مقال رأي
كنتُ أشرتُ سابقًا إلى أن الرئيس قيس سعيّد يميل إلى مهجة "الستينيات"، في الشأن المحلي والإقليمي. لكن الميل أو الرغبة شيء، والفعل والواقع شيء آخر. ما يهمني في هذا المقال ليس فقط النقاش التاريخي حول طبيعة "الستينيات" بقدر ما هو أيضًا مدى التبني العملي لها من قبل الرئيس. ماذا استنسخ منها تحديدًا في الواقع العملي؟ وما الذي لم يستنسخ خاصة أنه أطلق على المرحلة القادمة من عهدته الرئاسية اسم "البناء والتشييد"؟
-
ما هي "الستينيات" بالتحديد في تونس؟
إنها مرحلة تاريخية محددة وليست مجرد عشرية، وبالأساس وقبل كل شيء، هي مرحلة التأسيس العملي لمعنى "الدولة الوطنية". لم يكن الاستقلال في 1956 إلا الإمضاء على وثائق تنص على الاستقلال واعترافًا دوليًا وسفراء وقناصل وعددًا من الطقوس والأفعال الرمزية البروتوكولية الدالة على وجود دولة، وقبل كل ذلك المسار المتدرج لاحتكار العنف من قبل نخبة محلية عوض النخبة الاستعمارية. عدا ذلك بقي وضع التونسي، الصحي والتعليمي والاقتصادي والاجتماعي هو نفسه. نخبة الحكم الجديدة اعتقدت في جزء كبير منها، كما يقول بن صالح، إن "الاستقلال زردة"، وكانت "الأراضي الدولية" بالتحديد موضع طمع الكثيرين. كأننا بصدد النموذج التاريخي "فتوحات، فغنائم".
قيس سعيّد يميل إلى مهجة "الستينيات"، في الشأن المحلي والإقليمي لكن الميل أو الرغبة شيء، والفعل والواقع شيء آخر
كنتُ تعرضتُ إلى أهم عناصر "الستينيات" في كتابي حول "أحمد بن صالح: سيرة زعيم اجتماعي ديمقراطي" (2020)، خاصة منه فصل "تقييم التجربة" (ص. 103-114). نجد توصيفًا دقيقًا للوضع القائم قبل الستينيات وخطة الدولة إزاءه في "الخطة العشرية" (1961-1971) المعنونة "الآفاق العشرية للتنمية"، التي ستتبناها "حكومة بن صالح" (سيطر فيها تدريجيًا الراحل أحمد بن صالح على أهم المواقع دون أن يكون فيها رسميًا رئيسها).
تعتبر الوثيقة أن "أهم العقبات أمام التنمية" هي فيما يخص التعليم مثلًا، النقص الكبير في الكوادر والنسبة المنخفضة جدًا للتمدرس، وفي المؤشرات الاقتصادية العامة، نجد نقصًا كبيرًا في الموارد المالية وضعف رأس المال الخاص مقابل ضيق السوق الداخلية، مع ضعف القدرة الشرائية (الدخل السنوي لثلاثة أرباع التونسيين لم يتجاوز حينها الخمسين دينارًا)، وهيمنة اقتصاد فلاحي ضعيف الموارد مع استمرار هيمنة الأجانب على مساحة واسعة من الأراضي الخصبة (سيطرة 4700 مستوطن على 400 ألف هكتار)، مقابل عدد ضخم من الفلاحين التونسيين. أما العاملين في أراضي يملكها أجانب أو مالكين صغار (لا تتجاوز في الأغلب 7 هكتارات الواحدة، وهي الأقل خصوبة). في حين لا توجد أي صناعة جدية خارج الصناعة الاستخراجية التي أرساها الاستعمار. وأخيرًا هيمنة العاصمة وتهميش بقية الجهات.
"الستينيات" في تونس، مرحلة تاريخية محددة وليست مجرد عشرية، فهي أولًا وقبل كل شيء، مرحلة التأسيس العملي لمعنى "الدولة الوطنية"
حددت وثيقة "الخطة العشرية" أربعة أهداف استراتيجية لمواجهة هذه العقبات وتحقيق التنمية:
أولًا، الجلاء الاقتصادي بمعنى ليس فقط تفكيك التبعية التجارية للمتروبول الفرنسي، بل أيضًا تفكيك التبعية للاستراتيجية الاقتصادية الفرنسية بما يمنع الدولة الجديدة من تقرير مصيرها الاقتصادي، بعيدًا عن الدور الوظيفي الفلاحي-الاستخراجي الذي تم تحديده من قبل المتروبول.
ثانيًا، "الإنسان غاية الاقتصاد"، بمعنى ليس الهدف تحقيق أرقام نمو جيدة فحسب، بل الرفع في المستوى المعيشي العام بما في ذلك الصحي والتعليمي والاجتماعي، ما يمكن أن نسميه في السياق الراهن "مؤشر التنمية البشرية" (Human Development Index/HDI).
ثالثًا، "الإصلاحات الهيكلية" في تقسيم الدولة وتوزع الأدوار الاقتصادية جغرافيًا، بمعنى تأسيس "أقطاب جهوية" تنهي هيمنة العاصمة، وتخلق مجالات متناسبة عبر الفضاء الجغرافي تتخصص في قطاعات مختلفة ومتنوعة.
رابعًا وأخيرًا "التطور الذاتي" بالتقليص من التواكل على التمويل الخارجي.
كانت "الستينيات"مرحلة نظام سياسي تسلطي فرض "وحدة الدولة مع الشعب" بمعنى تقويض أي وجود لمنظمات حزبية أو مدنية خارج هيمنة الدولة وخاصة حزب الدولة
هناك وثيقة ثانية أصدرتها الدولة في جانفي/يناير 1972، تقدم تقييمًا داخليًا لـ"الخطة العشرية" أصدرتها وزارة الاقتصاد والتخطيط بعنوان (Rétrospective décennale 1962-1971)، ورغم أن السياق السياسي السائد حينها كان معاديًا لـ"مرحلة بن صالح"، فقد تعرضت بشكل إيجابي عمومًا لحصيلة "الستينيات". أكدت أولًا على أنه تم تحويل جزء مهم يصل إلى 23% من الناتج الداخلي الخام نحو الاستثمارات العمومية بما فيها عدد مهم من السدود التي تشكل العمود الفقري للبنية التحتية المائية للبلاد رغم انتقادات مؤسسات التمويل الدولية التي لم تكن مرتاحة لهذه المشاريع على أساس أنها "غير ربحية".
ثانيًا، تشيد الوثيقة بتضاعف مطّرد في نسب التنمية بسبب الاستثمارات العمومية، وتضاعفت القيمة المضافة الصناعية كما تم تنويع المبادلات التجارية ولم تعد فرنسا تهيمن عليها، وتم ضرب الهيمنة الزراعية للمستوطنين عبر الجلاء الزراعي.
ثالثًا، تحوّل جذري في مستوى العيش من خلال انتقال المتمدرسين من 450 ألف إلى مليون و200 ألف تونسي ومن ثمة التأسيس لنموذج الارتقاء الاجتماعي عبر التعليم، وانتشار المؤسسات الصحية الأساسية والرعاية الصحية المجانية لعدد غير مسبوق من التونسيين خاصة في المدن الصغيرة والأرياف، وتوسع التغطية الاجتماعية من 140 ألف إلى 350 ألف مواطن، وبناء 960 ألف مسكن.
لكن "الستينيات" لم تكن فقط قفزة اجتماعية غير مسبوقة وتأسيسًا حقيقيًا للدولة الوطنية، بل أيضًا مرحلة نظام سياسي تسلطي فرض "وحدة الدولة مع الشعب" بمعنى تقويض أي وجود لمنظمات حزبية أو مدنية خارج هيمنة الدولة وخاصة حزب الدولة. وللمفارقة، هذه "الوحدة" كانت تخفي انقسامًا عميقًا في البلاد بما في ذلك في الحزب وقيادته حول سياساته الاقتصادية والاجتماعية خاصة سياسة "التعاضد"، ولم يفعل الضغط الفرنسي الغاضب من هذه التوجهات إلا مزيد تعميق هذا الانقسام، خاصة بعد توزيع التقرير الطويل للسفير الفرنسي جان سوفانيارغ الذي تهجم على بن صالح وسياساته وكشف عن درجة تواصل محاولات التدخل الفرنسي في شأن البلاد الداخلي، واستند الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي كان يعيش ظروفًا نفسية صعبة إلى التقرير كي يتبرأ من بن صالح في خطاب شهير في نوفمبر/تشرين الثاني 1969.
-
أين يقف الرئيس قيس سعيّد عمليًا من "الستينيات"؟
أولًا، لسنا بصدد خطة ورؤية تنموية واضحة المعالم ودقيقة التفصيل، حيث يصر الرئيس أن "الشعب هو الذي سيحدد المنوال التنموي"، بما يعني عمليًا امتناعه عن تقديم مخطط تنموي. هنا بالتحديد، أي رفض إعلان خطة تنموية خماسية أو عشرية مقابل تغيير اسم الوزارة إلى الاسم القديم "الاقتصاد والتخطيط"، يلخص هذه العلاقة المعقدة بين الرئيس و"الستينيات". علاقة تتركز على "النوستالجيا" وليس بالضرورة الاستنساخ.
العلاقة المعقدة بين الرئيس قيس سعيّد و"الستينيات"، علاقة تتركز على "النوستالجيا" وليس بالضرورة الاستنساخ
ثانيًا، رغم أن "الشركات الأهلية" هي إحدى نماذج الشركات والمؤسسات والجمعيات "التعاونية" التي نجدها في الأمثلة الغربية منذ القرن التاسع عشر، فهي أيضًا تُحيل على "شركات التعاضد" لأنها ممولة أساسًا من الدولة سواء نقدًا أو عينًا، وبشكل مباشر أو غير مباشر (تحفيز البنوك الخاصة للقيام بالتمويل)، كما أن الدولة معنية بمنحها أراضي دولية، وأيضًا إذا لم تنجح تنتهي ملكيتها إلى الدولة.
ثالثًا، هناك تقارب في مبدأ التقليص من التعويل على التمويل الأجنبي مقابل "التعويل على الذات"، لكن هنا أيضًا لدينا اختلاف، حيث تعاملت الدولة أساسًا مع مؤسسات بريتون وودس (صندوق النقد والبنك الدولي) في حين تتعامل الدولة الآن مع التمويلات الثنائية (تمويل دول أخرى) بالاستفادة من حاجاتها الجيوسياسية.
نلاحظ منحى تسلطيًا عامًا رغم أن درجته أكثر كثافة وقوة في "الستينيات" من خلال دمج قسري لكل "الأجسام الوسيطة" في الحزب والدولة، في حين الآن لدينا "تهميش ناعم" لنفس الأجسام والتي اهترأت شعبيًا بطبعها
رابعًا، هناك منحى تسلطي عام، رغم أن درجته أكثر كثافة وقوة في "الستينيات" من خلال دمج قسري لكل "الأجسام الوسيطة" في الحزب والدولة، في حين الآن لدينا "تهميش ناعم" لنفس الأجسام والتي اهترأت شعبيًا بطبعها بسبب إخفاقاتها في عشرية "الانتقال". في المقابل يرفض الرئيس الاعتماد على حزب واضح المعالم، بينما تنتصب المجالس المحلية كذراع أساسية في تعبئته السياسية كما توضح في الانتخابات الأخيرة.
خامسًا، اللاعبون الإقليميون والدوليون والتوجهات الجيوسياسية تختلف طبعًا في السياق الجيوسياسي، لكن لدينا تطابق في التوجه العام "المتأرجح" الذي يحاول الاستفادة من نظام دولي جديد بصدد الاستقرار، حيث تنتظر تونس توضّح معالم الوضع الدولي الجديد لتحديد اختياراتها رغم نزعة الرئيس قيس سعيّد، أكثر بوضوح من الرئيس الحبيب بورقيبة، إلى الميل للمعسكر "الشرقي" الحالي عوض "الغربي".
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"