23-مايو-2024
الحكاية الحكي

الحكاية الشعبية في الرواية إحدى أجنحة الكتابة التي استأثرت بالعجائبية والطرافة والحكمة واستقطبت جمهور القرّاء قديمًا وحديثًا

 

الحكايا والقصص لا تزال تمتحن وجودها فينا من خلال الروايات، منذ النشأة كنت أقرأ كل ما أراه يقترب من الذات ومن الهوية، لكن يضطرب المقام كلّما يتقاطع الواقعي مع المتخيل، ويكون الصدّ حينًا والارتهان إلى القراءة أحيانًا حتى تتبين مخاطر القراءة وتدرك هوس الكاتب بصدمة المتلقي التي يسعى إليها سعيًا.

"حدث أبو هريرة قال" و"حديث عيسى بن هشام" لمحمود المسعدي، "مراد الثالث" للحبيب بولعراس، "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، "ذات" و"اللجنة" لصنع الله إبراهيم، قصص لم تغب عن الذاكرة وأنا أبحر في عالم الرواية بين التاريخ والمتخيل، وقصص أخرى كثيرة نشأنا عليها استدعت الماضي وألبسته لباس القصّ وأخرى استدعت شخوصًا واقعية وأسرت بها إلى سماء المتخيل.

الحكاية الشعبية في الرواية التونسية إحدى أجنحة الكتابة التي استأثرت بالعجائبية والطرافة والحكمة واستقطبت جمهور القرّاء قديمًا وحديثًا، فهي من أكثر الأشكال السردية قابلية للاستخدام والتداول والتوظيف

الحكاية الشعبية في الرواية إحدى أجنحة الكتابة التي استأثرت بالعجائبية والطرافة والحكمة واستقطبت جمهور القرّاء قديمًا وحديثًا، فهي من أكثر الأشكال السردية قابلية للاستخدام والتداول والتوظيف فقد عشنا مع "ألف ليلة وليلة" وقصص عنترة وحكايات الجازية الهلالية وقصص الخارقين الذين صنعتهم المخيلة الشعبية في عصور متفاوتة.

مبحث تجليات الحكاية الشعبية والوقائع التاريخية في الرواية كان أحد المحاور التي تناولتها ندوة أدبية علمية بمدينة سوسة ضمن مهرجان الفداوي. وكان لنا لقاء مع جامعيين حاولوا تفكيك السرد في الروايات التي استدعت وقائع التاريخ أحداثًا وشخوصًا والحكايا الشعبية فوظفتها في البناء القصصي.

 

صورة
الحكايا والقصص لا تزال تمتحن وجودها فينا من خلال الروايات

 

يقول الجامعي رضا حميد مدير مخبر الدراسات الإنسانية: "الحكاية تتحول إلى حكايات في عالم السرد، تتناسل تتداخل وتتجلى وفق أشكال مختلفة"، مضيفًا أنّ "الحكاية تبدو مقوّمًا أساسيًا من مقومات القص والسرد وتبدو مكوّنًا أساسيًا من مكونات الرسم والفنون الجميلة وكذلك الشعر، فلا نزال نستحضر حكاية زرقاء اليمامة في القصائد، ولا تزال تظهر حكاية شهرزاد في نصوصنا الإبداعية، ونسجت حكايات ألف ليلة وليلة من حكاية شهرزاد حكايا مختلفة"، معقبًا: "الحكاية لا تموت وإن ماتت تؤلّف أحيانًا".

الجامعي شفيع الزين: في الحكاية الشعبية رغم أن الخيال فيها قائم على الواقع والعجيب طاغٍ على المألوف فهناك من يرى أن الرواة واقعيون وإن كانوا مجهولين

الجامعي شفيع الزين من جهته يقر بأنّ "الرواية تفاعلت مع الحكاية الشعبية ووظفتها في أشكال مختلفة لتؤدي وظائف متعددة وتتولى من جهة الشكل كتابة مختلفة متفردة وتتولى من جهة المضمون الإدلاء بعدة دلالات. فالحكاية الشعبية تنتقل من الطابع الشفوي أو التداول الشفوي إلى الصيغة الروائية المكتوبة والأدبية"، مستطردًا أنّ "الحكاية الشعبية ليست جنسًا أدبيًا بينما الرواية الخرافية جنس أدبي، وبالتالي كأن الحكاية الشعبية تكتسب مشروعية أدبية عندما تندرج في الرواية".

ويضيف شفيع الزين أنّ "الرواية تنتقل واقعيًا وشفويًا من بساطة البنية السردية القصصية إلى البنية المركبة، وأصبحت حكاية داخل الحكاية بل قصة داخل قصة"، متابعًا: "الشخصية في الحكاية الشعبية ذات بعد واحد مسطحة يغيب عنها الباعث، والباعث أساسًا نفسيّ غير موجود في الحكاية الشعبية وعندما اندرجت الحكاية في الرواية صارت الشخصية ذات عمق نفسي ودلالي ورمزي من خلال ما تحمله الشخصيات المأوّلة للحكاية"، مردفًا: "في الحكاية الشعبية رغم أن الخيال فيها قائم على الواقع والعجيب طاغٍ على المألوف فهناك من يرى أن الرواة واقعيون وإن كانوا مجهولين إنّما عندما تندرج في الرواية تفقد أي صلة بالواقع وتكتسب طابعًا تخييليًا".

 

صورة
الحكاية الشعبية في الرواية إحدى أجنحة الكتابة التي استأثرت بالعجائبية والطرافة

 

  • الحكاية.. بين التوثيق والتخييل

ومن جانبها، سعت الجامعية والأديبة أميرة غنيم من خلال مداخلة لها للتعرض إلى "الحكاية بين إغراء التوثيق والإنشاء التخييلي" واضعةً بذلك العلاقة المفصلية بين الوقائع والشخوص التاريخية من جهة والرواية من جهة أخرى، مبينة المخاطر الأخلاقية في التخييل المرجعي، ومشيرةً إلى الخيط الرفيع بين المطابقة والمشاكلة بين الوقائع في الرواية وخارجها.

تقول أميرة غنيم في مداخلتها: "أكاد أجزم أنّ الإنسان لم يخترع اللغة إلا يوم احتاج أن يحكي حكاية، فقد كانت الإشارة تستعمل عوض اللغة، لكن لإشباع العلاقات الممكنة بين الشخوص نحتاج إلى الحكاية".

الأديبة أميرة غنيم:  "الشخصية المرجعية تعالج في النص السردي الشخصية المتخيلة وهنا يقع أمران، إما تُسند إلى الشخصية التاريخية أحداث لا تاريخية وإما أن تسند لشخصية لا تاريخية أحداث تاريخية. وهذا ما أسميه بلعبة السرد التاريخي"

وتساءلت غنيم: "ما الذي يقحم التاريخ في الرواية؟ ما الذي يدفع كاتبًا ما إلى التخيل المرجعيّ؟"، معقّبة: الجواب واضح، وهو "الحكاية"، لأنّ التاريخ ليس بتعاقب الأحداث وإنما هو صناعة الحكاية، فالتاريخ حكاية والرواية أيضًا حكاية، ومن الطبيعي أن يتواشجا وأن ينفتح الواحد منهما على الآخر".

 

 

وحول علاقة التاريخ بالرواية، قالت غنيم: "ينبغي أن نتذكر أنّ الذي كتب التاريخ أولًا كان يسرد نصًا خياليًا، ففي تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وتاريخ الجبرتي عجائب الآثار في التراجم والأخبار، نجد أن النص الذي يدعي مشاكلة الواقع ونقل الأخبار والوقائع ويدعي الصدق والمطابقة والحقيقة إنما هو يشي بخطاب تخييلي إبداعي العقد الضمني بينه وبين متلقيه هو المطابقة، أي ادعاء مطابقة الوقائع، لكنه لا يخلو من التجنيح في عالم الخيال".

وتضيف: "التخييل جزء من الكتابة التاريخية ومن الطبيعي أن يكون التاريخ جزءًا من الكتابة التخييلية والمسألة في الحقيقة لم تنتظر القرن 19 حتى نجد التاريخ يدخل إلى رحاب السرد الروائي، لأنّ المعروف في تراثنا العربي يتداخل المرجعي بالتخييلي (حكايات عنترة والسيرة الهلالية والجازية) فكل هذه الحكايا يفترض أن لها صلة مع الواقع ونحن نعرف أن معظمها وإن كان ينطلق من حضور حقيقي لشخصية في التاريخ إنما هو مستورد من رحم الخيال والإبداع".

 

صورة
الحكاية الشعبية من أكثر الأشكال السردية قابلية للاستخدام والتداول والتوظيف

 

  • كيف يقع التداخل بين المرجعي والتخييلي في الرواية؟

تجيب أميرة غنيم: "ثمة طريقتان كبريان في التداخل بين المرجعي والتخييلي في الرواية، الطريقة الأولى نجدها تقريبًا في معظم الروايات التي لا تدعي لنفسها ولا يدّعي لها النقاد أنها روايات تاريخية وهي التي تتخذ التاريخ ركحًا"، مضيفة: "الركح هو التاريخ والشخصيات المتحركة على الركح هي شخصيات من عالم الخيال ويمكن أن نعتبر كل ما كتبه نجيب محفوظ من بين استلهام التاريخ ركحًا، فلا يمكنك كتابة نصّ خارج التاريخ، والإشارات التاريخية الموجودة في النص هي من باب الاستغلال التاريخي في الراوية لكنها تبقى في مستوى ثانوي في الخلفية".

أميرة غنيم: حين تقرأ أشياء متعلقة بتاريخ تونس الوطني أنت إزاء القبض على المفارقات التاريخية الأساسية التي أدت إلى أن يكون مجتمعنا اليوم على الصورة التي هو عليه فتخييل التاريخ يمكنك من التقاط هذا الجوهر 

أما الطريقة الثانية، وفق أميرة غنيم، فتتقدم فيها الخلفية إلى الواجهة وهنا يصبح التاريخ مرجعًا لشخصيات تستقدم من التاريخ وتقحم إقحامًا في العالم السردي. وتقول الأديبة في هذا الصدد: "هنا أميّز بين طريقتين اعتمدتهما في كتابة السردية أولًا يكون ثمة في النص الروائي شخصيات ثانوية كثيرة جدًا تندسّ بينها بنوع من الخجل شخصية تاريخية محورية، لكنها تبقى في الهامش وهذا ما فعلته في رواية "نازلة دار الأكابر" مع الطاهر الحداد، فالشخصيات جميعها باستثناء "أحمد الدرعي" من عالم الخيال. طاهر الحداد شخصية مرجعية لكنها لا تأخذ الكلمة ولا يتكلم الطاهر الحداد في النص وتبدأ الرواية من ليلة وفاته ويبقى هو في الهامش".

وتتابع غنيم: "الطريقة الثانية اعتمدتها في رواية "تراب سخون" فهي تروي قصة خيالية، لرحلة قامت بها "الماجدة وسيلة بن عمار" لمنفى الزعيم بورقيبة بدار الوالي بالمنستير في آخر حياتها لمّا انقلب عليه بن علي ووضعه في دار الوالي في سجنه الانفرادي الذي مات فيه، في هذه الرواية تتحدث وسيلة بضمير الأنا، الشخصية التاريخية توضع في الواجهة وتحف بها شخصيات تخييلية ثانوية كثيرة جميعها مستمدّة من عالم الخيال".

وتتابع الأديبة: "الشخصية المرجعية تعالج في النص السردي الشخصية المتخيلة وهنا يقع أمران، إما تُسند إلى الشخصية التاريخية أحداث لا تاريخية وإما أن تسند لشخصية لا تاريخية أحداث تاريخية. وهذا ما أسميه بلعبة السرد التاريخي، التي تكمن في إدغام الكاتب ما هو تاريخي بما هو تخييلي إلى درجة أن العارف بالتاريخ نفسه يعجز عن استخلاص التاريخ من الحكاية".

 

صورة
ندوة أدبية علمية بمدينة سوسة ضمن مهرجان الفداوي حول تفكيك السرد في الروايات

 

  • الأخلاق في تخييل المرجعي 

وتضيف غنيم: "نحن نخيّل المرجعيّ لأن للتاريخ في السرد وظيفة، الوظيفة الأولى تمثل الجوهر فحين تقرأ أشياء متعلقة بتاريخ تونس الوطني أنت إزاء القبض على المفارقات التاريخية الأساسية التي أدت إلى أن يكون مجتمعنا اليوم على الصورة التي هو عليه فتخييل التاريخ يمكنك من التقاط هذا الجوهر الذي يبحث عنه كلٌّ منا، سواءً الكاتب أو القارئ، فيه علاقة "مرآوية" تقوم بيننا وبين السرد التاريخي".

الوظيفة الثانية، وفق غنيم، تتمثل في تحديد الهوية فالهوية في الحاضر مرتهنة بما كنا عليه في الماضي فلا يمكن أن نتحدث عن هويتك الذاتية اليوم ما لم تكن واعيًا بالذي شكل هويتك في مسارها التاريخي الطويل.

أميرة غنيم:  "الرواية لا تخضع للتاريخ وإنما تستقدمه إليها وتقدمه في أشكال لا تخلو من مناورة ومن مخاتلة ومن تغيير وبالتالي هي تقتحم مناطق التجريد ومناطق المخاطرة"

وبما أن علاقة الرواية بالتاريخ ليست علاقة تبعية والرواية عقد قائم بين الكاتب والقارئ يقوم على التخييل وإنشاء عالم غير حقيقي فهذا يطرح بالضرورة، وفق أميرة غنيم، مشكل مطابقة الواقع، معقبة أنه  "من المفروض ألا يكون هاجس الكاتب هو الصدق أو الأمانة التاريخية، بل أن يكون هاجسه الأول هو الأمانة الجمالية فهاجس الكاتب فني جمالي وليس واقعيًا من باب المشاكلة والمطابقة للواقع"، حسب تقديرها.

وتعقب: "الرواية لا تخضع للتاريخ وإنما تستقدمه إليها وتقدمه في أشكال لا تخلو من مناورة ومن مخاتلة ومن تغيير وبالتالي هي تقتحم مناطق التجريد ومناطق المخاطرة".

وتذكر غنيم أن "المخاطرة تكمن حين ينسلب السؤال الأخلاقي للكاتب وهو يكتب وللقارئ وهو يقرأ، فالرواية محتاجة إلى تكسير الزمن لأنه يطرح مفاصل أساسية في التاريخ ويوشك أن يفسد التمشي المنطقي لحدوث الأحداث خارج عن الرواية فيجد الكاتب نفسه وكأنه مرغم بسبب هاجس المطابقة إلى أن يروي أحداثًا ربما كان إسقاطها أسلم في بناء النص الروائي".

وتستطرد أنّ "مقتضيات الفن تقوم على التبعيد بين عالم الرواية وعالم الوقائع في حين أن القرب يفسد النص فنيًا ولكن التبعيد تزييف، فهل يزوّر الروائي التاريخ؟"، مردفة أنّ "المسألة خطيرة جدًا لأنها متعلقة بالرقابة الذاتية التي يسلطها على نفسه رغم أنه يعرف أن التبعيد شرط فني وأنه ليس مطالبًا بالمشاكلة والمطابقة والصدق، لكنه يحمل هم الانتماء إلى ثقافة ما وإلى مخيال ما، فهو مطالب بأن يبقى وفيًا بصورة أو بأخرى لمستوى معين من التلقي".