30-مايو-2024
الأرجوان الملكي

الباحث غسان نويرة لـ "الترا تونس": لون الأرجوان الملكي يستخلص من غدد قواقع بحرية

 

يعدّ "الأرجوان الملكي" ذلك اللون المصبوغ على كساء الأثرياء والأباطرة والملوك عند الفينيقيين والرومان، لون الحضارة ولون الصناعة ولون الازدهار حتى عُرف بأسماء شتى كاسم "الأرجواني الإمبراطوري" و"أحمر الدم المتجمد".

ويحظى الأرجوان الملكي بهيبة القوة والهيمنة والخلود، حتى كاد يحتكره أسياد القوم من دونهم، فكانت الأردية والملابس الأرجوانية في متناول أثرياء الحضارات الفينيقية والرومانية وذوي الجاه والسلطان من قبلهم وبعدهم.

لون الأرجوان الملكي المصبوغ على كساء الأثرياء والأباطرة يستخلص من غدد قواقع بحرية، وصبغته ثابتة للغاية ومقاومة لمعظم الأحماض حتى أنها تُخلّد لمئات السنين دون أن يتغير لونها

  • "الأرجوان الملكي" رمز الثراء والسلطة

وكان الحصول على اللون الأرجواني يتم باستخدام نوع مميّز من القواقع البحرية، فاشتهرت به من بلدان الشرق مدينة صور ومن غرب المتوسط قرطاجة ومدنها، ومن المعروف أن الصبغة المستخلصة من غدد القواقع، ثابتة للغاية ومقاومة لمعظم الأحماض حتى أنها تُخلّد لمئات السنين دون أن يتغير لونها.

الأرجواني الملكي
اللون الأرجواني رمز من رموز الرفاهية والترف للطبقات الثرية وكانت الأردية والملابس الأرجوانية في متناول أثرياء الحضارات الفينيقية والرومانية (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

وكنا نرى في رحاب المتحف الأثري بسوسة وبين الجداريات واللوحات الفسيفسائية الرومانية ومميزات الحضارة الفينيقية، ذلك التزاوج الرهيب بين البحر والآلهة، كنا نرى القواقع البحرية بأنواعها وقد شدّت إلى تلابيب الآلهة الخالدة، ونرى رسوم الأثرياء بتلك الأكسية الملونة بالأرجواني.

كان اللون الأرجواني رمزًا من رموز الرفاهية والترف للطبقات الثرية فحافظ على أسراره لمئات السنين وكانت صناعته ثروة تم تطويرها رغم أن طريقة استخلاص الصبغة كان مكلفًا ومثيرًا للفضول.

صبغة اللون الملكي تستخرج من قواقع الموركس وهي رخويات بطنية بحرية من جنس القواقع البحرية الاستوائية المفترسة وتسمى عادة القواقع الصخرية

رافقنا الأستاذ محمد غسان نويرة في رحاب المتحف عارضًا صندوقه العجيب الذي تحول إلى مخبر متنقل لبيان بعض أسرار هذا اللون الملكي وطريقة إعداد الصبغة المناسبة المستخلصة من قواقع الموركس أو ما يطلق عليه باللغة الفرنسية murex وهي رخويات بطنية بحرية من جنس القواقع البحرية الاستوائية المفترسة وتسمى عادة القواقع الصخرية.

باحث الارجواني الملكي
الأستاذ محمد غسان نويرة يعرض بعض أسرار اللون الملكي وطريقة إعداد الصبغة المستخلصة من قواقع الموركس (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

وكان الباحث غسان نويرة شديد التعلق باكتشافاته وابتكاراته التي اخترقت عوالم الفينيقيين وأسلافهم، فنقل خبراتهم إلينا بمثل ما كانوا عليه، متسلحًا بالصبر والمثابرة ومتدرجًا في العلم الذي أوصله إلى ما وصل إليه الأسلاف من نتائج في عالم الصباغة.

وتميّز نويرة بكونه شغوفًا بحضارة قرطاج وتاريخها كما هو حال أغلب التونسيين الذين يرون في قرطاج الحضارة والنصر والرقي والصمود، وجاء اليوم ليكشف بعضًا من مؤهلاته في هذا المجال.

الباحث غسان نويرة لـ "الترا تونس": اكتشفت سائلاً أرجوانيًا ينبعث من القواقع البحرية بعد مرور ساعات من التقاطها، ففهمت أن هذا السائل هو المادة الأولية التي يتم باستعمالها إعداد مسحوق الصباغة الأرجواني الإمبراطوري

تحدث غسان لـ "الترا تونس" عن تجربته فعاد بها إلى سنوات الدراسة حين كان يدرس في الفصول الأولى عن اقتصاد الكنعانيين والفينيقيين فحدثته معلمته عن ألبسة وأكسية الفينيقيين الأرجوانية الملكية باهظة الثمن المستخلصة من القواقع وذات الرمزية في الثراء الفاحش والسلطان الجائر ودورها في ازدهار أنشطة التجارة والمقايضة.

وبعد سنوات كان غسان على موعد مع البحر فالتقط قواقع كانت على الشاطئ وداعبها بكلتا يديه متذكرًا درس التاريخ الذي تلقاه قبل سنوات مضت وتساءل عن دورها في صباغة الأكسية وهي التي لا تظهر شيئًا من اللون الأرجواني.

ترك غسان القواقع في كيس بلاستيكي لعله يلقيها غدًا في القمامة ولكنه اكتشف سائلاً أرجوانيًا ينبعث من القواقع بعد مرور ساعات من التقاطها، ففهم أن هذا السائل هو المادة الأولية التي يتم باستعمالها إعداد مسحوق الصباغة الأرجواني الإمبراطوري.

الأجواني الملكي قوقعة
سائل أرجواني ينبعث من القواقع بعد مرور ساعات من التقاطها يستعمل لإعداد مسحوق الصباغة الأرجواني الإمبراطوري  (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

اشتد شغف حسان فانطلق يبحث عن القواقع ويمزج خبراته المتنوعة في علوم الكيمياء والتاريخ وأدب الأولين وفقه الأنسجة والملابس، حتى اهتدى إلى طرق الأسلاف في نهج هذه الصناعة على خطى الفينيقيين الأوائل.

كنا مشدوهين وهو يفتح صندوقه العجيب في بهو المتحف الأثري ليعرض على الطاولة قوارير صغيرة من مساحيق أرجوانية ويبسط أنواعًا مختلفة من القواقع البحرية ويعرض علينا أنواعًا كثيرة من المنسوجات الصوفية المصبوغة بالأرجواني وهي ثمرة تجاربه المتلاحقة التي امتدت على سنوات من التجريب.

الباحث غسان نويرة لـ "الترا تونس": تبلغ قيمة الغرام الواحد من المسحوق الأرجواني المستخلص من القواقع رفيعة الجودة حوالي 1000 دولار، وتعد قارورة صغيرة من هذا المسحوق بمثابة الجواهر الثمينة

  • استخراج صبغة الملوك على خطى الفينيقيين

أعدّ غسان بعض العينات من مسحوق الغدد القوقعية التي كان يستخرجها بعد تكسير القوقعة وإزالة تلك المادة اللزجة وتخميرها في الملح لثلاثة أيام، ثم وضعها على نار هادئة في وعاء من القصدير لسبع أو ثماني أيام حتى تذوب، وتستعمل لاحقًا في صباغة الصوف والحرير على طريقة ما استلهمه من أفكار متوارثة عن قرطاج القديمة.

وتبلغ قيمة الغرام الواحد من المسحوق الأرجواني المستخلص من القواقع رفيعة الجودة حوالي 1000 دولار، وتعد قارورة صغيرة من هذا المسحوق بمثابة الجواهر الثمينة.

واستغرق استخراج هذا المنتوج حسب محدثنا، 17 سنة من العمل المتواصل، للحصول عليه بطريقة الفينيقيين نفسها ودون تدخل لوسائل حديثة أو مركّبات كيميائية مستعملاً في ذلك عشرات الآلاف من القواقع، فالصباغ المركز يفوق 15 عشرة مرة قيمة الذهب، وقدّر نويرة استعمال 12000 قوقعة من أجل الحصول على 1.4 غرام من مسحوق الصباغ الأرجواني المركّز الرفيع.

الأرجواني الملكي
قيمة الغرام الواحد من مسحوق أرجواني المستخلص من القواقع رفيعة الجودة تبلغ حوالي 1000 دولار (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

واعتبر شكري الدلال أستاذ مميز بالمعهد الوطني للتراث، أن مثل هذه الورشات والدراسات تعتبر تثمينًا للتراث المادي واللامادي التي تعود بنا إلى الفترة الكنعانية والفينيقية والقرطاجية وصولاً إلى الفترة الرومانية، ويتعرض لمادة الأرجوان الملكي التي لم تنل حظّّها في الترويج لها كقيمة معرفية ثابتة في تاريخنا.

