أمام تفاقم الأزمة السياسية والاقتصادية اليوم في تونس، عادت الدعوات من جديد إلى عقد حوار وطني يجمع ممثلين عن الأحزاب والكتل البرلمانية بالإضافة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي كان طرفًا محوريًا في إدارة الحوار الوطني السابق سنة 2013. وتستند هذه الدعوات على تفاقم الأزمة الاقتصادية أولاً والتي زادت حدّة بسبب الوضع الوبائي في البلاد، إضافة إلى ما يراه البعض من إشكاليات بين رأسي السلطة التنفيذية.
أسئلة عديدة تُطرح حول فرضية عقد حوار وطني، خاصة وأنّ الداعين إليه من سياسيين يطالبون بأن يكون تحت إشراف رئيس الجمهورية قيس سعيّد. أي ملفات ستسيطر على هذا الحوار إن تم؟ هل تكون الغلبة للملفات السياسية والأزمة بين الفرقاء السياسيين، أم الأولوية هي للملفات الاقتصادية والاجتماعية التي زادت تأزمًا بسبب الوضع الوبائي وتوقف العديد من القطاعات الإنتاجية إلى جانب غليان الشارع باستمرار.
الحوار الوطني هذه المرّة لم تطرحه منظمات وطنية بل أطراف سياسية، أهمها مشروع تونس والحركة الديمقراطية وحركة الشعب والتيار الديمقراطي، وجميعها في المعارضة حاليًا
حوار وطني مختلف عن السابق
سنة 2013، قامت أربع منظمات وطنية برعاية الحوار الوطني السياسي بين الحكومة والأحزاب المعارضة، للوصول إلى توافق سياسي يخرج البلاد من شبح الفوضى إثر موجة الاغتيالات التي عرفتها. وقد شملت مبادرة الرباعي الراعي للحوار عدّة محاور كبرى، تركزت بالأساس على ضرورة تسوية الأزمة السياسية ودعوة الفرقاء السياسيين إلى القبول بتشكيل حكومة كفاءات برئاسة شخصية وطنية مستقلة على ألا يترشح أعضاؤها للانتخابات وبأن تتعهد الترويكا الحاكمة حينها بتقديم استقالتها في أجل لا يتجاوز ثلاثة أسابيع من موعد انطلاق الحوار الوطني، كما دعت المبادرة جميع الأحزاب السياسية الفاعلة في المشهد السياسي إلى الاتفاق على الشخصية التي ستتولى رئاسة الحكومة.
وقد أدت المفاوضات في الأخير إلى استقالة حكومة الترويكا وتشكيل حكومة كفاءات وطنية انتقالية برئاسة مهدي جمعة.
الحوار الوطني هذه المرّة لم تطرحه منظمات وطنية بالأساس، بل طرحته أطراف سياسية، أهمها مشروع تونس والحركة الديمقراطية وحركة الشعب والتيار الديمقراطي، وجميعها في المعارضة حاليًا. ومن البديهي اليوم أنّ الحوار لن يكون شبيهًا بحوار 2013 لأنّ البلاد لا تمرّ بنفس الأزمة السياسية على الرغم من الخلافات التي تشوب العمل السياسي سواء داخل البرلمان أو بين رئاستي الحكومة والجمهورية.
وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها تونس منذ الثورة، إلاّ أنّ الحوار الوطني السابق ارتكز أساسًا على ضرورة حلّ الأزمة السياسية الحادة بين الترويكا والأحزاب المعارضة، إلاّ أن الحوار الوطني الذي تدعو إليه بعض الأطراف السياسية اليوم والذي من الممكن أن يحلّ أيضًا الأزمة السياسية ويجمع الفرقاء السياسيين، فإنه سيشمل أساساً القضايا الاقتصادية خاصة وأنّ العديد من المحللين أكدوا أنّ الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد منذ سنتين ساهمت في تردي الأوضاع الاقتصادية كما أنّ أغلب من طرحوا هذه المبادرة ركزوا على ضرورة إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية والملفات الاجتماعية الحارقة.
أكد مختصون في الاقتصاد أنّ الحوار الوطني هذه المرة يجب أن يركز على التدهور الاقتصادي وارتفاع المديونية وتوقف نشاط بعض الشركات العمومية
وقد اقترح حزب التيار الديمقراطي مؤخرًا أن "يضم الحوار الوطني، حول الملفات الاقتصادية والاجتماعية، مختلف القوى السياسية ومؤسسات الدولة والهيئات الدستورية ومنظمات المجتمع المدني والخبراء". فقد أشار الأمين العام للتيار الديمقراطي غازي الشواشي، في تصريحات إعلامية، إلى "ضرورة البحث عن منوال جديد للتنمية وإدماج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد الرسمي، وسن قوانين جديدة للاستثمار، وفتح ملف الاقتصاد الريعي"، معتبرًا أنّ "منوال التنمية الحالي أثبت فشله التام في معالجة الأوضاع، كما توجد حاجة ملحة لمحاربة الاقتصاد الريعي القائم على احتكار بعض العائلات النافذة لمعظم القطاعات الاقتصادية".
وقد أكد أغلب قياديي اتحاد الشغل، في تصريحات متواترة، أنّ دعم المنظمات الوطنية الكبرى لهذه المبادرة سيكون من باب الشريك والمساهم إضافة إلى ضرورة تقديم مبادرة في وقتها وعدم التسرع مع التركيز على الخطوط العريضة والملفات الكبيرة التي يجب طرحها ومناقشتها خلال الحوار والتي يعمل على إعدادها فريق من الخبراء والمختصين، لتقدم مقترحات وتشخيصًا للوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
وقد أشار سامي الطاهري، الناطق الرسمي لاتحاد الشغل، في تصريح لوكالة تونس أفريقيا للأنباء (الوكالة الرسمية)، أنّ "المنظمة العمالية ستطلع الرأي العام الوطني على كافة محاور هذه المبادرة عقب تقديمها رسميًا إلى رئيس الجمهورية والتي تنبع أهميتها من تركيزها على الأولويات الوطنية بما يؤسس لتبديد حيرة المواطنين على مستقبل وحاضر بلادهم بمنأى عن التجاذبات"، وفق تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة النظام السياسي أم أزمة القوى الديمقراطيّة؟
حوار دون مختصين في الاقتصاد لن يؤدي إلى نتيجة..
بعض المختصين في الاقتصاد أكدوا أنّ الحوار الوطني هذه المرة يجب أن يركز على التدهور الاقتصادي وارتفاع المديونية وتوقف نشاط بعض الشركات العمومية، إذ يشير الخبير في المجال والوزير السابق محسن حسن لـ"الترا تونس" أنّ "مشاركة أحزاب سياسية فقط لمعالجة المشاكل الاقتصادية لن يؤدي إلى النتيجة المرجوة"، مضيفًا أنّ "ما هو مطلوب هو مجموعة خبراء واقتصاديين وأناس لديهم كفاءة إدارية لاقتراح الحلول، والتوافق حول برنامج للإنقاذ الاقتصادي ويمكن تشريك الأحزاب والمنظمات الوطنية لكن اقتصار الحوار على الأحزاب غير مجد".
الوزير السابق والمختص في الاقتصاد محسن حسن لـ"الترا تونس": المطلوب هو مجموعة خبراء واقتصاديين وأناس لديهم كفاءة إدارية لاقتراح الحلول والتوافق حول برنامج للإنقاذ الاقتصادي
يضيف حسن "لا أعتقد أنه يوجد اليوم حزب قادر على معالجة مشكل الدعم، أو حزب قادر على معالجة مسألة كتلة الأجور وارتفاعها، أو حزب قادر على معالجة مشكلة المؤسسات العمومية. ويجب الابتعاد بكل تلك الملفات اليوم عن المزايدات السياسية".
