عندما تقف على قمّة جبل الرصاص غرب جبل بوقرنين، لا تنظر خلفك حيث بساتين مرناق الغنّاء وأعالي "تيبوربومايوس" (زغوان) وممرّات المياه المعلّقة المعروفة لدى التونسيين بإسم "الحنايا" الرّومانيّة (والتي يفوق عدد أحجارها مجتمعة أحجار الأهرامات المصرية الثلاث) وقد كانت تؤمن الماء من عيون زغوان إلى مدينتي قرطاج وأوتيك كبرى المدن الرومانيّة. بل أنظر أمامك في اتجاه العاصمة، سيغريك منظر البحر وتلك الخلجان الصغيرة وحركة الموج الأبديّة على عتبات قرطاج وأميلكار ومكسولا (رادس). دعك من ذلك فالجمال والفتنة أمامك أسفل الجبل، فليس بعيدًا حيث تقف ستلمح ربوة صغيرة وفوق تلك الربوة تنام "أوذنة" أو "أوتينا " كما كان أجدادنا البربر يسمّونها.
في أواخر القرن الثاني ميلادي أي قبل ثمانية عشر قرنًا من الآن حوّلتها روما إلى مدينة لكبار العسكريين المتقاعدين من إحدى كتائب الجيش الروماني ونالها شرف الإمبرطور الروماني "أوغسطين" بتصنيفها "مستعمرة رومانيّة " سنة 372 م. وهو لقب يمكّن السكان من الحقوق المدنية والسياسية كما في روما تمامُا، وهي تقريبًا السنة التي اكتملت فيها معالم المدينة: المنازل الفخمة المبلّطة بالفسيفساء وبناء الكابتول وهو الأكبر بشمال إفريقيا الرومانيّة بعلوّه وطوابقه السفليّة الثلاث والحمّامات العمومية والطرق المبلّطة والأسواق والمسرح الدّائري لممارسة الفنون ومعاصرالزيتون والكروم.
دولة الاستقلال لم تلتفت سياستها الثقافية للموقع التاريخي بأوذنة على عكس مواقع أخرى لقيت عناية استثنائية مثل موقعي قرطاج وأوتيك
وهكذا انشغل العسكريون المتقاعدون بالزّراعة وفنونها على امتداد سهل " كيلوس" وباتت "أوتينا " صنوًا لقرطاج و"أوتيكا" بل ومنافسًا لهما في التجارة والفلاحة والفن ونظافة الشوارع وزراعة الازهار. تقريبًا نافستهما في كل شيء. وكغيرها من المدن الأخرى عرفت أوذنة أفولًا وازدهارًا، متقلّبة مع حركة التاريخ واندثرت أمجادها وصروحها تلك خلال الفترة الإسلامية وعادت لتصبح قرية بسيطة ومتواضعة ولم تبق سوى تلك البساتين والجنان المتاخمة لوادي مليان شاهدًا على ذاك الازدهار.
وقد زاد المستعمر الفرنسي المدينة إذلالًا بأن باعها " كهنشير " لعائلة Ducroquet الفرنسية لتستغلّها فلاحيًا فشوّهتها واعتدت عليها فأزاحت الآثار وردمت بعضها ومنها المسرح الدائري وخاصة تدميرها لجانب كبير من معبد الكابيتول وبناء منزل حديث على الطراز الأوروبي مكانه كما غيّرت من المشهد الفلاحي الذي رسمه البربر والرومان من بعدهم. لكن وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأ الانتباه مجددًا للأهميّة التاريخية "لأوذنة" حيث زارها عالم الآثار الفرنسي "روسو" ثمّ فيما بعد "بول قوكلار" وأجريت بعض الحفريّات وقد ساعدهم في ذلك الجيش الفرنسي.
