مقال رأي
لا يمكن تجاوز أن الديمقراطية التونسية الناشئة، التي لم يشتدّ بعد عودها ولم يكتمل تركيز مؤسساتها الدستورية، تظلّ، ورغم حدّة الصعوبات الاقتصادية التي تصعّب تبيئتها أيضًا، الديمقراطية العربية الوحيدة وفق أكثر من مؤشر دولي، أو على الأقل تتصدّر سلّم البلدان ذات الصفة الديمقراطية في المنطقة، والمؤكد أن تونس هي البلد الوحيد من بلدان الثورة العربية المجيدة التي استطاعت تأمين مسار سياسي سلمي لإدارة البلاد عبر الخيار الديمقراطي. والدعوة لعدم التجاوز تأتي أمام محاولة تبخيس البعض هذا "الإنجاز"، في باب الاحتفاء، ولكن الأخطر في الجرّ نحو التهوين من حدّة المخططات لنسف الديمقراطية وهزّ أسسها والعودة إلى الوراء.
لازالت تونس الديمقراطية هي الإجابة "المقلقة" لقوى إقليمية تسعى منذ عشر سنوات لمقايضة الشعوب العربية بين استبداد منتهك للحقوق والحريات وناهب للثروات منخرط في الأجندة الصهيونية في المنطقة من جهة وبين الفوضى والاحتراب الأهلي والدمار الممنهج لكيان الدولة من جهة أخرى. وتأتي "الإجابة تونس" محرجة دائمًا للرد على الجملة الشهيرة "مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق" التي مثلت تيمة دعائية لإعلاميي النظام المصري وأنصاره منذ انقلاب صيف 2013.
لازالت تونس الديمقراطية هي الإجابة "المقلقة" لقوى إقليمية تسعى منذ عشر سنوات لمقايضة الشعوب العربية بين استبداد منخرط في الأجندة الصهيونية من جهة وبين الفوضى والاحتراب الأهلي من جهة أخرى
تبقى إذًا تونس البلد "الصغير" جغرافيًا مقارنة بجيرانها ومحدودة التأثير المباشر في المعادلات الإقليمية، البلد "الكبير" المؤثر في الخارطة الجيوستراتيجية وأمام الشعوب العربية التائقة إلى الحرية والكرامة من بوابة أنها "النموذج" الذي أثبت على إمكانية التوأمة بين المواطنة والمقاومة وإمكانية التلازم بين فرض الأمن وتحقيق مطلب الحرية.
ولذلك، تتابعًا، تمثل الديمقراطية التونسية تهديدًا في مرمى مخططات معسكر الشر العربي، الذي تقوده بالخصوص الإمارات والسعودية، الساعي لقبر أي فرصة لتحرير الإنسان والأرض في المجال العربي، والذي أبان، بالخصوص طيلة السنوات الأخيرة، عن وجهه المكشوف بتحالف مع الصهيونية مثلت "ًصفقة القرن" آخر عناوينه.
اقرأ/ي أيضًا: التاريخ يعيد نفسه.. التلويح بالاستفتاء مجددًا
على هذا النحو، لا يمكن قراءة الدعوات المتوترة والمشبوهة في المشهد السياسي التونسي، طيلة الأسابيع الأخيرة، دون الأخذ بعين الاعتبار، على الأقل من باب الحذر، مخططات محور الشر العربي الذي تلقى هزيمة موجعة في ليبيا مؤخرًا. وهذه دعوات متوترة ومتهافتة بالنظر إلى عناوينها عبر الدعوة إلى اعتصام أمام البرلمان من أجل تعليق العمل بالدستور الحالي والعودة لدستور 59 وحلّ البرلمان نفسه وهو الذي لم يمرّ على انتخابه إلا مدة 8 أشهر من ولاية تمتد 5 سنوات. ومتوترة أيضًا بالنظر للحملة التي لا يمكن نكرانها ضد الحزب الأكبر في البرلمان، حركة النهضة، بعنوان التحقق من "ثروة" رئيسه ورئيس البرلمان بتصدير مطلب شرعي لغايات معلومة غير بريئة في مقاصدها.
وهي مشبوهة، هذه الدعوات، بالنظر إلى الجهات السياسية والإعلامية التي تتصدّرها، وهي لفيف من أنصار النظام السابق والدكاكين اليسارجية المنهزمة في الانتخابات وشخصيات طالما عبرت عن رفضها للعملية الديمقراطية ومقاربة استئصالية للإسلاميين. وما يعزّز هذه الشبهات هو احتفاء إعلام دول الشر العربي، الإماراتي والسعودي والمصري، بهذه الدعوات التي باتت تتصدّر مواقعها ونشرات أخبارها.
تدفع الأطراف المشبوهة إلى مراجعة للمنظومة برمّتها بما يعني نسف المؤسسات الدستورية لا تطويرها وتدعيم نجاعتها
وإن خطورة هذه الدعوات ليست في مضامينها أو فرص تحقيق مآربها، إذ استطاع التونسيون، طيلة السنوات العشر الماضية، التصدّي لمخططات تدمير ديمقراطيتهم، ولكن تكمن في تبيانها أن الأطراف المنخرطة في هذه المخططات، تدبيرًا وتمويلًا وتنفيذًا، لم تكف بعد عن مساعيها، بما يعنيها من ضرورة اليقظة والحذر والاستعداد لمواجهتها وسد المنافذ أمامها.
اقرأ/ي أيضًا: بورجوازية الريع في تونس: خريطة المصالح
وكما نجح محور الشر في استثمار الاحتقان الشعبي في بلدان أخرى لتنفيذ مخططاته، لا ريب أنه يسعى اليوم لتوظيف تدهور الوضع الاجتماعي والمنتظر أن يتفاقم على ضوء أزمة كوفيد-19، وقد حذرت دراسات اجتماعية جديّة من مخاطر حركات شعبية تقودها الفئات المتضررة من هذه الأزمة. ويسعى أيضًا لاستغلال حالة الاحتقان تجاه جزء من الطبقة السياسية، بالنظر لانخفاض شعبية الأحزاب والبرلمان على خلاف رئيس الجمهورية قيس سعيّد، في الدفع نحو مسار ينسف العملية الديمقراطية برمتها والتي استدعت منا تضحيات جمّة وتوافقات قاسية.
تدعو أطراف حزبية ومستقلة إلى مراجعات للمنظومة السياسية، خاصة في الجانب المتعلق بالنظام السياسي أو النظام الانتخابي، بعنوان النجاعة في الحكم، وتنتقد الماسكين بالقرار السياسي وتدعوهم إلى المضي نحو خيارات عميقة وشجاعة بما يعنيه ضربًا لعش الدبابير في مواضع عدّة. ولكن تؤكد هذه الأطراف، بالخصوص التي تعرف نفسها كمعارضة للحكومة، وسواء كانت ممثلة في البرلمان أو خارجه، إلى ضرورة المحافظة على إدارة الاختلاف السياسي تحت المشترك الوطني وبآليات العملية الديمقراطية.
ولكن في المقابل، تدفع الأطراف المشبوهة إلى مراجعة للمنظومة في ذاتها بما يعني نسف المؤسسات الدستورية لا تطويرها وتدعيم نجاعتها، وهي تدعو إلى هذه المراجعة خارج إطار آليات التعديل الديمقراطي بل عبر التجييش والتهديد بشارع، يبدو أنه حسم، منذ سنوات، أن تغييره لن يكون إلا بالصندوق لا غير. وربما مثلت نتائج انتخابات 2019 وبالخصوص صعود قيس سعيّد، الذي فاز دون ماكينات حزبية ومالية خلفه، إعادة اعتبار لحكم الشعب الذي يحسم بصوته مهما بلغت محاولات التأثير والبروباغندا.
نحن بحاجة دائمًا للتأكيد على ضرورة إدارة اختلافاتنا تحت سقف المشترك الوطني وفي إطار المؤسسات الدستورية
اختار التونسيون طريقهم، وهم يواصلون بناء ديمقراطيتهم رغم كل المصاعب الحافّة ويعلمون أنهم يساءلون السياسيين ويمارسون حرياتهم الفردية والجماعية بفضل هذه الديمقراطية. ينصب الاهتمام اليوم، في المقابل، من أجل تحقيق المنجز الاقتصادي والاجتماعي، في مهمة ستعسّرها أزمة كورونا، من أجل تنمية ورفاه يُكملان تحقيق ما خرجوا من أجله للشارع ضد نظام الاستبداد قبل عشر سنوات. ولكن في خضم ذلك، تسعى قوى محلية وإقليمية لاستغلال الاحتقان ضد بعض السياسيين وحالة التدهور الاجتماعي، من أجل اختطاف الديمقراطية وعدم تفويت أي فرصة لتقويضها. نحن بحاجة دائمًا للتأكيد على ضرورة إدارة اختلافاتنا تحت سقف المشترك الوطني وعبر المؤسسات الدستورية، وهو ما يستدعي منا اليقظة الدائمة لحماية ديمقراطيتنا بالتنبه من كل الخطابات المشبوهة وتغليب منطق الوحدة الوطنية الصماء.
اقرأ/ي أيضًا: