تعيش الأرض الفلسطينية على وقع حرب مستعرة بين كيان محتل مسلّح وشعب فلسطيني لا يزال يقاوم منذ سبعين سنة.. المشاهد واحدة والقصص مختلفة نعيشها منذ أيام بين باحات المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح وقطاع غزة.. مشاهد الدمار والتهجير والموت الذي يذهب بعائلات بأسرها جرّاء القصف.
تزامن تطور الأحداث في الواقع مع حرب في الفضاء الافتراضي ومواقع التواصل الأكثر تأثيرًا في الرأي العام العالمي، وكشف مدى خدمة الفضاءات الافتراضية لسياسات الدول الحاضنة لها
وبين هذا وذاك، تشتد جذوة المقاومة الفلسطينية وتزامن تطور الأحداث في الواقع مع حرب في الفضاء الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي الأكثر تأثيرًا في الرأي العام العالمي، وكشفت مدى خدمة الفضاءات الافتراضية لسياسات الدول الحاضنة لها في سياق نظام العولمة والسيطرة على الرأي العام العالمي بما يخدم سياسات الدول العظمى وبالدرجة الأولى السياسة الأمريكية، وكسب الدعم للكيان الإسرائيلي في حربه على الفلسطينيين.
تطورات الحرب الأخيرة من فعل ورد فعل، خلقت رأيًا عامًا دوليًا مهتمًا بالشأن الفلسطيني، فتناقل الملايين من مستعملي مواقع التواصل الاجتماعي (خاصة فيسبوك، تويتر، انستغرام، تلغرام..) كمًا هائلًا من المنشورات من صور وفيديوهات ووسومات وكتابات تضمنت شجبًا لأعمال الاعتداء والقتل التي تقودها آلة حربية صهيونية شرسة.. وقد جوبهت هذه المنشورات بازدواجية في التعامل من طرف إدارات الشركات المعنية حسب سياسات محددة مسبقًا.
تفاعلت الشعوب حول العالم مع أحداث القدس والضفة وغزة الأخيرة وانطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي مبادرات مكثفة لنصرة القضية الفلسطينية، غير أنّ مستعملي الفضاء الأزرق جوبهوا بنظام عقابي من طرف إدارة الفيسبوك من حجب مؤقت ونهائي للمستعملين فضلًا عن حجب المنشورات والصور التي توثق الأحداث على الأرض مما أثار استياءً واسعًا وحنقًا شديدًا ضد سياسات هذه المنظومات الإلكترونية العملاقة.
مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر انتشارًا، أشعلت حربًا أكثر ضراوة من الواقع وكان السلاح فيها الانتصار لمصطلح لغوي ذي دلالة، على مصطلح آخر يختلف عنه دالًا ومدلولًا.. فالكلمات الناطقة ذات المدلول الإسرائيلي كانت الأكثر إيجابية في التعامل معها وجعلها أكثر ظهورًا وقراءة في حين أن الكلمات الناطقة ذات المدلول المنتصر للقضية الفلسطينية كانت الأكثر حجبًا وصدًا ومثال ذلك: جيش الدفاع الإسرائيلي / جيش الاحتلال – الجدار العازل / جدار الفصل العنصري – إخلاء / تهجير قسري – نزاع عقاري / احتلال استيطاني – صراع / نضال – إرهاب / مقاومة – قتلى / شهداء..).
اقرأ/ي أيضًا: تجريم التطبيع.. مبادرات تشريعية متعددة والتفعيل غائب في تونس
مبادرات عديدة قام بها الشباب المناصر للقضية الفلسطينية في تونس لحشد القوى المحلية والدولية ضد انتهاكات الكيان الصهيوني خاصة في ظل ضعف تغطية الإعلام العمومي والخاص التونسي، غير أن سياسات الحجب اعتبرت الأشرس من نوعها مما جعلنا نظن أن هذه الحرب صارت أقوى في الفضاء الافتراضي، فما هي أسرار هذه الحرب؟
وشدد خبير تنمية المهارات الحياتية والاجتماعية عاطف الحمروني في مقابلة مع "الترا تونس" على أن "الحراك الشعبي على مواقع التواصل الاجتماعي، جزء لا يتجزأ من الحرب على الميدان. فالبعض وإن تساءل عن مدى قيمة هذا الجهد ونحن نحاربهم على ميدانهم، مواقع التواصل الاجتماعي، هي في الوقت نفسه ميدان وسلاح، تحكمها تقنيات وتكنولوجيات، فكلما فهمنا أسسها وأبجدياتها، أتقنّا مهاراتها ونجحنا في توظيفها لمصلحة قضيتنا العادلة".
خبير تنمية المهارات الحياتية والاجتماعية لـ"الترا تونس": مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت وتساهم في تدويل القضية وتعميق طابعها الإنساني، وكما غيرت وأثرت في واقعنا السياسي الوطني، ستؤثر حتمًا في قضيتنا الفلسطينية العادلة
ولفت الحمروني إلى أنّ "حروب اليوم هي حروب معلومات، وحروب إلكترونية، لعلهم فهموها قبلنا فاستثمروا فيها وحبسونا عليها، ولكن هبّة الشعب العربي عمومًا والتونسي خصوصًا، غيرت الكثير من المعطيات الواقعية، وكانت ورقة ضغط مهمة على الحكام وعلى العدو الصهيوني. وأكبر دليل على مدى أهمية حرب المعلومة، ضرب العدو الإسرائيلي المخزي المكاتب الصحفية المحلية والدولية في غزة، في محاولة لطمس جرائمه. وها أن مواقع التواصل الاجتماعي، لعبت دورها في إيصال الصوت والصورة للاعتداءات المتتالية التي حاول العدو إخفاءها. مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت وتساهم في تدويل القضية وتعميق طابعها الإنساني. وكما غيرت وأثرت في واقعنا السياسي الوطني، ستؤثر حتمًا في قضيتنا الفلسطينية العادلة. المهم أن نفهم قواعدها ونتقن مهاراتها خاصة تقنيًا وتكنولوجيًا".
اقرأ/ي أيضًا: شمس فلسطين الغائبة عن برامج التعليم في تونس..
واعتبر خبير الاتصال عربي سوسي من جانبه في محادثة له مع "الترا تونس"، أن "مسألة الحجب ليست جديدة في السياسة العامة للفيسبوك" وأضاف قائلًا: "الكيان الصهيوني كيان يمارس القتل والقمع ولكنك لا تتركني أشجب هذا السلوك، فلما أكتب عبارة "فلسطين محتلة" أو "قسّام" يتم حجب المحتوى.. يعني انحراف كبير في حرية التعبير في الفضاء الافتراضي، ولهذا كانت ردة الفعل كبيرة هذه المرة وقوية ومتحدية لهذه العراقيل، وأصبح وسم غزة تحت القصف كسلاح وتعبير عن عدم الخضوع لهذا الابتزاز"، معتبرًا أن "الإدارة الإسرائيلية بدأت التعامل مع الفيسبوك منذ سنة 2013 حينها تأسس مكتب فيسبوك في تل أبيب وبدأت لقاءات مع الإدارة الإسرائيلية والمسؤولين عن مراقبة الفضاء الإلكتروني في الإدارة الإسرائيلية وكانت تدعو الفيسبوك إلى مواجهة الصفحات التي تدعو إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية، وكانت إسرائيل تدعي مقاومة الإرهاب تحت هذا الغطاء".
خبير في الاتصال لـ"الترا تونس": هناك من يبحث عن منصات جديدة وهناك من يجد ثغرات لتجنب الخوارزميات عبر استعمال قصص إنسانية أو أحرف عربية ولاتينية متداخلة
وتابع بقوله: "المقاومة الافتراضية أصبحت عنصرًا أساسيًا في مقاومة الاحتلال خاصة بعد ضرب غزة بهذا العنف المشهود، فالخط التحريري لأغلب وسائل الإعلام العالمية مساند لإسرائيل وجلّها تعتّم على معاناة الشعب الفلسطيني، والمنفذ الوحيد هو الفضاء الافتراضي الذي أصبح تأثيره أكثر فاعلية".
وبيّن خبير الاتصال أن "الإعلام العمومي الحكومي في الغرب منحاز لما يقع في الشرق الأوسط لإسرائيل وما زاد الطين بلة، تصرفات فيسبوك وتويتر والانستغرام في حجب كل ما يساند القضية الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني. فما يكتب مساندة لفلسطين يمنع بطريقة ما ويصبح غير مرئي عن طريق خوارزميات ثم يحذرك من الحجب، ويقوم بالعقاب لمدة معينة، ثم فسخ الحساب كليًا. في المقابل نجد شبابًا يبحث عن منصات جديدة تحترم القيم التي يتشارك فيها العرب والمسلمون وتمكنهم من فضاءات تعبير، وهناك أيضًا من يجد ثغرات لتجنب الخوارزميات عبر استعمال قصص إنسانية أو أحرف عربية ولاتينية متداخلة".
خبير في الاتصال لـ"الترا تونس": منظمات في بريطانيا أثبتت أنه في سنة 2016 تم حجب 90% من المواقع ضد إسرائيل
كما قال الخبير في الاتصال إن "فيسبوك يتعامل مع الحكومة الإسرائيلية وهي تمده بقائمات يتم التفاعل معها إيجابيًا فيكون الحجب، وهناك منظمات في بريطانيا أثبتت أنه في سنة 2016 تم حجب 90% من المواقع ضد إسرائيل، في المقابل لا نجد المستوى نفسه في التعامل مع المحتوى المحرض على العنف والإرهاب في الجانب الإسرائيلي وهذه مسجلة أيضًا في تقارير حقوقية مثل تقارير access now". القضية إذًا هي قضية التحرر من هيمنة هذه المنصات على التفكير.
وصرح رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية بتونس شوقي قداس من جهته لـ"الترا تونس" وقال: "كل شخص يفتح حسابًا فيسبوكيًا يمضي على شروط الاستعمال وعلى عقد خاضع للقانون الأمريكي، إذًا لا علاقة لتلك الإجراءات بالقانون التونسي.. فيسبوك في حد ذاته هو خارج السلطة والسيادة التونسية، هم يؤثرون في القرارات وتوجيه الرأي العام ويعاقبون استنادًا إلى قوانين أمريكية منظمة للتصرف في هذه الفضاءات.. وقد مثلت إدارة فيسبوك أمام المحاكم وعوقبت على هذا الأساس. في أمريكا مثلا تورط فيسبوك في التصويت لترامب فحكم عليها بغرامة مالية 5 مليار دولار من طرف مؤسسة أمريكية باعتبار أنه استعمل معطيات شخصية لمواطنين من جنسية أمريكية للتأثير عليهم في أخذ قرار أثر في المسار الديمقراطي الأمريكي.. العقاب نفسه تم في البرازيل وبريطانيا".
شوقي قداس لـ"الترا تونس": فيسبوك خارج السلطة والسيادة التونسية، وهم يؤثرون في القرارات وتوجيه الرأي العام ويعاقبون استنادًا إلى قوانين أمريكية
وأضاف شوقي قداس: "كامبريدج أناليتيكا" أخذت المعطيات من فيسبوك عن أشخاص دون علمهم واستثمرتها في مسارات محددة سلفًا.. الفيسبوك عوقب من طرف 35 دولة في العالم .. ولا يستطيع أحد ثنيه عن هذا الاستغلال للمعطيات الشخصية".
وقال رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية: "فيسبوك ينتفع بحماية القانون الأمريكي CLOUD ACT، هذا القانون يخول لكل الشركات من جنسية أمريكية أن تعالج المعطيات الشخصية لمواطنين غير أمريكيين مهما كان موقعهم في العالم وتخزينها لديها ولو خارج التراب الأمريكي (فيسبوك تونس مثلًا يخزن في إيرلندا).. هذا القانون يسمح للمؤسسات الأمريكية الحكومية الولوج إليها دون الرجوع بإعلام الأشخاص المعنيين.. وهذا يعتبر فقدانًا للسيادة الوطنية، وفي حالة فلسطين هذا ما يحصل بالضبط".
وجدد قداس حثّه الحكومة التونسية "على تشجيع المستثمرين في التكنولوجيا لإحداث محركات بحث خاصة بنا مثل الصين وكوريا واليابان التي سعت إلى الاستقلالية التكنولوجية".
شوقي قداس لـ"الترا تونس": أحث الحكومة على تشجيع المستثمرين في التكنولوجيا لإحداث محركات بحث خاصة بنا مثل الصين وكوريا واليابان
وأضاف شوقي قداس "ليس لنا قرار سياسي واضح في هذا المجال، ولم تحظ التوصيات التي رفعناها لوزير تكنولوجيا الاتصال بأي اهتمام وهذا ناتج عن انعدام الوعي والمسؤولية بخطورة الاختراق".
ويشار إلى أن وزير العدل الإسرائيلي بيني غانتس عقد اجتماعًا في أوائل شهر ماي/ آيار الجاري بمسؤولين سامين في مؤسسات التواصل الاجتماعي المعروفة ودعاهم إلى ما أسماه "الالتزام بإزالة المحتوى الذي يحرض على العنف أو ينشر معلومات مضللة من مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بهم، وشدد على أهمية الاستجابة السريعة للنداءات من المكتب الإلكتروني الحكومي"، وفق ما نشره الإعلام الإسرائيلي.
اقرأ/ي أيضًا:
الترامبية، الماكرونية.. والسعيّدية: الوصفة الدعائية لرؤساء الجيل الرابع