دولة الاستقلال لم تلتفت سياستها الثقافية لهذا الموقع التاريخي الهام الذي يتبع الآن ولاية بن عروس والذي يتفوّق في مكوّناته الأثرية وجمال هندسته وسحر طبيعته على مواقع أخرى لقيت عناية استثنائية من الدولة مثل موقع قرطاج وأوتيك وتيبوربوماجيس ودقة ومكتريس والجمّ ولبدة. بقي موقع "أوذنة " مهملًا بالكامل إلى حدود ثمانينيات القرن العشرين وهي الفترة التي بدأت فيها الحفريات الأثرية مجددًا فتمّ اكتشاف 20 منزلًا رومانيًا رفعت منها إلى الآن 67 لوحة فسيفسائية أغلبها موجود بالمتحف الوطني بباردو بقاعة تحمل اسم "أوذنة" ورممّ الكابيتول وخاصة طوابقه السفليّة وأعمدته الساحرة وأزيحت الأتربة التي كانت تغمر المسرح الدّائري، تحفة المسارح الرومانية بشمال إفريقيا ورمّمت الحمّامات العمومية مجددًا. وكأن وجه المدينة عادت إليه نضارته، ومنذ سنة 1992 والأشغال والحفريات والتّرميم لا تهدأ بالموقع لعل أخرها إيصال النور الكهربائي.
قصة هذه المدينة القديمة لم تنته وخاصة صراعها مع المدن الرومانية الأخرى فقد طفى من جديد على ال سطح، لقد عادت قرطاج لتتفوق على "أوتينا" مجددًا في هذا العصر الحديث لكأنها لعنة التاريخ متلبّسة بالمدينة فأصبحت الحرب حرب مسارح أي بين مسرح قرطاج ومسرح أوذنة.ما قصّة المسرحين؟ ولماذا برز مسرح قرطاج وبات الأشهر في تونس وأقصى مسرح أوذنة رغم جماله واكتماله؟
لماذا برز مسرح قرطاج وبات الأشهر في تونس وأقصى مسرح أوذنة رغم جماله واكتماله؟
[[{"fid":"99451","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":333,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
(صفحة الموقع الأثري أوذنة)
اقرأ/ي أيضًا: آثار تونس.. معالم تختزل التاريخ وتعاني التهميش
أبوبكر بن فرج: مسرح أوذنة من الممكن أن يتفوق على مسرح قرطاج
وفي هذا الإطار، يقول المدير العام السابق للمعهد الوطني للتراث والخبير في السياسات الثقافية أبو بكر بن فرج لـ"الترا تونس" إن "موقع أوذنة هو موقع له خصائصه التي تميزه.. المعالم واضحة ومكتملة ومهندسة بذكاء نادر وفرادة لا نجد لها مثيلًا بمواقع أثرية أخرى". ويضيف "الموقع ريف ممتدّ فسيح وقريب من العاصمة إذ يبعد حوالي 30 كيلومترًا. ونقاط القوة هذه أهلته للمنافسة والتموقع في الخارطة الأثرية الوطنية بترتيب يتقدم فيه مواقع مشهورة ومن أجل ذلك صرفت الدولة على الموقع منذ سنة 1992 إلى اليوم أموالًا طائلة سواء من المال العام أو بالتعاون مع المنظمات الدولية".
ويبيّن بن فرج أن هذه الأموال صرفت من أجل تهيئة الموقع وتأهيله وإعادة الاعتبار لبهائه وجماله مشيرًا إلى أن هذا الأمر لا يكفي فالتّثمين الحقيقي يكون ببعث تظاهرة ثقافية فنّية مركزية تكون وطنيّة أو دولية، تسوّق للموقع عالميًا تمامًا كما حدث مع موقع قرطاج أو الجم".
ويبرز أن هذا يتطلب إرادة سياسية حقيقية من وزارة الثقافة أو من الحكومة نفسها كما حصل سنة 1964 عندما بعث مهرجان قرطاج الدولي بالمسرح الروماني بقرطاج، وكان ذلك بإيعاز من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة نفسه، قائلًا "ولا ننسى أيضًا أن مقر الحكم في تونس موجود قرب المسرح الأثري. كل ذلك ساهم في خلق المكانة التي يتمتع بها مسرح قرطاج اليوم. إضافة إلى أن مهرجان قرطاج الدولي بخياراته الفنيّة والذوقية وانفتاحه على ثقافات وموسيقات العالم أسهم هو الآخر في التعريف بالمسرح الأثري وبموقع قرطاج ككل.
ويختم أبو بكر بن فرج حديثه لـ"الترا تونس" بالقول "مسرح أوذنة الدائري مسرح خلاّب ورائع وطاقة استيعابه تتجاوز طاقة مسرح قرطاج لأن هذا الأخير هو مسرح نصف دائري ولا مجال للمقارنة الهندسية بينهما لكن ثقافيًا يستطيع مسرح أوذنة التفوّق على مسرح قرطاج لو أردنا نحن ذلك".
خبير في السياسات الثقافية: التّثمين الحقيقي لمسرح أوذنة يكون ببعث تظاهرة ثقافية فنّية مركزية تسوّق للموقع كما حصل مع مسرحي قرطاج والجم
[[{"fid":"99452","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":375,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]
(صفحة الموقع الأثري أوذنة)
اقرأ/ي أيضًا: مقالة في"طبع المزموم".. أو عندما تخوض الموسيقى معركة التحرر
محافظ الموقع الأثري بأوذنة: لا أرى أفضلية مسرح على الآخر
من جهته، يقول محافظ موقع أوذنة الأثري الذي يشرف عليه المعهد الوطني للتراث نزار بن سليمان لـ"الترا تونس" إن الأشغال والحفريات بدأت في الموقع منذ قرن تقريبًا بشكل متقطع لكنها تواصلت بلا انقطاع منذ تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم. ويضيف بن سليمان أن الموقع الذي يمسح 100 هكتار لا يزال يتطلب الكثير من العمل والجهد والمال من ذلك تهيئة ظروف الزيارات حتي يصبح جاهزًا للسياحة والتظاهرات الثقافية والفنيّة الكبرى. ويبيّن أن المعهد الوطني للتراث يعمل خلال السنوات الأخيرة على تحقيق هذا الهدف فيما يتعلق بأوذنة.
وبخصوص مسرح أوذنة الدائري ومدى تفوقه على مسرح قرطاج، يشير نزار بن سليمان إلى أن الرومان كانوا ينشؤون بمدنهم المزدهرة مسرحين اثنين، مسرحًا دائريًا خاصًا بالعروض الفرجوية والمصارعة ومصارعة الحيوانات وآخر نصف دائري خاص بالمسرح والشعر والفنّ وهي نفس الطريقة الاغريقية. وبالنسبة لمسرح أوذنة، يوضح محدثنا أن المسرح الدائري أكتشف ورُمّم وهو قادر على احتضان بعض العروض الفنية، مبينًا أن طاقة استيعابه تبلغ 17 ألف متفرج وأن مندوبية الثقافة ببن عروس أقامت بعض الحفلات الفنية الكبرى فيه لتجربته بالتنسيق مع الأوركسترا السمفوني التونسي والمعهد الرشيدي والتي كان صداها طيبًا.
محافظ الموقع الأثري بأوذنة: إذا أرادت تونس الجديدة إعادة الاعتبار لتاريخها القديم عليها الدفاع على موقع أوذنة الأثري كتراث عالمي لدى اليونسكو
ويبرز أن المسرح نصف الدائري موجود لكن لم يطله الترميم بعد في حين أن المسرح نصف الدائري بقرطاج تم اكتشافه منذ أكثر من قرن ورُمّم وهو الذي يحتضن مهرجان قرطاج الدولي. أما مسرح قرطاج الدائري فهو مكتشف وشبه مرمّم ويقع بحي محمد علي بالمنطقة الأُثرية "المعلقة" بقرطاج لكن لم يقع استغلاله إلى الآن. ويلفت بن سليمان إلى أنه كخبير لا يرى أفضلية مسرح على الآخر إذ لكلّ واحد خصوصيته الفنية والتاريخية، حسب تعبيره.
ويقول محافظ الموقع الأُثري بأوذنة " إذا أرادت تونس الجديدة إعادة الاعتبار لتاريخها القديم وتمييز ثقافتها بين الأمم عليها أن تتوجه نحو المواقع الأثرية بكامل البلاد ومن بينها موقع أوذنة الكبير وإعلاء حضوره والدفاع عنه كتراث عالمي لدى منظمة اليونسكو كما تم مع موقع قرطاج سنة 1979، مؤكدًا أن الموقع يعدّ فعلًا ضمن التراث العالمي نظرًا إلى قصة هذه المدينة ودورها في التاريخ القديم والحديث.
أوذنة إذًا ليست قصة مسرح أو قصة مدينة تعاقبت عليها الحضارات فقط بل هي قصة موقع أُثري عانى الإهمال والنسيان لقرون مديدة ويكابد من أجل العودة إلى الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: