17-يوليو-2023
قصر قرطاج كرسي الرئاسة

الظرف الذي تمر به تونس منذ عامين يجعل من البناء الدستوري والمؤسساتي الصاعد مهزوزًا والقديم يعلن عن نفسه من تحت الأنقاض (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

كان تصريح رئيس هيئة الانتخابات في تونس فاروق بوعسكر، في حوار مع وكالة الأنباء الرسمية التونسية بتاريخ 15 جويلية/يوليو 2023، الأوضح منذ توليه منصبه بعد الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، حيث اتهم أطرافًا لم يذكرها بـ"محاولة تفجير الهيئة من الداخل" وقال إن "الهيئة قد تلجأ لسحب اعتماد منظمات معنية بالشأن الانتخابي باعتبارها أصبحت تلعب أدوارًا سياسية أو تحولت إلى أحزاب"، وفق تصوره.

بالإضافة إلى إقراره بانتهاء علاقة هيئة الانتخابات بالهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري "الهايكا". بَيْدَ أنه كان وضوحًا في التصريح وغموضًا في مستقبل العملية الانتخابية التي يبدو أن رهانات الرئاسية فيها هو ما سيشغل الفاعلين السياسيين أكثر من غيرها من المحطات وأعني الانتخابات المحلية.

بدا فاروق بوعسكر في استعماله عبارة "التفجير من الداخل" قريبًا من المعجم اللغوي الذي يستعمله قيس سعيّد وهي زلة لها تداعياتها على صورة الهيئة المطعون في شرعيتها والمشكوك في مصداقية ما تقدمه بعد الانتخابات الأخيرة

بدا بوعسكر في استعماله عبارة "التفجير من الداخل" قريبًا من المعجم اللغوي الذي يستعمله رئيس السلطة التنفيذية والمرشح الأبرز إلى الانتخابات الرئاسية القادمة قيس سعيّد رغم عدم إفصاحه عن ذلك لا تلميحًا ولا تصريحًا، وهي في حقيقة الأمر زلة لها تداعياتها على صورة الهيئة المطعون في شرعيتها والمشكوك في مصداقية ما تقدمه بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، ورئيسها.

وهي تتمة لمجموعة من العناصر التي تمثل أركان ما يعرف بالمناخ الانتخابي الذي يشمل حيادًا للسلطة التنفيذية وحيادًا للإدارة وقضاء مستقلًا وإعلامًا حرًا ومتعددًا، وجميعها تبدو في أضعف نسخها منذ سنة 2011. 

 

 

وفي هذا الإطار، يرى أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار، في تصريح لـ"الترا تونس"، أن شفافية المسألة الانتخابية ترتبط بأن تكون محل جدال عام ولها مواعيد محددة ونصوص قانونية، وفي الوضع الراهن لدينا مشكل على مستوى النص الدستوري المطبق فإن وقع إعمال دستور 2014 ستكون هناك نتائج وإن لم يقع إعماله فستكون هناك نتائج مغايرة وسيتم اعتماد عهدتين إضافيتين.

ويتابع المختار أنّ "العبرة ليست فقط في علاقة بالجدل القانوني ذي الصلة بالجدل الدستوري وإنما في الخطاب السياسي المحيط وموقف الأطراف المحيطة بالعملية، فالحديث عن مناخ شفاف يتطلب وضوحًا على مستوى الإطار الدستوري والقانوني الذي سيتم اعتماده في الانتخابات القادمة"، حسب تعبيره.

أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار لـ"الترا تونس": الحديث عن مناخ شفاف فيما يتعلق بالانتخابات يتطلب وضوحًا على مستوى الإطار الدستوري والقانوني الذي سيتم اعتماده في الانتخابات القادمة

وما يزيد تعقيد أي محاولة لفهم التناقض القائم هو ما  تصرّح به السلطة بأنّ ما يجري الآن هو بناء لنظام ديمقراطي حقيقي والممارسة التي تعتمد عامل الغموض كسلاح أساسي في الفعل السياسي، حتى وإن تبدو الرؤية واضحة لمن يضع القوانين ويحدد المواعيد ومحجوبة على بقية الفاعلين السياسيين لتعويدهم على ممارسة العمل المدني والسياسي بمنطق ردة الفعل المحدودة في المكان والزمان. وهو جزء أصيل في نسف أي حجج تثبت أن ما تعيشه تونس إنتاج لديمقراطية حقيقية غير مغشوشة.

وهنا يؤكد أستاذ القانون عبد الرزاق المختار أنّ "التأطير الديمقراطي للانتخابات الذي ينظم جملة المتداخلين هو سلوك الفاعلين والمتدخلين مثل السلطة والإدارة، وما إذا كانت إدارة الانتخابات مستقلة أم لا، وهل أن الإدارة التنفيذية قد التزمت بالقانون أم لا، وهل أنّ الإعلام تعددّي أم أنه خائف متواطئ، وهل قام القضاء بواجبه أم لا".

ويضيف محدث "الترا تونس": "في النصوص القانونية للرئيس الراحل زين العابدين بن علي عندما تتمعن فيها تعجب بها، لكن عندما تنظر إليها بوجود التجمع ووجود بن علي لا تكون العبرة بالنص وإنما بالمناخ الانتخابي، فيجب أن تتوفر المعايير الديمقراطية"، على حد تعبيره.

أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار لـ"الترا تونس": العبرة ليست بالنص بل بالمناخ الانتخابي وتوفر المعايير الديمقراطية في الانتخابات القادمة من عدمها

 

  • التداول

عندما نتحدث عن الانتخابات في السياقات المتعددة، لا تكون عملية التقييم بالضرورة موضوعية لعامل أساسي وهو إن الحديث فيها من داخلها لا يزودنا بالصورة الكاملة فالحديث عن تنافس انتخابي قادم حول منصب رئيس الجمهورية وعن مدى توفر الضمانات الكافية لإنجازه لا يعني أن ما سبق كان في مجمله صالحًا للاستعمال في كلّ مكان وزمان، لكنّه كان يحظى بأهم عنصر يجب أن يتوفر في مسار انتخابي وهو الاعتراف بنتائجها، فهل أنّ الرئيس قيس سعيّد هو من سيواصل في تكريس قاعدة التداول الديمقراطي على السلطة في تونس في ظروف تتساوى فيها كل الحظوظ؟ 

المحامي عبد الواحد اليحياوي لـ"الترا تونس": في الانتخابات التشريعية صاغ قيس سعيّد القانون الانتخابي على المقاس لإقصاء منافسيه وسيعتمد نفس الآلية في الانتخابات الرئاسية على نحو يصعب فيه أن يترشح أشخاص لهم فرصة منافسته 

وفي هذا السياق، يرجح المحامي والناشط السياسي عبد الواحد اليحياوي، في تصريح لـ"الترا تونس"، أنه سيتم احترام التداول على الأقلّ شكليًا، مستدركًا القول: "لكن بالتجربة التي مرت الآن نحن لسنا أمام رئيس ديمقراطي فالشخص الذي يعتبر أن حياة دولة بأكملها مرتبطة بشخصه يصعب جدًا أن يكون ديمقراطيًا، وبالتالي سيحاول احترام مسألة التداول شكليًا وسيظل ديمقراطيًا على مستوى الخطاب". 

ويضيف اليحياوي أنّ في الانتخابات التشريعية السابقة صيغ القانون الانتخابي على المقاس لإقصاء منافسيه، متوقعًا أنه "سيعتمد نفس الآلية في قانون الانتخابات الرئاسية على نحو يصعب فيه أن يترشح أشخاص لهم فرصة منافسته وسيتحكم في العملية الانتخابية من خلال قانون الانتخابات القادمة"، على حد تصوره.

وذكّر اليحياوي بأنّ "قيس سعيّد قبل انتخابات 2019 قال إنه لن يصوت لنفسه وإنه لا يملك برنامج حكم وإنه المنقذ، وبالتالي سنصل إلى أنه قد يقول إن الشخص الذي تتوفر فيه صفات الصدق والنزاهة غير موجود وهذه الصفات لا تنطبق إلا على شخصه وفي 2024 سنجد أنه صوت الإنقاذ الحقيقي"، وفق تصريحه.
 

  • قديم لا يريد أن يموت 

لكن مسألة التداول وإن كانت جميلة في حد ذاتها فهي ليست كذلك في علاقة بالواقع. جزء من المتابعين للشأن السياسي أكدوا مرارًا حتى أصبحت لديهم قناعة بأن بديل سعيّد في الظرف الراهن غير متوفر وأن الانتخابات لو نظمت غدًا سيفوز فيها هو من الدور الأول، وهو تقييم موضوعي أقرب إلى الواقع، وفق عبد الواحد اليحياوي الذي اعتبر أنّ "المعارضة تعيش خارج الزمن السياسي، بل إنها انتهت، فالسياسة  قبل كل شيء هي انطباع وتصوّر أكثر منها واقعية، والانطباع السائد هو أنّ الطبقة السياسية هي المسؤولة عن خيبات الناس وهذه المعارضة لن تجد إلا الرفض في 2024 أو حتى في 2030".

 

 

ويضيف اليحياوي أنّ "المعارضة بكافة تشكيلاتها بدّدت رصيدها أثناء عملية الانتقال الديمقراطي نتيجة مجموعة الأخطاء التي ارتكبتها وأحيانًا نتيجة الغرف التي اشتغلت على تشويها. فضلًا عن أنّ مكوناتها نفسها اشتغلت ضد بعضها البعض"، مستطردًا القول إنه "ليس بإنمكانها أن تكون بديلًا عن قيس سعيّد، لا سيما وأنّ وجودها هو أحد مبررات وجوده"، على حد تصوره.

في هذا السياق يؤكد الكاتب والناشط السياسي عبد الجبار المدوري، في تصريح لـ"الترا تونس" أنّ "البديل السياسي لقيس سعيّد غير متوفر"، معقبًا: "عندما نتحدث عن بديل فهو بالضرورة قادر على أن يحظى بثقة الناخبين وعندما يتقدم إلى الانتخابات يستطيع إحداث الفارق، وهو غير موجود في الوقت الراهن فلا الواقع يقول ذلك ولا سبر الآراء يخالفه"، وفق تقديره.

الناشط السياسي عبد الجبار المدوري: البديل السياسي لقيس سعيّد غير متوفر فعندما نتحدث عن بديل هو بالضرورة قادر على أن يحظى بثقة الناخبين ويستطيع إحداث الفارق وذلك غير موجود في الوقت الراهن

وأشار إلى أنّ "هناك قوى موجودة مثل اتحاد الشغل، وهو غير معني بالانتخابات، وجبهة الخلاص الوطني التي ضعفت خاصة بعد اعتقال عدد من قياداتها وأكثر شغلها موجّه إلى الخارج أكثر من الداخل، أما الحزب الحر الدستوري فهو غير قادر على المنافسة فلو تجري الانتخابات من الغد سيفوز سعيّد من الدور الأول حتى مع نسبة إقبال ضعيفة"، حسب تقديراته.

وبما أن السياسة على قدر ما هي كذلك انطباع وتصور هي أيضًا مناورة وقدرة على استغلال نقاط ضعف المنافس ومحاولة الاشتغال عليها لاستمالة الناخبين، وهو ما يتطلب توفر مناخ للفعل السياسي للتنظيم والتحرك على الميدان والنشاط الدعائي السياسي، وهي عمليات محتشمة في الفترة الحالية نتيجة للتناقض الحاد بين ما يقره الرئيس سعيّد من إجراءات وما تطلبه المعارضة، بل إن الأزمة أكثر استفحالًا لأنّ الحوار فيها مفقود وخطاب التنافر والتقسيم هو الذي يغلب.

إنّ الظرف الذي مرت به تونس منذ عامين تقريبًا بداية من زلزال سياسي في 25 جويلية/يوليو 2021، مرورًا برجّات ارتدادية تركت  شقوقًا عميقة في مؤسسات ما بعد 2011 تسببت في انهيارها، وصولًا إلى بناء دستوري ومؤسساتي جديد انتصب  فوق ركام بناء سابق ودون أساسات ثابتة، يجعل البناء الصاعد مهزوزًا والقديم يعلن عن نفسه من تحت الأنقاض، فلا القديم يموت ولا الجديد له أمل في الحياة.