ينشط على الساحة الطلابية في تونس اتحادان رئيسيان، هما "الاتحاد العام لطلبة تونس" و"الاتحاد العام التونسي للطلبة"، وتنكشف المناكفة بينهما منذ تسميتهما، إذ يتصارع الاتحادان على شرعية تمثيلية الطلبة في صراع تاريخي تطغى عليه الحسابات الأيديولوجية، فالفارق الجوهري بينهما خلاصةً، هو أن اتحاد طلبة تونس فصيل طلابي يساري، أما الاتحاد التونسي للطلبة فهو فصيل طلابي إسلامي، وذلك رغم ما يدعيه الاتحادان بأنهما غير معنيين بهذا التصنيف الذي تؤكده الانتماءات السياسية بل والحزبية لقيادات كلا الاتحادين.
تنحصر الحركة الطلابية في تونس، بدرجة كبيرة، بين اتحادين متناكفين أيديولوجيًا، أحدهما يسيطر عليه اليساريون والآخر الإسلاميون
وليس هذا التجاذب غريبًا باعتبار تأثر الحركة الطلابية التونسية بالحراك السياسي ومختلف مراحله، على النحو الذي عرفته الساحة التونسية طيلة عقود، بيد أن الثنائية الماثلة بين الاتحادين اليوم، سبقتها تاريخيًا، ثنائية صراعٍ داخل الاتحاد العام لطلبة تونس، الذي تأسس قبيل استقلال البلاد سنة 1953، وذلك بخصوص علاقة الاتحاد بالحزب الحاكم الذي كان يسعى للسيطرة على مختلف المنظمات والاتحادات.
اقرأ/ي أيضًا: الجامعة التونسية..تاريخ من النضال والصراع
وقد بلغ هذا الصراع أوجه بين الاتحاد والحزب في مؤتمر 1971 الشهير، الذي سيطر خلاله طلبة الحزب الحاكم على الاتحاد، عبر انقلاب، وهو ما رفضته الفصائل الطلابية اليسارية والقومية، التي أصبحت تنشط في ظل هياكل نقابية مؤقتة بعد حركة 5 شباط/فبراير التي يصفها أنصارها بـ"المجيدة".
ولكن التحول الموالي والأهم داخل الحراك الطلابي، هو الصراع بين اليساريين والإسلاميين، خاصة في فترة الثمانينات، التي شهدت صعود التيار الإسلامي في تونس والوطن العربي، وهو صراع انتهى بتأسيس الإسلاميين -الذين مثلت كلية العلوم معقلهم الرئيسي- رفقة مستقلين، للاتحاد العام التونسي للطلبة سنة 1985، وهو ما لم يعترف به الاتحاد الأم.
ولم تكن لاحقًا الساحة الطلابية بمنأى عن حملات القمع التي أطلقها نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، حيث تم حل الاتحاد العام التونسي للطلبة سنة 1991، بعد اتهامه بأنه الفصيل الطلابي لحركة النهضة الإسلامية، فيما تزايد الخناق حول الاتحاد العام لطلبة تونس باعتقال قياداته ومنع تحركاته.
وقد أصدر النظام وقتها منشورًا بمنع النشاط السياسي، وضيّق إلى أبعد حدّ من النشاط النقابي الطلابي. وتواصلت بذلك حملات الشد والجذب بين النظام والطلبة حتى اندلاع الثورة التونسية في 2011، حينما ساهم الطلبة بكثافة إبان حراكها الاحتجاجي بمختلف الجامعات التونسية.
واللافت، في الأثناء، أن عددًا من قيادات الاتحاد العام لطلبة تونس من اليساريين، انحازوا لصف نظام ابن علي، بعدما عارضوه لسنوات. ولعل المثال الأبرز عن ذلك سمير العبيدي أمين عام الاتحاد نهاية الثمانينات، الذي دخل لبيت طاعة النظام حتى أصبح وزيرًا للاتصال، وهي الخطة التي كان يشغلها أيام الحراك الثوري نهاية 2010 وبداية 2011، حينما كان يقود جوقة الدفاع عن ابن علي.
مثلت الحركة الطلابية محطة صعود لعديد القيادات السياسية، إسلاميين وغيرهم من أحزاب المعارضة، وكذلك بالنسبة للموالين لنظام ابن علي
ويتولى سمير العبيدي اليوم منصبًا قياديًا في حزب نداء تونس. وكذا الحال بالنسبة للإعلامي برهان بسيس، الذي كان قياديًا نقابيًا طلابيًا يساريًا، قبل أن يصبح بوق دعاية لابن علي، والمتحدث غير الرسمي باسم النظام في القنوات العربية، وهو المكلف اليوم بالسياسات في نداء تونس، ولا زالت تلاحقه قضايا الفساد المالي.
اقرأ/ي أيضًا: الحركة الشبابية ومهماتها التونسية
وظلت الاتحادات الطلابية محطة للصعود السياسي لعديد القيادات، بما فيها من المعارضة، حيث أن الأمناء العامين الثلاثة للاتحاد العام التونسي للطلبة قبل حله بداية التسعينات، هم اليوم قيادات صف أول في حركة النهضة، فهناك عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس الشورى في الحركة، وعبد اللطيف المكي النائب ووزير الصحة السابق، وثالثهما نجم الدين الحمروني عضو مجلس الشورى والمستشار السابق في رئاسة الحكومة.
وإجمالًا، مع تحرير المجال العام، واستعادة الطلبة لحقوقهم بعد الثورة، وعلى رأسها الحق في العمل النقابي، عاد الزخم بقوة للحراك النقابي الطلابي، إثر الثورة، حيث أعاد الطلبة الإسلاميون إحياء اتحادهم المنحل بموجب قرار قضائي، وهو ما رفضه اتحاد طلبة تونس الذي يعتبر نفسه في أدبياته بأنه "الممثل الشرعي والوحيد" للطلبة، وعرفت الساحة الطلابية على ضوء ذلك، ولا تزال تجاذبات حادة بين الاتحادين بلغت أحيانًا مستوى العنف والمصادمات، مع طغيان خطاب الكراهية والإقصاء، خاصة على ضوء التحولات في المشهد السياسي وصعود الإسلاميين للسلطة.
بل وصعدت، في خضم ذلك، المجموعات الطلابية السلفية التي واجهت اتحاد طلبة تونس وإدارة بعض الكليات، ومثلت حادثة إسقاط العلم التونسي ووضع العلم الأسود، الذي كانت ترفعه الجماعات السلفية، في كلية منوبة سنة 2012، مثالًا على الصدام داخل الحراك الطلابي، وقد ظهرت وقتها الطالبة خولة الرشيدي التي أعادت رفع العلم التونسي في مواجهة الطالب السلفي، أيقونة للنضال الوطني، فيما ظهر حينها مدًا سلفيًا مهددًا للنمط المجتمعي التونسي، وهو المد الذي انحسر، على الأقل على مستوى تمظهراته، على ضوء تصاعد الظاهرة "الإرهابية".
واليوم، ينشط اتحادا الطلبة بصفة منتظمة مع عقد مؤتمرات دورية، دائمًا ما تؤدي لتجديد في قيادة كل اتحاد، فيما تمثل انتخابات المجالس العلمية مناسبة دورية للتنافس بينهما، ولكن في أجواء يغلب عليها التجاذبات الأديولوجية والسياسية، أكثر من البرامج الطلابية.
ويبدو أن تحرير الفضاء العام، وإن أتاح للساحة الطلابية استعادة مجال تحركها، فإنه في المقابل أفقدها القدرة على التعبئة والتحشيد، كما كان زمن الاستبداد، حينما لم يكن الفضاء الجامعي إلا الفضاء الأول، بل أحيانًا الممكن للطالب للخوض في الشأن العام ومواجهة السلطة بسبب إغلاقها لمجالي الفضاء الحزبي وفضاء المجتمع المدني.
بعد الثورة التونسية، حافظ الفضاء الطلابي على حيويته وتأثره بالمحيط السياسي باعتباره انعكاسًا للتدافع السياسي والأيديولوجي فيه
لكن ورغم تحرر المجال العام في شموليته بعد الثورة، حافظ الفضاء الطلابي على حيويته وتأثره بالمحيط السياسي، ليس فقط منطلقًا من العلاقة العضوية بين الفضاء العام من جهة والفضاء الطلابي من جهة أخرى، بل كذلك بالنظر للتعددية النقابية الطلابية وتاريخيتها التي أبقت على المحدد الأيديولوجي والسياسي في الحراك الطلابي على مستوى وسائل تنظمه على الأقل. ليظل السؤال حول مدى إمكانية توحيد الصف النقابي الطلابي تنظيميًا في المستقبل.
اقرأ/ي أيضًا: