مقال رأي
يقترب الانقلاب من أن يغلق العام من الهدم المنهجي والعبث بكلّ ما بُني من مؤسسات ديمقراطية طوال عشريّة الانتقال الديمقراطي. ولم يكن الاستناد إلى الفصل 80 من الدستور إلاّ خدعة للانقلاب على الدستور والديمقراطيّة بتحويل حالة الاستثناء المتحجّج بها إلى وضع دائم بلا شرعيّة إلاّ الرغبة في تصفية دستور الثورة وما مثّله من نقلة نوعيّة في مجال الحريات والانتظام السياسي والحداثة السياسية، ونظام سياسي فردي سلطوي بلا مشروعيّة إلا التحايل المفضوح على نتائج الانتخابات الرئاسية وتوظيفها خارج حدودها الدستورية ومقاصد الناخبين.
"حصول سعيّد على 70% في أصوات الناخبين تمّ على أساس دستور 2014 ليكون رئيس التونسيين بالصلاحيات التي يضبطها الدستور نفسه وذلك لا يعطيه الحق في أن ينقلب على العهود والمواثيق"
حصول قيس سعيّد على أكثر 70% في أصوات الناخبين تمّ على أساس دستور 2014 ليكون رئيس كلّ التونسيين وبالصلاحيات التي يضبطها الدستور نفسه. وكلّ ذلك لا يعطيه الحقّ البتّة في أن ينقلب على العهود والمواثيق. وقد كان أقسم بأغلظ الأيمان على احترامها والوقوف عند حدودها والتعهّد بصونها. ولكنّه انتهى إلى نكث العهد والحنث باليمين، وجعَل من هذا الانحراف الشامل عن القانون والسياسة والأخلاق قاعدة لنظام حكم فردي شاذ بلا نظير في نظم السياسة الحديثة.
- استنساخ متدرّج
لا معنى للعودة إلى أسباب الانقلاب، بعد حوالي سنة على وقوعه، وبعد كلّ هذا الدمار الذي أحدثه في الدولة والمجتمع. ولكننا نستعيد لحظة الانقلاب لنتبيّن المواقف المختلفة ومرجعيّاتها السياسيّة والأخلاقيّة وعلاقتها بالثقافة الديمقراطيّة. ونتوقّف عند تطوّر هذه المواقف بعد حوالي سنة على الانقلاب. وعلاقة هذا التطوّر بالديمقراطيّة وشروطها.
وعند هذا المستوى تقوم جملة من الأسئلة التفصيليّة عن أسباب مساندة الانقلاب ودواعي مناهضته: فمن أيّ منطلق وعلى أيّ أساس ساند بعض الطيف الحزبي الانقلاب؟ ولِمَ ناهض طيف آخر الانقلاب، منذ الانتهاء من قراءة بيان الانقلاب يوم 25 جويلية/يوليو 2021؟ وهل من تفسير لأن يكون جلّ المساندين للانقلاب من الشبّيحة واليسار الوظيفي والتجمّع برعاية المنظومة القديمة؟ وما دلالة أن يكون أغلب المناهضين للانقلاب من حركة النهضة ومن محيط الحراك المواطني القريب من حزب المؤتمر واليسار الوطني وجلّ الطيف السياسي المحسوب على الصفّ الثوري؟
"الانقلاب في تونس كان على نهج السيسي في مصر، بعد أن تمّت تهيئة كلّ أسبابه بتعطيل مسار بناء الديمقراطية وترذيل كلّ ما ارتبط به"
الانقلاب لم يكن حدثاً فجئيّا على الطريقة الإفريقيّة وبيانًا يتلوه جنرال أو مَنْ هو دون رتبته في الجندية مع غلس الفجر. يوم جديد معه يبدأ التاريخ والمجد. بل كان انقلاباً على نهج السيسي في مصر، بعد أن تمّت تهيئة كلّ أسبابه بتعطيل مسار بناء الديمقراطية وترذيل كلّ ما ارتبط به.
إنّ ما حدث في تونس استنساخ لنموذج الانقلاب في مصر بشروط تونسيّة. وإذا كانت القوى الانقلابية في مصر نجحت في استنزاف تجربة الانتقال وترذيلها ومنع المفوّضين انتخابيًا لتسيير المرحلة من تحسين مستوى المعيشة والتخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية فإنّ ذلك لم يتسنّ في تونس إلاّ بعد 10 سنوات.
ويعود هذا الأمر إلى ثلاثة أسباب أساسيّة توفّرت في تونس ولم تتوفّر في مصر وتمثّلت في إجماع على فكرة الدولة، ومؤسسة عسكريّة بعيدة عن السياسة ورهاناتها ،ولقاء بين قوّتي الاعتدال من القديم والجديد من أجل توافق يحتاجه بناء الديمقراطية واستكمال مؤسساتها.
"بقدر ما كانت سنوات الانتقال العشر في تونس مثابرة على تأسيس الحرية في مؤسسات ديمقراطيّة من قبل القوى المنتصرة للثورة لم تتوقف محاولات الانقلاب على المسار طيلة عشرية الانتقال"
وبقدر ما كانت سنوات الانتقال العشر في تونس مثابرة على تأسيس الحرية في مؤسسات ديمقراطيّة من قبل القوى المنتصرة للثورة لم تتوقف محاولات الانقلاب على المسار طيلة عشرية الانتقال من قبل المنظومة القديمة ولواحقها الوظيفيّة. ولم يكن من المصادفة في شيء أنّ القوى التي قادت اعتصام الرحيل في جبهة الإنقاذ بقيادة الباجي قايد السبسي من أجل إيقاف المسار التأسيسي، ودعت الجيش التونسي إلى النسج على منوال المؤسسة العسكريّة في مصر هي نفسها تقريبًا القوى التي حرّضت قيس سعيّد على إيقاف المسار الديمقراطي ثمّ ساندت انقلابه في 25 جويلية 2021 واعتبرته لحظة وطنيّة يمكن البناء عليها.
- إسقاط معجمي وتحويل دلالي
خيّم صمتٌ على المشهد السياسي بعد 25 جويلية/يوليو 2021، لأكثر من خمسين يومًا إلاّ من جدل حول طبيعة ما سمّي بإجراءات استثنائيّة وما إذا كانت انقلابًا أم هي تصحيح مسار على ضوء قراءة مخصوصة للفصل 80 من الدستور. وكان الموقف الغالب عند مراجع القانون الدستوري أنّ ما حدث خرق للدستور وانقلاب على الديمقراطية. وكان للبروفيسور عياض بن عاشور القول الفصل. ولكنّ إعلام المنظومة كان الأكثر ترويجًا لأكذوبة الاستجابة الشعبيّة الواسعة لانقلاب قيس سعيّد. وتشير إحصائيات رسمية إلى أنّ عدد الذين دُفعوا إلى المشاركة في أحداث 25 جويلية لا يتجاوز عشرة آلاف متظاهر في كامل البلاد جلّهم من ميليشيات الحشد والبوليس السياسي الوطدي وشُعب التجمّع والمرتزقة.
اجتهد الإعلام النوفمبري في فرض سرديّته سرديّة تصحيح المسار وأنّ الشعب حسم بجذريّة في منظومة الفساد. والمقصود بها حركة النهضة وحلفاؤها في عمليّة إسقاط دلالي خطيرة تقلب العلاقة بين القديم والجديد. قلب دلالي يسحب ما شاع من معجم عن نظام بن علي الزبوني المافيوزي وعلى كلّ ما له علاقة بالثورة. وساعد على عمليّة التحويل الدلالي هذه انتساب قيس سعيّد ادّعاءً إلى ما سُمِّي بالصف الثوري. وهو ما سهّل وسْم الانقلاب على المسار الديمقراطي بالعمل التصحيحي. ولو كان المنقلب صريح الانتماء إلى نظام بن علي لصعب تقبّل "دعوى التصحيح" عند أوسع الفئات الشعبيّة. فالسيستام أراده انقلابًا على الثورة بعنوان من عناوينها (وإن كان منتحلاً) ثأرًا لنظام بن علي.
وساعدت شيطنة حركة النهضة التي سبقت حدث الثورة بثلاثة عقود من زمن الاستبداد ورافقت سنوات الانتقال وتواصلت بعد الانقلاب على تقبّل فكرة التصحيح، إلى جانب عجز من تمّ تفويضهم للحكم في ثلاث مناسبات على تحقيق الأدنى من الخدمات الاجتماعية وتحسين ظروف العيش في ظلّ أزمة ماليّة اقتصاديّة متفاقمة.
وكان لإعلام الثورة المضادّة في المجال العربي (السيسي، آل زايد، آل سلمان) دور بارز في فرض سرديّة التصحيح على المستوى الإقليمي، وبلغ الأمر إلى حدّ تهنئة الشعب التونسي الذي قال أخيرًا كلمته في "الإخوان المجرمين" واستأصل أخطبوطهم في الدولة والمجتمع المدني.
"أمكن للحراك المواطني في شهريه الأولين دحض أكذوبة التفويض الشعبي وترسيخ أنّ حقيقة ما يجري من صراع إنّما هو مواجهة مفتوحة بين الانقلاب والديمقراطيّة"
لم يكن في المشهد الحزبي المنهك قدرة على ردّ الفعل تجاه انقلاب يهدّد بمسح طاولة الخارطة السياسية. غير أنّ خرْق الصمت جاء من جهة لم يكن متوقّعًا منها ردّة فعل بخطاب سياسي نوعي يخرج عن السائد. ولقد أمكن لهذا الخطاب أن يسري بسرعة في الموات الحزبي. وكان لخطاب مواطنون ضد الانقلاب دور حاسم في استنهاض المشهد الحزبي والمنظّماتي وهزّه هزّا قويًّا. وكان اتساع حجم المشاركة الشعبيّة المطّرد يشير إلى ميلاد شارع ديمقراطي يقارع المنظومة القديمة وسيستامها المتخفية وراء الانقلاب ويكشف علاقتها المتينة به ودعمه من قبل لوبياتها في المال والأعمال والإدارة والأجهزة. أمكن للحراك المواطني في شهريه الأولين دحض أكذوبة التفويض الشعبي وترسيخ أنّ حقيقة ما يجري من صراع إنّما هو مواجهة مفتوحة بين الانقلاب والديمقراطيّة.
- مخاض عسير
كان للمنازلة بين الانقلاب والشارع الديمقراطي على مدى عشرة أشهر أثرها المباشر على مواقف القوى الحزبيّة والمنظّماتيّة. وارتسم اتجاه عام تمثّل في الانفضاض التدريجي من حول الانقلاب وزمرته. ومما ضاعف من تفكك صفّ الانقلاب نزعة سعيّد الفرديّة ورفضه تشريك من ساند انقلابه من قوى المنظومة القديمة ولواحقها الوظيفيّة. فالاتحاد العام التونسي للشغل كان من بين القوى الاجتماعية التي ساندت الانقلاب، بل إنّ الاتحاد لم يغادر سقف الانقلاب حتّى بعد أن شنّ إضرابًا عامًّا في القطاع العام، وحتّى وهو يعلن منذ يوم عن مبدأ إضراب عام يشمل القطاع العام والوظيفة العمومية، في خطوة تصعيديّة متقدّمة.
ومع ذلك فإنّ الاتحاد العام التونسي للشغل لا يربط بين مسار إسقاط الانقلاب المتعاظم ودعوته إلى الإضراب العام. وهذا ما أشار إليه رئيس جبهة الخلاص الوطني نجيب الشابي حين تساءل، في كلمته في مسيرة 19 جوان/يونيو بالعاصمة، عن جدوى شنّ إضراب تحت سقف الانقلاب وفي مطالبة حكومة غير شرعيّة لا يمكن أن تكون نظيرًا ممثلًا للدولة في أيّة مفاوضات اجتماعيّة فضلاً عمّا تعانيه من تجاهل من قبل الصناديق المانحة والتعامل معها باعتبارها سلطة أمر واقع لا تواصل معها إلاّ في موضوع تمويل أدنى موجّه إلى الفئات الاجتماعيّة الضعيفة كي لا ينهار البلد وتتوسّع عدوى الفوضى إلى حوض المتوسّط.
ومن مفارقات المشهد السياسي في تونس بعد الانقلاب أنّ من أصرّ، في منطوق خطابه، على البقاء تحت سقف 25 يكشف فعله الميداني عن انزياح إلى مواجهة مع الانقلاب بما هي شراكة موضوعيّة في إسقاط الانقلاب، في حين أنّ من تطوّر موقفه، بعد تردّد، إلى مواجهة الانقلاب ينتهي إلى مهمّة جزئيّة بلا أفق واضح هي إسقاط الاستفتاء.
"الخطأ تحت سقف الديمقراطيّة لا يبرّر الوقوف إلى جانب خطيئة هدم الديمقراطيّة وتدمير الدولة وإرساء حكم الفرد"
وهذه المفارقة بقدر ما تعكس توتّرًا فعليًا داخل المنظّمة الشغيلة بين توجّهين لا يجمعها إلاّ اشتراكهما في مناهضة الإسلام السياسي دون التفكير في علاقة هذا المكوّن بالديمقراطية ودون أمل في الانتباه إلى كونه من شروط بنائها. وهذه المفارقة نفسها بقدر ما تكشف عن مخاض عسير داخل الأحزاب المحسوبة على التيار الديمقراطي الاجتماعي بين موقفين لا يجمعهما إلاّ تقاطعهما في الارتياب بحركة النهضة دون التفكير الجدّي في دورها في الانتقال الديمقراطي وبلا أمل في الانتباه إلى الشروط الفعليّة لبناء الديمقراطيّة.
وتعكس هذه المفارقة في موضعيْها (في المنظّمة الشغيلة وفي التيار الديمقراطي الاجتماعي) نزوعًا إلى الخروج من وظيفيّة رافقتهما طوال سنوات الانتقال العشر وكانت من بين الأسباب الرئيسيّة في امتناع استقرار الديمقراطية. وتشترك الجهتان في "المرجع" الإيديولوجي الذي قد يكون سببًا في قصور سياسي استراتيجي. وكلّ هذا لا يغطّي على أخطاء الجهة السياسية التي نعتبرها من بين شروط بناء الديمقراطية (النهضة). ولكنّ الخطأ تحت سقف الديمقراطيّة لا يبرّر الوقوف إلى جانب خطيئة هدم الديمقراطيّة وتدمير الدولة وإرساء حكم الفرد المتخلّف.
- تبيُّن شروط الديمقراطيّة
مع الحراك المواطني الظافر وعشيّة الإعلان عن جبهة الخلاص الوطني يمكن الحديث عن أربعة مواقف مجاورة للجبهة وشارعها الديمقراطي في القوى الرافضة للانقلاب يحدّدها الموقف من الانقلاب والوعي بشروط بناء الديمقراطيّة:
- رفْض الانقلاب منذ لحظته الأولى، وعبّر عن هذا الموقف حزب العمال وأمينه العام حمة الهمامي المهووس بفكرة الخطّ الثالث. واعتبر أنّ ما كان قبل الانقلاب ديمقراطيّة فاسدة مركزها حركة النهضة التي تحالفت مع القديم وأنّه لا حلّ إلاّ بشطب هذه المنظومة، وأنّ بديلها ليس حكم الفرد الذي يبشّر به قيس سعيّد. ويعلم حمّة الهمامي أنّه كان أوّل من استقوى بالقديم في جبهة الإنقاذ مع الباجي قايد السبسي ونداء تونس لوأد مسار التأسيس. رغم أنّه كان من أوّل المبادرين بفكرة المجلس الوطني التأسيسي في القصبة 1و2. وكان الاغتيال السياسي وما رافقته من دعوة دعوة ملحّة إلى استنساخ "نموذج السيسي" في الانقلاب على الديمقراطيّة سببين ضاعفا من هاجس النهضة الوجودي ودفعها نحو سياسة التوافق مع الباجي. ويذكر أمين عام حزب العمّال أنّه قطع الطريق على مرشح الثورة في 2014 وانتصر للباجي مرشّح المنظومة القديمة وأمكن لحزبه بالرئاسات الثلاث.
- رفْض الانقلاب يوم 25 ودعوة القوى الديمقراطيّة بأن تتآزر لمواجهة خطر الانقلاب الداهم. ولكنّه موقف يشدّد على أن تقدّم حركة النهضة نقدها الذاتي وتفصح عن مراجعات تطول عشريّة الانتقال وقد كانت النهضة الفاعل الأبرز فيها. وأنّ مثل هذه المراجعات بما يصحبها من اعتراف بالمسؤوليّة الأولى عن أزمة ما قبل 25 تمثّل ضمانة للمستقبل. ورفض أصحاب هذا الموقف الذي يمثّله الحزب الجمهوري العمل المشترك مع حركة النهضة ومواطنون ضدّ الانقلاب وهم يقودون الشارع الديمقراطي في مواجهة 25.
- موقف حرّض سعيّد على الانقلاب وسانده في انقلابه واعتبر كلَّ تحرّك في مواجهة الانقلاب إنّما هو في خدمة حركة النهضة. ويمثّل هذا الموقف حزب التيار الديمقراطي الذي التحق بمعارضة الانقلاب بعد الأمر الرئاسي 117 رغم أنّ النهضة ما تزال موجودة وبموقف مناهض للانقلاب وداعٍ إلى إسقاطه.
رغم تباين مواقف المعارضة في تونس فقد حاولت الاجتماع حول فكرة إسقاط الاستفتاء القادم
هذه المواقف الثلاثة رغم تباينها حاولت الاجتماع حول فكرة إسقاط الاستفتاء. وهو في حقيقته فرع عن أصل هو الانقلاب. ولذلك تباينت مواقف ما صار يعرف بالخماسي في علاقتها بالانقلاب وخطره على الحريات والدولة والعيش المشترك، وهو ما منعها من أن تجتمع على شروط إسقاطه.
موقف جذري من الانقلاب من منطلق الدفاع عن الحريات الأساسيّة ومسار بناء الديمقراطيّة. ومنطلق أصحاب هذا الموقف إيمان عميق بالديمقراطيّة تشهد بها مسيرة النضال السياسي والحقوقي قبل الثورة والانحياز للخيار الديمقراطي بعدها دون تبيّن دقيق منهم لشروط الديمقراطيّة (تحفّظات آليّة تجاه حركة النهضة). ويكثّف أحمد نجيب الشابي هذا الموقف. فقد دلّته ثقافته الديمقراطيّة ومسيرته الكفاحيّة إلى موقف حاسم من قيس سعيّد بسبب خرقه الصريح للدستور، قبل الانقلاب عليه. ولكن لم يكن له موقف حاسم من الدستوري الحر ونزوعه الفاشي.
ولكنّ الحراك المواطني واتساعه في مناهضة الانقلاب والدفاع لاستعادة الديمقراطيّة ومؤسساتها المنتخبة دلّه على حقيقة الصراع (انقلاب/ديمقراطيّة) وأطواره المتقدّمة (إضراب الجوع) وكان لما تحقّق من نجاحات ميدانية دور في تعميق الفرز السياسي قرّب الرجل ـ وهو أحد قادة حركة 18 أكتوبر 2005 ـ من الحراك المواطني وفتحت أولى محاولات التجبيه التي انتهت بتشكيل جبهة الخلاص الوطني، وهي اليوم تقود الحراك المواطني بمهمّتين: إسقاط الانقلاب والإعداد للبديل الديمقراطي، من موقع متقدّم محليًّا ودوليًّا.
- ملامح أولى لعالم جديد
وإلى جانب ما أشرنا إليه من آثار الإيديولوجيا على وحدة القوى المدافعة عن الديمقراطيّة، كان للمنظومة القديمة وفرنسا دور كبير في تواصل هذا التشتّت. ولا يخرج هذا عن كونه نتيجة لقابليّة جزء مهم من هذه القوى الوظيفيّة يؤججها ما يقوم من تعارض بين أداء القوّة الأساسية في بناء الديمقراطيّة (أداء النهضة المتعثّر) وما تعرفه من خلل بنيوي يمنعها من بلوغ منتهى تطوّرها المرتبط بقيام الديمقراطيّة واستقرارها (فكرة العدالة والتنمية أعلى مراحل الإسلام السياسي).
هذه المواطن لم تجد الجهد الفكري السياسي الضروري لتجاوز عقبات تأسيس الديمقراطيّة، وقد يكون الانقلاب فرصة تاريخيّة يتحوّل فيها المرحلي والمتمثّل في مواجهة الانقلاب وغلق قوسه إلى سياق استراتيجي يمكن من استجماع الأسس المتينة للمشروع الوطني. وأوّلها النظام السياسي الديمقراطي باعتباره مقدّمة لإعادة بناء الدولة كي تغطّي كلّ مجالها الثقافي السياسي والاجتماعي. ويكون برأب الصدعيْن الهووي (بناء مشترك وطني) والاجتماعي (تنمية شاملة مستدامة)، وهو ما سيخرجها من جهويّتها ليكسبها الصفة الوطنيّة لأوّل مرّة منذ تأسيسها مع البايات الحسنيين، إن لم يكن ذلك منذ أواخر العهد الحفصي.
