يوسف بن يوسف عجّان ومدوْزن ممهور للأضواء والظلال في عالم السينما، هو "ساحر الكادرات الخلاّبة" طيلة مسيرة ثقافية وفنّية متوّجة شملت 27 فيلمًا تونسيًا وعربيًا وإفريقيًا وبضع مسلسلات درامية تونسية، هو مدير التصوير التونسي الشهير خجول كزهرة وصموت كفارس. مرّ بيننا كشهاب فضيّ وترجّل في 28 ديسمبر/كانون الأول 2018 ليترك سلالًا من الذكريات السينمائية والإنسانية المجيدة التي تستحق كل التحايا.
يوسف بن يوسف هو "ساحر الكادرات الخلاّبة" طيلة مسيرة ثقافية وفنّية متوّجة شملت 27 فيلمًا تونسيًا وعربيًا وإفريقيًا على مدى نحو 4 عقود
وحتى لا ننسى هذه الشخصية العبقرية والفذّة، ارتأت "السينماتاك" (المكتبة السينمائية التونسية) بالتنسيق مع عائلته أن تفرد للراحل يوسف بن يوسف معرضًا وثائقيًا متحفيًا برواق حمّادي الصّيد بمدينة الثقافة بالعاصمة تونس يمتد طيلة شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2019 وهو ما يمكّن روّاد "أيّام قرطاج السينمائية " من زيارته والاطلاع على مسيرة المحتفى به.
اقرأ/ي أيضًا: حاتم بالحاج لـ"الترا تونس": نقاد السينما والدراما في تونس عاطفيون (حوار)
المعرض الاحتفائي ومنذ ولوجك إليه، يبسط أمامك الأغراض الشخصية ليوسف بن يوسف: أقلامه، ونظاراته، وآلات تصويره، ومجسدات تذكارية لجوائز منها الجائزة الوطنية للآداب والفنون لسنة 2007، ومجموعة من المسبحات، وكراسات للتدوين، وشالات وأدوات تصوير.
وهذه الأغراض المنضّدة بعناية تزيح بعض الغموض عن شخصية ذات اعتبار في عالم السينما مشهود لها بفنّيتها ودقتها وصرامتها في العمل وهو ما تعكسه مقتنياته وأدواته الخاصة، كما تبرز هذه الأغراض الألوان التي يحبّ، إنها العين التي بها يرتب لنا يوسف بن يوسف "الكادرات" الفالقة الساحرة.
تحصّل يوسف بن يوسف على الجائزة الوطنية للآداب والفنون سنة 2007
وأنت تتجول في المعرض تدرك أنّ يوسف بن يوسف كان أحد صنّاع مجد السينما التونسية لما يقارب أربعة عقود من ثمانينيات القرن العشرين إلى تاريخ وفاته. وهو مدير تصوير أهم الأفلام التونسية التي حصدت التتويجات المحليّة والعالمية وخلقت نقاشات جمالية وفكرية منها "ريح السدّ"، و"صفائح ذهب" للنوري بوزيد، و"عصفور سطح" لفريد بوغدير، و"صمت القصور"، و"موسم الرجال" لمفيدة التلاتلي، و"غدوة نحرق" لمحمد بن إسماعيل، و"خريف 86" لرشيد فرشيو.
يوسف بن يوسف هو مدير تصوير أهم الأفلام التونسية التي حصدت التتويجات المحليّة والعالمية منها "ريح السدّ"، و"صفائح من ذهب" للنوري بوزيد، و"عصفور سطح" لفريد بوغدير
أما عربيًا، تعدّ تجربة بن يوسف مع المخرج السّوري محمد ملص هي الأهم حينما كان مدير تصوير شريط "الليل" و "حلب مقامات المسرّة"، وهما فيلمان يتسمان بالتعقيد السياسي والأيديولوجي ويطرحان بالخصوص قضية مقاومة العدو الإسرائيلي، وقد عمل المعرض على تبيان هذه التجربة العربية لمدير التصوير التونسي. وكان قد أشاد محمد ملص، في شهاداته الإعلامية حول العملين المذكورين، ببن يوسف وبالنقاشات الفكرية التي جمعتهما حتى تكون الصورة بتلك الفنّية.
يوسف بن يوسف هو مدير تصوير أهم الأفلام التونسية التي حصدت التتويجات المحليّة والعالمية
اقرأ/ي أيضًأ: الطاهر شريعة.. أب السينما التونسية
وقال المخرج السوري في شهادة تضمنها المعرض: "خلال الأحاديث المتبادلة تبيّن لي وترسّخ لدي أن تلك العينين الجميلتين هما بؤرة الإصغاء وخزّان الكلام السينمائي الذي تبادلناه. هكذا كسر بن يوسف الأساليب التي تعلّمناها من قبل. فحين تريد أن تصنع فيلما استمتع بالحوار حول الإبداع السينمائي إلى درجة عليا ومفتوحة وبلا حدود من أجل التّماس والتفاهم الوجداني بين المخرج ومدير التصوير، وهذا ما حصل مع يوسف بن يوسف".
وعبر معلقات الأفلام التي احتواها المعرض، خاض بن يوسف أيضًا تجربة مع المخرج الجزائري أحمد الراشدي في شريط "مصطفى بن بولعيد" الذي تناول مسيرة أحد أبطال المقاومة الجزائرية، وكذا تجربة مع المخرج الموريتاني عبد الرحمان سيساكو في شريط "صبريّة".
فضّل يوسف بن يوسف السينما المهمومة بالقضايا
ولم ينس المعرض تجربة يوسف بن يوسف مع التلفزيون التونسي في سبعينيات القرن الماضي بعد عودته من الدراسة في فرنسا، وقد كان يفضّل التصوير الخارجي ولم يكن يحبذّ عادات كسر الأضواء داخل الاستوديو، مخيرًا العمل على آلات الـ12 ملّيمتر التي تعتمد الشريط الانعكاسي في تحدّ كبير للسائد حينها. وكانت تلك بداية الخروج من الشرنقة والبحث عن الصورة الفراشة/المغامرة. وتمتّع المتفرّج التونسي في ذلك الزمن بأعمال مميّزة منها "مدن وقرى" الذي كان يعدّه الصحفي الحبيب حرّار ويخرجه توفيق بسباس ومسلسل "حكم الأيّام" للمخرج عبد القادر الجربي.
كان يفضّل يوسف بن يوسف التصوير الخارجي ولم يكن يحبذّ عادات كسر الأضواء داخل الاستوديو، مخيرًا العمل على آلات الـ12 ملّيمتر التي تعتمد الشريط الانعكاسي في تحدّ كبير للسائد حينها
المعرض قدم نماذج لكادرات شهيرة من مختلف الأفلام التي اشتغل بها المحتفى به وكانت قد أعدّتها عينه وبصيرته وفكره بعد جهد وبحث عن المغاير البصري في سينما هي خلاصة الفن الحديث. وفي تلك اللحظة بالذات وأنت أمام هذه الكادرات، تتيقّن أن "للعطر منظور"، فباقة الصور المقدمة تجعلك مدهوشًا أمام المخبر الذهني الذي أعدها ببساطة، إنها عين العبقري يوسف بن يوسف.
الرجل الغامض ذي العينين الثاقبتين لم تغريه السينما التجارية بل فضل السينما المهمومة بالقضايا، السينما التي تفكر، وتحاور، وتجادل، السينما الناقدة. وقد فضل الكتابة بالصورة لذلك جاءت مقتنياته بالمعرض متضمنة لأقلام عديدة في كناية شعرية لما يحمله القلم من دلالات.
إن معرض تكريم سيّد التصوير السينمائي التونسي يوسف بن يوسف يحمل اعترافًا لمسيرة فنّان كان "خفيض النّبرة ومتجنّبًا للظهور الاعلامي تمامًا كأي فارس حقيقي" يصنع الصورة ليبهجنا ولكنها في النهاية لا تغريه ليدخل أطرها.
اقرأ/ي أيضًا:
السينما التونسية ما بعد الثورة: سرديات الواقع.. بجماليّات جديدة