجتماعي التي تزايدت وتيرتها في تونس ربما لا تتجه بعد إلى "ثورة" عاجلة لكنها تعكس تململًا عميقًا من كل النخبة. وإن لم تبتدع طلائع جديدة ذات أفق سياسي واقعي فإنها لن تفعل إلا التمهيد لحالة ارتباك عامة جديدة وربما الفوضى. ومن ثمة إمكانية تحول الشارع الاجتماعي إلى طوائف منغلقة على ذاتها في الأحياء والجهات تفتك حقوقها عبر حالة اللادولة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"