الباحث غسان نويرة لـ "الترا تونس": استخراج المسحوق الأرجواني بطريقة الفينيقيين نفسها ودون تدخل لوسائل حديثة أو مركّبات كيميائية استغرق 17 سنة من العمل المتواصل باستعمال عشرات الآلاف من القواقع

وقامت في قرطاج كل الصناعات التي عرفها الفينيقيون ومن بينها الصناعات النسيجية وفن الصباغة وصناعة الأقمشة المصبوغة باللون الأرجواني المستخرج من القواقع والأصداف المسماة بالموريكس murex ولعل أهم موقع أشارت إليه المصادر من مواقع الصباغ هي ميننكس Μηνιγξ أي جزيرة جربة حاليًا، وهي مدينة فينيقية عريقة شهدت أوج ازدهارها في الفترة الرومانية وتضم ثلاثة مراكز حضرية أحدها "هنشير بورقو" قرب ميدون، والثاني على الساحل الجنوبي الشرقي وقد كان أحد أهم موقع لإنتاج الموريكس المعتمد في الصباغة أما الثالث فيوجد على الساحل قرب قلالة حاليًا.

  • أفضل لون أرجواني إفريقي في ميننكس

ويشار إلى أن أفضل لون أرجواني آسيوي في صور وأفضل لون أرجواني إفريقي في ميننكس وفق ما ذكرته المصادر وبينته الباحثة فاطمة العقيلي في دراسة نشرتها حول "الأرجوان الملكي" ضمن مجلة كلية الآداب ببنغازي في ليبيا.

واشتهرت مدينة كركوان (650 ق.م) التي دمرت مرتين في العهد البونيقي، باقتصادها القائم على التجارة مع موانئ المتوسط وكانت مصدرًا للأقمشة المصبوغة بالأرجوان وقد تم اكتشاف منشآت لصنع هذه المادة قرب الميناء ويرجح أحد الباحثين أن هذه المهنة كانت مصدر رزق الكثير من العائلات القرطاجية وفق ما ذكرته بعض المصادر.

أفضل لون أرجواني إفريقي في ميننكس أي جربة حاليًا كما اشتهرت مدينة كركوان باقتصادها القائم على التجارة مع موانئ المتوسط وكانت مصدرًا للأقمشة المصبوغة باللون الأرجواني الملكي 

ولمزيد التعمق في الدراسات حول استخلاص الصباغ الأرجواني من قواقع الموريكس، اعتمد الباحثون على الكتب القديمة في بيان ذلك فوصفت العملية بالمعقدة والمكلفة حيث تجمع الآلاف من الأصداف من بين الصخور ويكون الجمع في فصل الربيع، ثم تليها عملية الفرز الغسل من الشوائب ووضعها في بركة مائية بمياه البحر لتعيش مدة على اللعاب الخاص بها، وبعد ذلك تفتح القواقع وتستخرج الكتل الغددية الموجودة في تجاويفها التنفسية، وتحتوي هذه الغدد على سائل مخاطي يشكل المادة الأساسية في الصباغة.

الأرجواني الملكي
المصنوعات المصبوغة باللون الأرجواني باهظة الثمن والملابس الأرجوانية كانت حكرًا على النبلاء والكهنة (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

وتأتي المرحلة التالية بتصفية السائل وتركيزه بعد غليه لمدة 10 أيام في قدور معدنية على نار هادئة، وتكون المادة الصبغية بيضاء اللون، ثم تنقع المادة المطلوبة صباغتها وغالبًا ما ينقع الصوف قبل المنسوجات ثم يمشّط ليعاد مرة أخرى للنقع ثم يجفف في الشمس، حيث يتشكّل اللون الأرجواني تدريجيًا تحت تأثير الضوء.

يروي المؤرخون أن المصنوعات المصبوغة باللون الأرجواني كانت باهظة الثمن ما يجعل من العباءات المصبوغة باللون الأرجواني متساوية في السعر مع المجوهرات كما أنها كانت حكرًا على النبلاء والكهنة

ويروي المؤرخون أن المصنوعات المصبوغة باللون الأرجواني كانت باهظة الثمن ففي عهد أوغسطس كان سعر الكيلوغرام الواحد من الصوف المصبوغ باللون الأرجواني ألفي دينار أي ما يعادل 1600 فرنك ذهبي، ما يجعل من العباءات المصبوغة باللون الأرجواني متساوية في السعر مع المجوهرات، وأكدت المصادر القديمة أن الملابس الأرجوانية كانت حكرًا على النبلاء والكهنة إمعانًا في تأكيد التميز الطبقي.

ويروى أن الإمبراطور نيرون، قد منع الأصباغ الأرجوانية حتى قيل إنه عندما رأى مربية في الجمهور في إحدى حفلاته ترتدي اللون المحظور، أشار بها إلى وكيلته، التي جرتها إلى الخارج، وجردتها على الفور، ليس فقط من ملابسها، ولكن من ممتلكاتها أيضًا. وفي أواخر عهد الإمبراطورية أصبح بيع المنسوجات الأرجوانية حكرًا ملكيًا محميًا بموجب القانون.

 

واتساب