"خمسة أطفال من عائلتي محتجزون في مخيّم تابع لـ"قوّات سوريا الديمقراطية" (وحدات مكوّنة من الأكراد أساسًا متمركزة في شمال شرق سوريا ومدعومة من الولايات المتحدة)"، تقول "فاطمة" (اسم مستعار) قبل أن تستدرك "لا، بل قد أصبحوا ستّة قبل أسبوعين بعد وضع بنت أخي مولودها". ليست هذه الأمّ حديثة العهد بالولادة، امرأة شابّة حتّى، فهي التي غادرت تونس بعمر الـ14 عامًا وتزوّجت تونسيّا في سوريا، لا تزال دون الثامنة عشر من العمر.
في الواقع، باحتساب أب الطفل، يكون عدد أفراد عائلة فاطمة العالقين في سوريا 15 فردًا، غير أنّ هذا الأخير سقط من حساباتها. فهي لا تذكر اسمه ولا تعرف حتّى ملامح وجهه.
سافر 14 فردًا من عائلة فاطمة إلى سوريا وتقول إن البداية كانت بالأخ الأصغر وعائلته قبل أن تلتحق بقية العائلة بحثًا عنهم وفق روايتها
تعيش فاطمة، البالغة من العمر 53 عامًا، منذ 2014 على وقع الفقدان والحسرة. بدأت معاناتها بقرار أخيها الأصغر السّفر إلى سوريا. حيث اصطحب "فادي" (اسم مستعار) زوجته وطفليه بدعوى أداء مراسم العمرة، غير أنّهم قاموا لاحقًا بتغيير وجهتهم في اتّجاه تركيا ومنها إلى الأراضي السورية. كانت تلك الرّحلة الأخيرة في عمر صاحب محلّ بيع الملابس الجاهزة سابقًا، أمّا الزوجة والبنت والابن، 8 و5 سنوات على التّوالي، فقد انقطعت أخبارهم.
في حديثها معنا كانت فاطمة تتجنّب تمامًا الخوض في الأسباب العميقة التي جعلت أخاها ينضمّ إلى التنظيمات المصنّفة دوليًا إرهابية في سوريا. كانت فقط تستخدم عبارة "إذا كان أخي قد أخطأ"، للإشارة إلى قتاله في صفوف "تنظيم الدولة الإسلامية" الإرهابي نافية وجود أيّ فكر متطرّف خلف ذلك القرار."كان أخي الأصغر ميسور الحال فهو يمتلك محلّ بيع ملابس جاهزة وصالة رياضة للأطفال وقاعة أفراح"، تقول فاطمة لـ"الترا تونس"، مضيفة في حسرة "لا أعرف ما الّذي دفع شابّا مثله إلى اتّخاذ ذلك القرار".
اقرأ/ي أيضًا: خاصّ: هذه حقيقة ملفّ التونسي سامي.ع الحارس الشخصي لأسامة بن لادن
ماي/آيار 2015، لم يمض شهر على التحاق أفراد العائلة بالأخ الأصغر حتّى تلقّوا خبر مقتله، نقلت زوجة هذا الأخير الخبر قبل أن تختفي تمامًا هي والطفلان. وتزعم فاطمة أنّهم قد تخلّفوا عن ركب البقيّة أثناء تنقّلهم من مدينة إلى أخرى نافية إمكانية اعتقالهم مثلًا من قبل "قوّات سوريا الديمقراطية".
"كان هناك عطلة مدرسية وفكّر أخي الأوسط والأصغر أنّه من الجيّد أن يصطحبا زوجتيهما وأبناءهما الخمسة إلى تركيا للتسوّق، ثمّ يتنقّلوا بالمرّة إلى حيث أخي وعائلته فيقنعونهم بالعودة جميعًا إلى تونس". هكذا التحق 11 فردًا من عائلة فاطمة، من بينهم أختها وأمّها أيضًا، بأراضي النزاع في سوريا دفعة واحدة، حسب زعمها.
هل يبدو هذا التفسير مقنعًا؟ على الأرجح أنّه بعيد كلّ البعد عن ذلك باعتبار أن تاريخ خروج هذا العدد كان في فترة تبيّنت خلالها حقيقة التنظيمات الإرهابية المتورّطة في المشهد الدموي السوري، والتي ادعت سابقًا أنها دولة عدل على "منهاج النبوّة" كما تزعم، غير أنّ فاطمة التي بقيت وحدها في تونس لا تملك أن تقدّم رواية أخرى للأحداث. ليس الآن على الأقلّ.
تقول قاطمة إن أفراد العائلة التحقوا بالأخ الأصغر لإقناعه بالعودة إلى تونس مع عائلته في ماي/آيار 2015 ولكنها رواية تظلّ محلّ شكّ
عبرت الأخت والأمّ الحدود التركية السورية أوّلًا في محاولة للالتحاق بـ"فادي" والضغط عليه لعلّه إذا رأى والدته المريضة "رأف بحالها وقرّر العودة، غير أنّهما تأخّرتا فقرّر البقيّة دخول الأراضي السورية لمعرفة ما الّذي أخّرهما ليعلقوا جميعا هناك كما لو كانت مصيدة فئران"، حسب زعم فاطمة لـ"الترا تونس".
بقيت محدّثتنا في تونس رفقة زوجها وابنها البالغ من العمر 12 عامًا، ووالدها المريض ذي الـ83 عامًا. كان لفاطمة محلّ خياطة عملت فيه بضعة سنوات قبل أن تتركه مباشرة إثر سفر عائلتها، كما تركت بيتها أيضا لتستقرّ بمنزل العائلة وتهتمّ بأبيها الذي أجرى عمليتين على القلب المفتوح وعدسة العين.
تعرّضت فاطمة وما تبقّى من عائلتها في تونس إلى "مضايقات أمنيّة عديدة" في بداية الأحداث، على غرار حادثة اقتحام منزلها في الساعة الثانية صباحًا غداة عيد الفطر عام 2016، وفق قولها. وتؤكّد أنّ رجال الأمن مازالوا "كلّ مرّة يعملوا طلّة عليها" (يزورونها في البيت من حين إلى آخر). عدا عن مشقّة الاعتناء بوالدها المريض وانزعاج زوجها من ترك بيته، لا تعاني فاطمة من مشاكل مع محيطها بعد الأحداث، إذ تؤكّد أنّ أهالي المنطقة والجيران جميعهم يحترمونها ولم يحدث أن أزعجها أحدهم.
اقرأ/ي أيضًا: عودة المقاتلين إلى تونس.. الإطار والسيناريوهات
قبل بضعة أشهر، علمت فاطمة بوفاة والدتها عن عمر يناهز الـ76 عامًا في سوريا. ومنذ ذلك الحين، وهي لا تدّخر جهدًا في طرق أبواب المسؤولين لحثّهم على تكثيف مساعي إعادة ما تبقّى من عائلتها في سوريا.
تزعم محدّثتنا أنّ أفراد عائلتها حاولوا منذ وصولهم إلى الأراضي السورية العودة إلى تونس، غير أنّهم وأثناء "محاولتهم عبور الحدود نحو الأراضي التركية وقعوا في قبضة قوّات سوريا الديمقراطية"، وفق قولها.
تقول فاطمة إن "قوات سوريا الديمقراطية" تحتجز أفراد عائلتها الذين اتصلوا بها لتكثيف الجهود لتسهيل عودتهم إلى تونس
قامت "قوّات سوريا الديمقراطية" وفصائل أخرى، باحتجاز إخوة فاطمة وزوجاتهم وأبنائهم، حيث وضعت النساء والأطفال في مخيّم تابع للقوّات فيما نقل الرّجال إلى معسكر اعتقال للمشتبه في تورّطهم في الإرهاب. ومذ ذلك الحين، صارت فاطمة تتلقّى كلّ شهر أو شهر ونصف مكالمة من أفراد عائلتها هناك يستحثّونها فيها على تكثيف الجهود لتسهيل عودتهم.
قبل نحو شهر من الآن، تلقّت محدّثتنا رسالة صوتيّة من قبل إحدى موظّفات "الإدارة الذاتيّة" (المُسمّى الذي يُطلق على منطقة الإدارة الكردية في سوريا) بالمخيّم تطلب فيها من فاطمة التنسيق مع السلطات التونسية قصد "تسوية وضعية العوائل". وبناء على ذلك، توجّهت فاطمة منذ حوالي أسبوعين بمطلب في الغرض إلى وزارة الخارجية، كما سبق لها بالفعل الاتّصال بعدد من نواّب البرلمان ووزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السنّ والمفوضية العليا لحقوق الإنسان ومكتب الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان بتونس.
"الأطفال يريدون العودة. ما ذنبهم كي ينشؤوا في بيئة مماثلة؟" تتساءل فاطمة.
من جهته، أكّد عادل الجربوعي كاتب الدولة للهجرة والتونسيين بالخارج لـ"الترا تونس" أنّ وزارة الشؤون الاجتماعية تعمل بالتنسيق مع وزارة الخارجية لإعادة العائلات التونسية العالقة في كلّ من سوريا والعراق وتركيا وليبيا، واصفًا هذا الملفّ بـ"الدّقيق والمعقّد".
عادل الجربوعي كاتب الدولة للهجرة والتونسيين بالخارج لـ"الترا تونس": نعمل على إعادة العائلات التونسية العالقة في كلّ من سوريا والعراق وتركيا وليبيا
وشدّد الجربوعي على أنّه "في إطار حرص الدولة التونسية على حماية حقوق مواطنيها، نعمل في كتابة الدولة للهجرة والتونسيين بالخارج وبالتنسيق مع الصّليب الأحمر و"اليونيسيف" على إرجاع العائلات وخاصّة منهم الأطفال". إذ أنّ نشأة طفل تونسي في بؤر التوتّر من شأنه أن "يجعله هو أيضًا مشروع إرهابيّ وشخصًا ناقًما على بلاده"، وفق تعبيره. كما أشار إلى كون الوزارة قد نجحت في إعادة طفل تونسي كان عالقًا في ليبيا ليتكفّل به جدّه وجدّته في تونس.
وفي هذا الصّدد، ترجو فاطمة، التي تخشى الظهور الإعلامي لدواعي أمنية، أن "تبذل الدولة التونسية كلّ ما في وسعها لإعادة أفراد عائلتها وخاصّة الأطفال منهم"، مبيّنة أنّ القضاء هو الفيصل في تحديد من ثبت تورّطه منهم في أعمال إرهابية في سوريا.
أكثر من 30 مواطنًا تونسيًا عالقون في مخيّمات تابعة لـ"قوّات سوريا الديمقراطية" والجيش السوري الحرّ في مناطق النزاع الواقعة شمال سوريا أحصتهم القنصلية التونسية بدمشق، وفق مدير الشؤون القنصليّة بوزارة الخارجية شهير الجبّي في مارس/ آذار 2018، ويبدو بذلك أن أفراد عائلة فاطمة يمثلون لوحدهم قرابة نصف هذا العدد.
* سيتابع "ألترا تونس" أطوار هذا الموضوع من خلال مختلف الأطراف المتدخلة فيه
اقرأ/ي أيضًا:
المقاتلون التونسيون مع النظام السوري.. إرهاب آخر!
خطط مكافحة الإرهاب في تونس.. الجدل متواصل