كما أشار الوزير السابق إلى أننا "في حاجة إلى حوار إنقاذ اقتصادي، تشارك فيه أساسًا الخبرات الاقتصادية وكفاءات الإدارة التونسية للتطرق إلى جملة من المحاور الكبرى أهمها المنوال الاقتصادي الذي يجب انتهاجه، وما يتبعه من سياسات قطاعية ومن سياسات منظومات إنتاجية ومن سياسات منظومات فلاحية. إلى جانب حوار حول التنمية الجهوية وحول التشغيل وسياسة التشغيل والتوازنات المالية الكبرى، وكيفية إيقاف النزيف والضغوطات المتواصلة على ميزان الدفوعات، وكيفية تقليصها وحول السياسة النقدية والمؤسسات العمومية التي تعاني الإفلاس، وتوقف نشاط العديد من الشركات العمومية، يعني هي مواضيع حارقة تتطلب معالجتها معالجة فنية مع الأخذ بعين الاعتبار مواقف الأحزاب والمنظمات الوطنية".
من جهته، أشار المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي لـ"الترا تونس" إلى أنّه "يجب أن نعترف ونؤكد أنّ الأزمة السياسية وخاصة الاقتصادية والاجتماعية قد أصبحت مخيمة بشكل كامل على الأجواء في تونس. وعندما تصبح الأزمة عامة وشاملة، فإنّ الحوار بين الأطراف الأساسية يصبح ضرورة قصوى لأنّه في غياب الحوار سنجد أنفسنا أمام تعدد الصراعات والاشتباكات بين الأطراف وسنصل إلى مستوى من الفوضى العارمة".
صلاح الدين الجورشي لـ"الترا تونس": عندما تصبح الأزمة عامة وشاملة، فإنّ الحوار يصبح ضرورة قصوى لأنّه في غياب الحوار سنجد أنفسنا أمام تعدد الصراعات وسنصل إلى مستوى من الفوضى العارمة
وأوضح الجورشي أنّ "قضية الحوار الوطني أصبحت دعوة ملحة تطرحها العديد من الأطراف. ولكن الحوار الوطني ولكي ينجح لابد له من شرطين، الشرط الأول هو جهة محترمة تقوم بالمبادرة وتدعو الأطراف إلى الالتفاف والجلوس حول الطاولة، لمناقشة القضايا المطروحة. وأرى بأنّ الجهة التي يمكن أن تقوم بهذا الأمر هي رئاسة الجمهورية فرئيس الدولة يتمتع بشعبية وبثقة المواطنين بشكل واسع رغم أنّ له العديد من المشاكل مع الطبقة السياسية".
وأضاف الجورشي، خلال حديثه لـ"الترا تونس": "والشرط الثاني هو أنه لابد من مراجعة أساليب الحوار في تونس لأننا سبق وأن شهدنا حوارات سابقة وخاصة التي بادر بها رئيس الجمهورية السابق الباجي قائد السبسي، والتي باءت بالفشل، لذا نحن في حاجة إلى أن تضع الأطراف قواعد أخرى للحوار وتلتزم بالحد الأدنى".
ويقول المحلل السياسي "لكي ينجح هذا الحوار لابد أيضًا من صراحة واسعة جدًا لا مناورات، ويجب أن لا يتم إخفاء بعض الحقائق لأنّ ذلك سيجعل النتيجة تنتكس إلى الخلف وتؤدي إلى مزيد تعقيد الأوضاع ولا بد من صراحة كبيرة مع اتحاد الشغل والنقابات والتزام من قبل رجال الأعمال وعلى الأحزاب السياسية أن تستوعب الدروس وتبتعد عن الادعاء ومحاولة الهيمنة وبالتالي ضمان الالتزام بأخلاقيات الحوار وفتح المجال لمشاركة العديد من الأطراف على غرار رجال الأعمال كعنصر أساسي والنقابات. ولكن لا يمكن جمع كل الأحزاب السياسية على طاولة الحوار، إنما لابد من مشاركة كل الأحزاب الممثلة في البرلمان وأيضًا توفير الحد الأدنى من وجود المثقفين وشخصيات لها وزنها في مستوى القدرة على التحليل واستنباط الحلول".
اقرأ/ي أيضًا: