27-أغسطس-2024
الاختفاء القسري.. جريمة فظيعة مازالت تنتظر قانونها في تونس

مازال المجتمع الحقوقي في تونس ينتظر بدوره تكريس جريمة الاختفاء القسري في التشريع الجزائي (صورة تعبيرية)

 

لطالما تعدّ جريمة الاختفاء القسري واحدة من أبشع انتهاكات حقوق الإنسان التي تنتهجها أنظمة القمع والاستبداد ضدّ معارضيها، كما مارسته أجهزة الدولة زمنيْ الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي زمن الاستبداد، على نحو تسجيل 199 ملفًّا يتعلّق بهذه الجريمة وفق التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة (2014-2018). ملفات ليست مجرّد أرقام، إذ تقف خلفها قصص إنسانية موجعة، لازال يرنو بشأنها سؤال الحقيقة وردّ الاعتبار، وأيضًا سؤال المساءلة.

تعدّ جريمة الاختفاء القسري واحدة من أبشع انتهاكات حقوق الإنسان التي تنتهجها أنظمة القمع والاستبداد ضدّ معارضيها

وتبيّن الوعي بلزوم معالجة جرائم الاختفاء القسري في تونس منذ المصادقة في فيفري/شباط 2011، أسابيع قليلة بعد أحداث الثورة، على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري المعتمدة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي رفض نظام بن علي المصادقة عليها رغم توقيع الدولة عليها عام 2007. وتباعًا، نصّ قانون العدالة الانتقالية نهاية عام 2013 على الاختفاء القسري كأحد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خاصة بالنظر لعدم وجود نص جزائي في القانون المحلي يجرّمها بشكل مستقلّ.

عام 2016، أعدّ الوزير المكلف بالعلاقات مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان كمال الجندوبي، مع فريقه مشروع قانون للغرض يتكوّن من 38 فصلًا. أكد الفصل الأول أن الغاية من القانون هي منع اختفاء حالات الاختفاء القسري ومكافحة ارتكاب مرتكبي الجريمة من العقاب. وميّز المشروع بين مصطلحات قانونية متجاورة كالاعتقال والاختطاف والاحتجاز والحرمان من الحرية مع مفهوم الاختفاء القسري والذي يشمل تحقّق كلّ ما سبق يتمّ على أيدي موظفين عموميين أو أشخاص أو مجموعات تتصرف بإذن أو دعم من الدولة أو موافقتها مع رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريّته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده. 

نصّ قانون العدالة الانتقالية نهاية عام 2013 على الاختفاء القسري كأحد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خاصة بالنظر لعدم وجود نص جزائي في القانون المحلي يجرّمها بشكل مستقلّ

تضمّن المشروع إقرارًا بعدم سقوط الجريمة بمرور الزمن، وبوجوبية التحقيق فيها مع تخصيص المحاكم العدلية دون غيرها، أي بالخصوص استثناء المحاكم العسكرية، من النظر في جرائم الاختفاء القسري والجرائم المرتبطة بها. وإضافة إلى الجانب الزجري، تضمّن المشروع بعدًا حمائيًا للضحايا كتمتعهم بالعلاج المجاني مع حقهم في جبر الضرر.

لكن لم يحظَ مشروع القانون بأولوية لدى الحكومات المتلاحقة، مع تعطّل مشاريع القوانين الإصلاحية كالمجلة الجزائية ومجلة الإجراءات الجزائية، وهما عماد نظام الجرائم والعقوبات والإجراءات المتعلقة بهما في القانون المحلي. ومازالت لا تظهر بعد أي مؤشرات للمضيّ في طرح مشروع قانون يتعلق بالإخفاء القسري وذلك تطبيقًا للاتفاقية الدولية المصادق عليها من الدولة التونسية منذ ما يزيد عن 13 عامًا.

مازالت لا تظهر بعد أي مؤشرات للمضيّ في طرح مشروع قانون يتعلق بالإخفاء القسري، تطبيقًا للاتفاقية الدولية المصادق عليها من الدولة التونسية منذ ما يزيد عن 13 عامًا

تعلّقت بجريمة الاختفاء القسري أفظع الجرائم التي تعرّض إليها المعتقلون السياسيون في تونس، وتعدّ حالة كمال المطماطي وهو موظف حكومي سابق أصيل مدينة قابس، والذي كان ناشطًا فيما كانت تسمى "حركة الاتجاه الإسلامي"، نموذجًا لضحايا هذه الجريمة. إذ أكدت التحريات والأبحاث أنه تم القبض عليه من أجهزة الشرطة في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1991 وظلّ من حينها مختفيًا عن عائلته التي لم تعلم من يوم اعتقاله أي معلومة بشأنه. لاحقًا تبيّن أنه تعرّض للتعذيب إلى غاية قتله، وقامت أجهزة الدولة حينها بإخفاء جثته في مكان مجهول مع عدم الاعتراف بالجريمة.

هيئة الحقيقة والكرامة اختارت افتتاح جلساتها العلنية عام 2016 بحالة المطماطي بدعوة والدته وأرملته لتقديم شهادتهما، وقد عرف الناس وقتها حجم معاناة العائلة بسبب إخفاء ابنها ومسيرتها طيلة سنوات بحثًا عن مصيره أو طلبًا حتى لمعرفة مكان دفن جثته. مكان ظلّ مجهولًا لليوم، ولكن كان صادمًا حينما كشف عبد الفتاح مورو، النائب السابق لرئيس مجلس نواب الشعب، أن قيادات أمنية سبق وأعلمته برمي جثة المطماطي في خرسانة معدّة لإقامة جسر مشيّد، وهو ما يعني عدم إمكانية استرداد جثته مطلقًا.

رغم مرور ما يزيد عن ستّ سنوات ونصف، مازال لم يصدر بعد الحكم المنتظر في قضية كمال المطماطي بعد أن أحالت هيئة الحقيقة والكرامة الملف إلى الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية في مارس 2018

قضية كمال المطماطي أظهرت بذلك أشنع جرائم الاستبداد في تاريخ البلاد، على نحو أيضًا جعلها موضوع أول ملف تحيله هيئة الحقيقة والكرامة إلى الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية وذلك في مارس/آذار 2018. تضمنت لائحة الاتهام 14 شخصًا مشتبهًا بارتكابه جريمة الاختفاء القسري والمشاركة فيها. ولكن رغم مرور ما يزيد عن ستّ سنوات ونصف، مازال لم يصدر بعد الحكم المنتظر، خاصة في ظلّ تزايد العقبات أمام عمل هذه الدوائر تحديدًا في ظل الشغورات المسجّلة صلبها تحديدًا إثر الحركة القضائية الأخيرة ومذكرات العمل الوزارية. ظهر استحقاق المساءلة من بوابة العدالة الانتقالية مغيبًا في الممارسة العملية للسلطة السياسية الحالية.

لم تسجّل تونس بعد الثورة أي حالة من حالات الاختفاء القسري، ولكن طيف هذا الانتهاك لم يكن غائبًا بشكل مطلق في معرض الانتهاكات المسجلة بعد 25 جويلية/يوليو 2021. ففي نهاية ذلك العام، ذكّرت الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب بأن تونس هي دولة طرف في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، مذكّرة في بلاغ لها، بتاريخ 31 ديسمبر/كانون الأول 2021، بتعريف الاختفاء القسري طبق هذه الاتفاقية. تذكير جاء ضمن بلاغ بعد تلقي الهيئة يومها إشعارين يتعلّقان باحتجاز مواطنين اثنين من طرف جهة أمنيّة غير معلومة في مكان غير معلوم. 

لم تسجّل تونس بعد الثورة أي حالة من حالات الاختفاء القسري، ولكن طيف هذا الانتهاك لم يكن غائبًا بشكل مطلق في معرض الانتهاكات المسجلة بعد 25 جويلية 2021

وقد انتقدت الهيئة ما وصفتها بـ"ممارسات التعتيم والتعطيل" بعد عدم التفاعل مع طلباتها للاستفسار لدى الجهات المختصة. وقد تبيّن أن الشخصين المعنيين تم وضعهما تحت الإقامة الجبرية طبق أمر الطوارئ الذي يعود لعام 1978 والمتعارض مع أحكام الدستور والتزامات تونس الدولية.

وفي خضمّ إحياء اليوم العالمي لمكافحة الاختفاء القسري بتاريخ 30 أوت/أغسطس من كلّ عام، دائمًا ما يُستذكر بالخصوص، في السنوات الماضية، الصحفيين التونسيين سفيان الشورابي ونذير القطاري اللذيْن اختفيا قسريًا منذ عام 2014 على التراب الليبي حينما كانا بمهمّة عمل صحفي استقصائي. لازال لم يمط اللثام بشأن مصيرهما بشكل جازم وقطعي، وسط تقديرات غير رسمية أن جماعة إرهابية شرق ليبيا قامت بتصفيتهما. ولازال لليوم نداء عائلتهما وأصدقائهما بالخصوص متواصلًا بغاية كشف الحقيقة بدرجة أولى.

فيما مازال المجتمع الحقوقي في تونس ينتظر بدوره تكريس جريمة الاختفاء القسري في التشريع الجزائي تأكيدًا على تناغم المنظومة القانونية المحلية مع المعاهدات الدولية المصادق عليها. تشريع يتضمن تدابير حمائية لضمان حرية الفرد واحترام الضمانات القانونية له، خاصة وقد ثبت بعد 25 جويلية/يوليو 2021 أن عدم المضيّ طيلة السنوات السابقة في الإصلاحات القانونية المطلوبة لضمان الحريات العامة والفردية وتأمين آليات ناجعة لحماية حقوق الإنسان، يسَّرَ تعبيد الطريق لارتكاب انتهاكات تستهدف حرية الناس وحقوقهم.