18-يونيو-2022
نور الدين الطبوبي

"بعد إضراب 16 جوان.. لا شيء تغير أو سيتغير" (وسيم الجديدي/Sopa images)

مقال رأي

 

لا يمكن أن لا ننطلق في فهم إضراب 16 جوان من الفرضية التالية التي أشرت إليها أكثر من مرة في الأسابيع الفارطة: هل قام قيس سعيّد بكل ما يمكن أن يقوم به حتى يدفع الاتحاد العام التونسي للشغل إلى زاوية المواجهة؟ أ ليست المعركة الجوهرية بين الرئيس التونسي وقيادة الاتحاد في نهاية الأمر هي حول إعادة ترتيب قواعد اللعبة ومجال نفوذ المنظمة ما بعد سنة 2011 وإعادة رسم ما أسميته "مثلث" المشهد السياسي، وليس حتى مربعه، بما يعني ذلك من ضيق المجال الجديد لمساحة تحرك النخبة، بما فيها النخبة الاجتماعية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل؟

"أ ليست المعركة الجوهرية بين الرئيس وقيادة الاتحاد في نهاية الأمر هي حول إعادة ترتيب قواعد اللعبة ومجال نفوذ المنظمة ما بعد سنة 2011؟"

لنعيد ترتيب الأحداث من زاوية "الزمن الطويل". بشكل عام، كان المسار السياسي للبلاد منذ هروب بن علي يتعرج ويتحدد بشكل من الأشكال بتأثير حاسم للاتحاد. قبله، وطبعًا أعني هنا الوضع بين بداية التسعينيات حتى الثورة، لم يكن للمنظمة الشغيلة دورًا سياسيًا رئيسيًا في ترتيب الأوضاع.

الثورة حررت الطاقة السياسية ليس فقط للنخبة السياسية المعارضة خارج المنظومة الرسمية بل أيضًا طاقة المنظمة النقابية التي تم تقليم أظافرها السياسية القديمة والتي رافقت تأسيس الدولة الوطنية بلا شك، وتم تعميد الطابع السياسي ذاك بالدم، منذ هيمنة بن علي على السلطة.

 

 

سواء في تصاعد احتجاجات الثورة ودور النقابيين في احتضانها بشكل متدرج (يمكن هنا العودة لكتاب هالة اليوسفي الذي وثق بعناية مساهمة الاتحاد العام التونسي للشغل في مستوى كوادره المحلية والجهوية ثم حتى المركزية فيها)، أو في ترتيب أوضاع المرحلة الانتقالية بعد 14 جانفي واعتصامات القصبة وهيئة تحقيق أهداف الثورة وصولاً إلى المسار التأسيسي. ثم طبعًا في مستوى الحوار الوطني، ثم في مستوى تحديد قواعد لعبة انتخابات 2014، ثم في مرافقة "التوافق" و"حوارات قرطاج" و"تأطير" مجال تحرك رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد وصولاً إلى انتخابات 2019 والدعم المستتر لعبد الكريم الزبيدي أو نبيل القروي أو آخرين.

"لم يكن قيس سعيّد يرى الاتحاد العام التونسي للشغل إلا امتدادًا للنخبة التي يرى فيها كل مآسي الانتقال الديمقراطي"

في كل هذا كان قيس سعيّد ينتصب بجيناته الشعبوية المحضة، أي "الشعب الطيب مقابل النخبة السيئة المتآمرة"، في موقع مقابل. لم يكن يرى الاتحاد العام التونسي للشغل إلا امتدادًا للنخبة التي يرى فيها كل مآسي الانتقال الديمقراطي. هي ببساطة الواجهة الاجتماعية لنخبة سياسية هيمنت على المسار وأدت إلى "انحرافه"، كما كان ولا يزال يرى.

إذًا بهذا المعنى هناك في الأساس تعارض في الجوهر بين هوية المنظمة في المسار الانتقالي وهوية الرئيس خاصة منذ أن "كشر عن أنيابه" بعد 25 جويلية/يوليو 2021 وأفصح بشكل صريح أن مبتغاه هو تأسيس جديد يقوم على أنقاض 10 سنوات، وبالتحديد في اتجاه فهم "الثورة" على أنها "تعبير شعبي محض" في مواجهة جذرية مع النخبة السائدة، وليس الاتحاد في نظره إلا أحد تمثلاتها.

معركة قيس سعيّد ليست مع طرف سياسي محدد. حركة النهضة بكل تأكيد تمثل التركيز المكثف لديه لمشهد النخبة السياسية المتآمرة، لكن هذا "الخصم القريب" لا يخفي في نهاية الأمر "الخصم البعيد". ونور الدين الطبوبي، أمين عام المنظمة الشغيلة، خاض مساراً معقدًا حتى يفهم شخصية الرئيس وفي الكواليس لا يخفى حتى قبل 25 جويلية 2021 تبرمه منها.

لكن الاتحاد العام التونسي للشغل ليس طرفًا سياسيًا جديًا. هو ربما أكثر الأطراف السياسية قدرة على التأقلم وقراءة موازين القوى. حاول مسايرة موجة 25 جويلية العارمة التي عصفت بمسار الانتقال. أراد مواصلة محاولات احتواء قيس سعيّد، لكن الأخير أصر على وضع قواعد جديدة.

"حاول اتحاد الشغل مسايرة موجة 25 جويلية العارمة وأراد مواصلة محاولات احتواء قيس سعيّد لكن الأخير أصر على وضع قواعد جديدة"

تعمد سعيّد تجاهل المنظمة الشغيلة في الشأن السياسي، وحصر دورها في الشأن الاجتماعي، وحدد محاورها في نجلاء بودن وبعض وزرائها، وجعل وزيره للشؤون الاجتماعية المحاور الرسمي و"المكلف بالاتحاد"، وباب قرطاج. وهو لن ينسى أنه عندما كان يرسله بشكل غير رسمي قبل 25 جويلية إلى ساحة الاتحاد، وهو ابن نقابي عريق، للحوار باسمه لم يكن الطبوبي يتعامل معه حينها بالجدية اللازمة.

 

 

وكان عنوان تغيير قواعد اللعبة هو "المنشور 20" والذي كان يعني ببساطة إنهاء نفوذ النقابات الأساسية والجهوية وسهولة النفاذ للمسؤولين وعقد اتفاقات تحت الضغط المباشر للقواعد النقابية. تم تجريد اتحاد الشغل من مجال واسع للتحرك والمناورة ومن ثمة النفوذ. فقط النقابيون الميدانيون يفهمون أن تلك ضربة في الصميم.

"كان عنوان تغيير قواعد اللعبة هو "المنشور 20" والذي كان يعني ببساطة إنهاء نفوذ النقابات الأساسية والجهوية وسهولة النفاذ للمسؤولين وعقد اتفاقات تحت الضغط"

في المقابل، فهم الاتحاد تدريجيًا وبشيء من العناء أن الرئيس يحشرهم في الزاوية، ويقدم لهم عرضًا لا يمكن إلا أن يرفضوه. تم الإعلان عن الإضراب في القطاع العام قبل 18 يومًا من تنفيذه، في إشارة واضحة لرغبة قيادة المنظمة الشغيلة في التفاوض، وتم تأكيد ذلك في تصريحات علنية. لكن الحكومة لم تبد استعدادًا، وكان محتشمًا أصلاً، دعوتها لعقد جلسة صلحية يوم 13 جوان/يونيو الماضي، وكما ينقل قياديون نقابيون لم تكن وزيرة المالية تعلم حتى أن الإضراب لا يشمل الوظيفة العمومية، كما أنه تم إبداء موافقة على إلغاء المنشور 20 ثم تم التراجع عن ذلك.

الآن ماذا بعد إضراب 16 جوان؟

في تقديري، لا شيء تغير أو سيتغير. الرئيس ومن حوله يعتبرون أن مزيد تهرئة الاتحاد وتجريده من نجاعة "قوة الردع النووي" لديه أي سلاح الإضراب العام ضرورية لفرض قواعد اللعبة الجديدة. يرون في غياب حزام اجتماعي للإضراب وميل الرأي العام لنقد المنظمة بل حالة الاحتقان العام تجاهها بما هي أحد عناصر النخبة التي كانت في واجهة منصة العمل العام طيلة 10 سنوات تخدم ضد أي محاولة للتصعيد النقابي.

"كل من يهمس في أذن قيادة اتحاد الشغل أن الوضع مناسب للتصعيد وإعادة الكرة بإضرابات عامة متواترة، إنما يساهم فعلاً في تهرئة المنظمة"

وهنا كل من يهمس في أذن قيادة اتحاد الشغل أن الوضع مناسب للتصعيد وإعادة الكرة بإضرابات عامة متواترة، إنما يساهم فعلاً في تهرئة المنظمة وقدرتها على إحداث أي توازن، خاصة أننا إزاء نقاش حول اتفاقية مع صندوق النقد الدولي تستوجب موقفاً يعبر عن مصالح الفئات الدنيا والوسطى، وهو ما قامت به المنظمة تاريخيًا بمعزل عن أي تعرجات وتخبط مرت به.

لكن حالة الاطمئنان التي يمكن أن يكون عليها الرئيس التونسي قيس سعيّد إزاء محدودية قدرة المنظمة على المناورة مضللة. الوضع الاقتصادي والمالي الحالي يجعل "المساندة السلبية" التي يتمتع بها قيس سعيّد هشة مثل كوخ على جرف هار، إذ أن "المساندة السلبية" ليست مساندة نشيطة تثق في أن الرئيس يمثل خيارًا صائبًا.

"حالة الاطمئنان التي يمكن أن يكون عليها سعيّد إزاء محدودية قدرة المنظمة الشغيلة على المناورة مضللة"

أثبت سعيّد في ممارسته السلطة 10 أشهر الأخيرة أنه لا يملك أي حلول جدية في أهم ملف سياسي أي ما يهم الناس أي ملف الاقتصاد والمجتمع، وأن طموحه الرئيسي أن يترك إمضاءه في سجلات التاريخ عبر دستور يحمل اسمه.

"المساندة السلبية"، بمعنى عدم مساندة أي تحركات احتجاجية ضده، يمكن أن تنهار بسرعة إن ارتطم الوضع المالي للدولة بحائط التضخم وأحداث طارئة ناتجة عن الوضع الاقتصادي الهش عالمياً، خاصة في خصوص توريد المحروقات والحبوب. وهذا إن لم يحصل قبل الاستفتاء لا يعني أنه لن يحصل البتة. وهناك تنتظر قيادة الاتحاد بلا شك، في نهاية المنعرج لقيادة أو تسريع أي احتجاج اجتماعي عارم.

 

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"