لم تعرف أطوار بناء الديمقراطيّة في التجارب المعاصرة خارج المجال العربي ما عرفته التجربة التونسيّة. ويبدو أنّ الإرث الإيديولوجي باختلافاته وتناقضاته ما يزال قادرًا على إعادة إنتاج ما تبلور من جدل إيديولوجي تحت النظم الوطنيّة التي قامت في مواجهة ما كان يوصف بالنظم الرجعيّة في المرحلة الاستعماريّة وشبه الاستعماريّة في مصر وسورية والعراق وتونس...
ومن المفارقة أنّ المرحلة التي سبقت سلسلة الانقلابات برسم النخب العسكريّة العربيّة تميّزت بالتعدّدية الفكرية وبحياة سياسيّة تحت سقف عال من الحريّات والمشاركة الثقافيّة الواسعة. ولكنّ هذه النظم الوطنيّة لم تكن قادرة بحكم طبيعتها السلطويّة أن تتطوّر نحو دولة المواطنة. فكان الاستبداد الذي ميّزها إلى جانب حقيقة الاحتلال ( دولة الكيان) سببين أساسيين في منع اجتماع المجال العربي وبناء كيانه القومي مثلما تمكّن المجالان الجاران التركي والإيراني من بناء كيانهما السياسي المستقلّ.
"تعيش تونس في لحظتها هذه معركة الديمقراطيّة التي سيكون لنتائجها تأثير مباشر على المجال العربي وعلى محيطه الاستراتيجي وعلى أوسع نطاق من ذلك"
في هذا السياق كان شعار ثورة الحريّة والمواطنة المنطلقة من تونس: الشعب يريد إسقاط النظام (الاستبداد) الشعب يريد تحرير فلسطين (الاحتلال). ويمثّل بناء الديمقراطيّة مع الربيع العربي مسارًا تاريخيًا، قد يتعثّر أو يتعطّل ولكن يبدو أنّه ماض إلى غاياته. ومن هذا المنطلق، وبعد سكون محاولات بناء الديمقراطيّة في مصر وسورية واليمن وليبيا، وتحوّل معظم سياقاتها الثوريّة إلى حروب أهليّة وحصول انقلاب على الديمقراطيّة الناشئة في مصر بواسطة نخبة عسكريّة لا تختلف كثيرًا عمّن قاد انقلاب 52 لم يبق إلاّ مسار بناء الديمقراطيّة في تونس المنقلب عليه في 25 جويلية بغاية غلق ملفّ الربيع ومحاولات بناء الديمقراطيّة نهائيّا.
ويقوم اليوم أكثر من مؤشّر، في سياق صراع الشارع الديمقراطي والانقلاب، على أنّ معركة الديمقراطيّة لم تحسم. ولعلّ بابها سيفتح عنوة بعد محاولة غلقه عنوة من قبل انقلاب بلا مشروع ولا يملك عوامل الاستمرار. وفي كلّ الأحوال تعيش تونس في لحظتها هذه معركة الديمقراطيّة التي سيكون لنتائجها تأثير مباشر على المجال العربي وعلى محيطه الاستراتيجي وعلى أوسع نطاق من ذلك. فمعركة الديمقراطيّة في تونس حرب عالميّة شوطها الآخر يدور في أوكرانيا. الأوّل يرسم طبيعة المشروع (النظام الديمقراطي) والثاني يرسم حدوده الجيوسياسيّة (صراع غرب/شرق بالحدود الثقافيّة الفعليّة للغرب والشرق سنكتشف فيه أنّنا نواة الغرب الحقيقي).
وكلتا المعركتين تدفعان إلى غاية واحدة: إعادة ترتيب جديد لمحاور الصراع في العالم على أنقاض نظام عالمي قديم آفل ومجتمع دولي استنفذ أغراضه وكلاهما سليل الحرب العالميّة الثانيّة وخلاصاتها في التوازن والاستراتيجيا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"