مقال رأي
كان أشبه بخطاب القطيعة!
أتحدث عن كلمة أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي (المنظمة الشغيلة الفاعلة في المشهد التونسي) بمناسبة الذكرى السبعين لاغتيال الزعيم النقابي والوطني فرحات حشاد، يوم السبت 3 ديسمبر/كانون الأول 2022.
لم تخل خطب الطبوبي من نقد وتحذير وتنديد واستنكار وتوجيه دعوات ونصائح خلال السنة الأخيرة، وبلغت أحيانًا لهجة التهديد والوعيد لكنها حافظت على مرتكزات لم تحد عنها تقريبًا أو حرصت على التذكير بها بين الفينة والأخرى. أولها الحفاظ على أسلوب التدرج وثانيها التذكير باستبشار اتحاد الشغل بخطوة 25 جويلية 2021 وبكونها قد تخرج البلاد من تأزم سياسي واقتصادي طال لسنوات وثالثها التذكير بدور الاتحاد كقوة اقتراح والمبادرة بتقديم الاقتراحات والمبادرات والأفكار.
حافظت كلمة الطبوبي في ذكرى اغتيال حشاد على تأكيد الخلاف مع "منظومة ما قبل 25 جويلية 2021" لكنها حملت لهجة لا يمكن تفسيرها إلا كقطيعة مع "منظومة 25 جويلية" وعلى رأسها الرئيس
لكن كلمة 3 ديسمبر/كانون الأول 2022 وإن حافظت على تأكيد الخلاف مع "منظومة ما قبل 25 جويلية 2021" فقد حملت لهجة لا يمكن تفسيرها إلا كقطيعة مع "منظومة 25 جويلية" كما صارت تًعرف وعلى رأسها الرئيس التونسي قيس سعيّد. قطيعة حاول اتحاد الشغل تأجيلها أو تجنبها لحوالي سنة ونصف رغم غياب بوادر إيجابية من رأس السلطة ومن أعضاء حكومته.
يقول الطبوبي في كلمته "لم نعد نقبل بالمسار الحالي لما اعتراه من غموض وتفرّد ولما يمكن أن يخبّئه في قادم الأيام والأشهر من مفاجآت غير سارّة ولا مطمئنة على مصير البلاد ومستقبل الأجيال فضلاً عن مستقبل الديمقراطية في بلادنا".
اعتاد الأمناء العامون للمنظمة الشغيلة، منذ تأسيسها سنة 1946، على تقديم خطب وكلمات للتاريخ، خاصة في المناسبات الكبرى، كالذكرى السبعين لاغتيال مؤسسها فرحات حشاد، هذا وغيره يذهب بنا إلى اعتقاد راسخ أن كل كلمة في خطاب الطبوبي السبت، كانت مدروسة، بغض النظر عن صحة هذا التوجه من عدمه.
الطبوبي في كلمته: "لم نعد نقبل بالمسار الحالي لما اعتراه من غموض وتفرّد ولما يمكن أن يخبّئه في قادم الأيام والأشهر من مفاجآت غير سارّة ولا مطمئنة على مصير البلاد ومستقبل الأجيال"
يذهب الطبوبي إذًا إلى القطع "لم نعد نقبل بالمسار الحالي". ويقول في ذات الكلمة، "البلاد تَعيش وضعًا خانقًا وتدهورًا على جميع الأصعدة، فنحن مُقدمون على انتخابات بلا لَوْن وبلا طعم، جاءت وليدة دستور لم يكن تشاركيًا ولا محلّ إجماع أو موافقة الأغلبية وصِيغَتْ على قانون مُسقَطٍ أثبت يومًا بعد يوم ما حَوَاهُ من ثغرات وخللٍ وهو ما نبّهنا إليه منذ الوهلة الأولى ولا مجيب. وبالتأكيد أنّ مسارًا كهذا سيولّد نتائج لا أحد يتوقّع حجم ضعفه وما يستبطنه من تفكّك وتفتيت.. وجدنا بلادَنا اليوم مَعطوبة مُقسّمة مُشتّتة فاقدة للطريق ليس بين مكوّناتها، أفرادًا وجماعات وكيانات، غير العداء والتخوين والتشكيك".
الطبوبي: "البلاد تَعيش وضعًا خانقًا وتدهورًا على جميع الأصعدة، فنحن مُقدمون على انتخابات بلا لَوْن وبلا طعم، جاءت وليدة دستور لم يكن تشاركيًا ولا محلّ إجماع أو موافقة الأغلبية"
ويضيف، في ذات الكلمة "ولقد نبّهنا إلى أنّنا إزاء حكومة بلا رؤية وبلا برنامج ويغلب عليها الارتجال والغموض وانعدام الانسجام وتتحرّك بنفس آليات الحكومات السابقة: غياب الشفافية وازدواجية الخطاب ويتلبّسها نمط الفعل والرؤية ذاتها التي قادت الحكومات المتعاقبة وهي اللجوء إلى الحلول السهلة والاكتفاء باستنساخ مناويل بالية وفاشلة ولعلّ تشبّثها المستميت بالاقتراض الخارجي سبيلًا وحيدًا للخروج من الأزمة خير دليل على ضيق الأفق وعلى محدودية الإبداع والتصوّرات علاوة على ما اتّسمت به سياساتها من ضرب للحوار الاجتماعي وتنكّر للتعهدات. وقد أكّدت التعيينات المتتالية على رأس الجهات والعديد من المؤسّسات هذا التخبّط وبها صار تعميم الفشل والارتجال مركزيًا وجهويًا وقطاعيًا."
ويتابع "وقد آن الأوان لتعديل حكومي ينقذ ما تبقّى ويعيد لعديد الوزارات نشاطها ويخرجها من الركود والعطالة ولم نجد مرّة أخرى غير الصمت والإصرار على الخطأ".
في هذا السياق وبالتزامن مع هذه الكلمة، مجموعة من الأحزاب المعارضة في تونس (الحزب الجمهوري والتيار الديمقراطي والتكتل وحزب العمال وحزب القطب) تجدد الدعوة لمقاطعة انتخابات 17 ديسمبر التشريعية، في بيان مشترك بينها.
لا يجد اتحاد الشغل في الطيف السياسي المعارض ما يمكن التعويل عليه للتغيير وكسب الشارع ويحافظ على مسافة منه رغم توجهه نحو القطيعة مع سلطة سعيّد
السؤال هنا: "هل من أفق لهذه التحركات؟". تبدو وكأنها خطوات دون أفق واضح ففي الوقت الذي تتسع فيه دائرة معارضة قيس سعيّد بشكل يكاد يجمع أغلبية الطيف السياسي والمدني في تونس، تبقى هذه المعارضة مشتتة ومختلفة حد الصراع فيما بينها.
ولا يجد اتحاد الشغل في الطيف السياسي المعارض ما يمكن التعويل عليه للتغيير وكسب الشارع. في ذات السياق، يقول الطبوبي في خطابه "إنّا في الاتحاد العام التونسي للشغل، كأغلب التونسيات والتونسيين، نرفض العودة إلى ما قبل 25 جويلية ونرفض أيّ مقاربة تهدف إلى استعادة الحكم عبر الاستقواء بالخارج وعبر تزيين حقبة فاشلة وعبر تنكّر أصحابها من مسؤوليتهم فيما آلت إليه البلاد وهم في الأصل جديرون بالمحاسبة".
لا يذكر أن المعارضة السياسية الحالية لسعيّد قد قامت، خلال سنة ونصف تقريبًا منذ إبعادها عن السلطة والقرار السياسي بشكل عام، بمراجعة علنية لأخطائها التي ساهمت في الوصول "لمسار 25 جويلية" وهو ما يُقرأ من قبل طيف شعبي واسع كمكابرة تؤكد عدم استيعابها أي الدروس.
لا يذكر أن المعارضة السياسية الحالية لسعيّد قد قامت منذ إبعادها عن السلطة والقرار السياسي بشكل عام، بمراجعة علنية لأخطائها
إن غموض الأفق للمعارضة التونسية، على اختلافها، وعدم خفوت حدة التناقضات والصراعات بينها وحفاظها على لهجة عدائية فيما بينها، وكذلك عدم تقديمها نقدها الذاتي وإصلاحاتها الداخلية، قد مكن نظام قيس سعيّد في كل مرة من تجديد فرصه عند الشعب التونسي أملاً في التغيير والإصلاح.
يحدد نور الدين الطبوبي، في خطابه، مربع التحركات القادم للمنظمة الشغيلة وقد بدأت ملامحه تتضح منذ أيام، بعد تصريح له قال فيه إن "الاتحاد في حل من كل الالتزامات التي تمت مع الحكومة بعد اعتباره كون الأخيرة تنكرت لهذه الاتفاقات". أما في كلمته في 3 ديسمبر فيقول "وأمام هذا الوضع المتردّي فلن نتخلّف عن مجابهة الانهيار الذي تعيشه بلادنا ويعاني منه شعبنا ويرزح تحته ملايين الأجراء والمفقّرين والمهمّشين وستكون، كما تعوّدتم منّا، المسألة الاجتماعية من أولى أولويّاتنا وفي مقدّمتها حقوق الجهات والقطاعات وتحسين القدرة الشرائية..".
ويضيف، في ذات الكلمة "سنظلّ مؤمنين بدور منظّمتنا كقوّةِ اقتراح ومبادرة وتوازن وضغط وكفاعل أساسي في مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي والاستقرار الاجتماعي والنموّ الاقتصادي. ولن تُربكنا حملات الشيطنة ولا معاوِل التخريب والتشكيك ولن تُثْنِينا الادعاءات الباطلة وماكينات التشويه".
سيجمع غالبًا اتحاد الشغل بين مختلف أشكال الاحتجاج وتواصل الاقتراحات والمبادرة وسيكون أمام اختبار لشعبيته أمام سلطة يُنتظر وفق ما عهدناه منها أن تُكابر وأن تصعد المواجهة بدورها
سيجمع غالبًا اتحاد الشغل بين مختلف أشكال الاحتجاج وتواصل الاقتراحات والمبادرة وسيكون أمام اختبار لشعبيته أمام سلطة يُنتظر وفق ما عهدناه منها، خلال آخر سنة ونصف، أن تُكابر وأن تصعد المواجهة مع الاتحاد بدورها.
على مستوى السلطة، فهي تعيش حالة من الاضطراب بين الفعل والقول، لقاءات متتالية للرئيس التونسي مع مجموعة من الوزراء والمسؤولين وبيانات عن الرئاسة تؤكد رفض رفع الدعم وتطالب بتخفيض الأسعار وعلى أرض الواقع يستفيق التونسي يوميًا على زيادات في المعاليم والأسعار، تعلنها غالبًا مؤسسات ذات الدولة، في ثنائية غريبة لا تخدم البلد وشعبه وتعمق الضبابية.
لم يقع "تحييد" اتحاد الشغل كما تخيّلت السلطة إبان الاتفاق الأخير بين الحكومة والمنظمة الشغيلةوحدد الاتحاد مربعه للتحرك في الفترة القادمة مما يرجح أشهرًا ساخنة في تونس
هكذا، لم يقع "تحييد" اتحاد الشغل كما تخيّلت السلطة إبان الاتفاق الأخير بين الحكومة والمنظمة الشغيلة، والذي يبدو أن الحكومة لم تلتزم به تطبيقًا. وحدد الاتحاد مربعه للتحرك في الفترة القادمة "في قطيعة" بشكل واضح مع "سلطة 25 جويلية"، مقدمًا موقفه المستاء من الانتخابات القادمة ومختلف مكونات السلطة، ومع الحفاظ على مسافة من المعارضة السياسية القائمة، وهو ما يرجح أشهرًا ساخنة منتظرة في تونس إذ لم يسبق تاريخ البلاد الحديث أن عرف حالة استقرار والمنظمة الشغيلة تعارض توجهات السلطة الحاكمة. في انتظار "السنة الساخنة" 2023.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"