02-مايو-2018

توفيت الحمروني بعد صراعها مع المرض أواخر ماي 2016 (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

في تونس، الحديث عن الدفاع عن حرية الصحافة وخوض المعارك الصادقة دفاعًا عن الصحفيين وحرية الإعلام غير ممكن أو قد لا يجوز دون ذكر نقيبة الصحفيين السابقة نجيبة الحمروني، التي اختطفها المرض وحال دون السماح لها بإكمال بناء ما حلمت دائمًا بتحقيقه. ولأن حرية التعبير اليوم تبدو مهددة أو تعيش على الأقل بوادر تراجع في ظلّ محاولات السلطة وبعض الأحزاب إحكام السيطرة عليها، نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تذكر نضالات امرأة لم تكن ككل النساء ولا تتكرّر إلا نادرًا في تاريخ تونس.

وقد فكرت كثيرًا قبل الشروع في الكتابة عنها ولكني قررت في النهاية أن أسلّط الضوء على الجانب الإنساني لامرأة تركت بصمتها في قطاع الصحافة في تونس بعيدًا عن سيرتها المهنية التي يمكن الاطلاع عليها ببحث صغير، علّنا نتعظ من تجربتها ونعي حجم التضحيات التي قدمتها كي نتذكر دائمًا أن الصحافة إلى جانب الشعب وأن دور الصحفيين هو الدفاع عن المهمشين لا عن السلطة التي لها من الإمكانيات والناطقين الرسميين ما يمكنها من إيصال رسائلها بالشكل الذي تراه مناسبًا.

اقرأ/ي أيضًا: مراسلون بلا حدود: تونس في المرتبة 97 عالميًا والأولى عربيًا في حرية الصحافة

ولدت نجيبة الحمروني في عائلة متواضعة بمنطقة البطان التابعة لولاية منوبة وتميّزت برصانتها وحكمتها. درست الحمروني الصحافة في معهد علوم الصحافة والإخبار لتتخرج سنة 1995. وكانت بحسب زميلتها في مقاعد الدراسة الإعلامية شادية خذير طالبة رصينة مقارنة بغيرها من الطلبة.

فور تخرّجها التحقت نجيبة الحمروني بجريدة الصباح وكان الصحفي محمد قلبي أول من احتضنها فعملت تحت تأطيره وشرعت في إعداد تحقيقات اجتماعية. عملت الحمروني في الصباح لمدة 4 أو 5 سنوات قبل أن يقع طردها تعسفيًا ليبدأ اهتمامها بالنشاط النقابي والاطلاع على هشاشة العمل الصحفي والتسلط وعدم احترام القانون واتفاقيات العمل، الأمر الذي جعلها تثور على هذا الحيف الذي عايشته وتبدأ نشاطها في جمعية الصحفيين آنذاك، وفق ما أكدته شادية خذير لـ"الترا تونس".

شادية خذير: لولا نجيبة الحمروني وما قامت به في الفترة الأولى بعد الثورة لكان وضع الصحافة الآن في تونس مختلفًا

بعد تجربة الصباح، خاضت نجيبة الحمروني تجربة العمل في مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث  "Cawtar" وتولت رئاسة التحرير في المركز. وإثر ذلك ترشحت الحمروني لعضوية المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين وكان حولها إجماع وتوافق باعتبارها امرأة متزنة وغير متصلّبة. كما امتلكت مجموعة من المبادئ ودافعت عن الإنسان المظلوم وعندما كانت تتكلّم كان صوتها يصدع بما تفكر به دون حسابات ضيقة.

اقرأ/ي أيضًا: نحيب الصباح الباكر.. وداعًا رفيقي خميّس

أما على الصعيد العائلي، كانت نجيبة الحمروني بمثابة شمس تنير أسرتها وكان الجميع يلجأ إليها لاستشارتها في مختلف المواضيع، رغم أن بقية أشقائها متعلمون ولكن نجيبة تميّزت عنهم بحكمتها ورصانتها وقدرتها المذهلة على المقارعة بالحجة والدليل والمنطق فكان الجميع يجتمع حولها.

وبالنسبة للكثيرين، تعدّ نجيبة الحمروني ظاهرة لا يمكن أن تتكرّر. وتقول شادية خذير في هذا الإطار إنه لولا نجيبة الحمروني وما قامت به خلال توليها رئاسة المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين التونسيين في الفترة الأولى بعد الثورة لكان وضع الصحافة والإعلام في تونس مختلفًا ولما وُجد هذا المناخ من الحريات ولوقع تراجع كبير على مستوى حرية التعبير.

وكانت نقيبة الصحفيين السابقة قد قادت الإضرابين الشهيرين في قطاع الصحافة والإعلام سنة 2013 وحاربت بشراسة عن المرسومين 115 و116 المدافعين عن المهنة وناضلت من أجل أن تحول دون التدخل في الخط التحريري لوسائل الإعلام. كما رفعت ورقة حمراء في وجه المال الفاسد الذي يريد السيطرة على المؤسسات الإعلامية. وكانت أول من قام ببناء أساس الحرية التي يعيشها قطاع الصحافة اليوم وهو أمر يجمع عليه جلّ الصحفيين والفاعلين في القطاع بمن فيهم أولئك الذين كانوا على خلاف معها أو خصومًا لها.

فالحمروني كانت إنسانة تؤمن أنها صديقة الجميع وصديقة أعدائها، ولعلّ هذا الأمر هو ما يميّزها بل وكان نقطة قوتها إذ أن خصومها في الجسم الصحفي والسياسي من أحزاب وشخصيات سياسية كانوا يحترمونها قبل وفاتها وبعدها. ولعلّ أبرز دليل على ذلك هو أنها في نقدها اللاذع لحركة النهضة مثلًا لم تتخط يومًا حدود الاحترام وأخلاقيات المهنة، بل أن نقدها كان دومًا مبنيًا على المنطق والبيّنة ومحترمًا لكرامة الإنسان وللذات البشرية، وفق ما يؤكده الصحفي صبري الزغيدي لـ"الترا تونس".

وعلى الرغم من أن نجيبة الحمروني كانت شديدة، متصلّبة في دفاعها عن حرية الإعلام وعن الصحفيين، حتى أنها قد تستحق عن جدارة صفة المرأة الفولاذية، إلا أنها كانت تمتلك حسًا عاليًا بالغير وقلبًا كبيرًا اتسع لجميع زملائها من الصحفيين.

فهي آمنت بكلّ جوارحها بالتضامن بين "الزملاء" في الجسم الصحفي" إلى درجة أنه كان لها مساهمة كبيرة وحاسمة في تسوية وضعية الصحفيين الذين كانوا عاملين بصحف مثلت لسان حال الحزب الحاكم في عهد بن علي بالرغم أن الكثيرين منهم انخرطوا في حملات شتمها والإساءة إليها من خلال مقالات أو حوارات خلال سنوات الجمر.

كما امتلكت الحمروني ميزة إنسانية فريدة تمثلت في مشاركتها لما كانت تمتلكه من مال، مهما كان المبلغ، واقتسامه مع الصحفيين الذين يعانون وضعيات صعبة من تشغيل هش أو "تحت الطاولة" أو من تعرّض للطرد. وكانت تعتقد بضرورة التضامن المادي والمعنوي بين الصحفيين خصوصًا أولئك الذين اضطروا إلى مغادرة وظائفهم بعد طردهم منها. وهذا ما يعكس ربما مدى تأثرها بالتجربة التي تعرّضت إليها عندما طُردت من جريدة الصباح بسبب مواقفها ومبادئها التي طالما دافعت عنها، وفق ما يفيد به صبري الزغيدي "الترا تونس".

نجيبة الحمروني، التي تمتعت بكلّ هذه الخصال الإنسانية، أبت إلا أن يكون صوتها عاليًا خلال توليها رئاسة نقابة الصحفيين دفاعًا عن قطاع منظم ودفاعها المستميت عن استقلالية هذا القطاع. وهو ما يفسّر وجود لمستها الواضحة في المرسومين 115 و116 اللذان تمّ وضعهما بعد الثورة لتنظيم قطاع الصحافة.

اقرأ/ي أيضًا: في سيمينار لمؤسسة التميمي: البغوري يقدم شهادته عن تاريخ نقابة الصحفيين

خصوم نجيبة الحمروني في الجسم الصحافي والسياسي احترموها قبل وفاتها وبعدها

كما آمنت وشرعت بتأسيس المجلس الوطني للصحافة المكتوبة والإلكترونية الذي من شأنه أن يؤسس للتعديل الذاتي في قطاع الصحافة المكتوبة والإلكترونية, ولكنها لم تستطع إنهاء هذا المشروع بعد أن انتهت ولايتها في المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين وأنهكها المرض الذي سرق من قطاع كامل ابنة الصحافة المكتوبة وامرأة فولاذية صلبة لم تتراجع رغم حملات التشويه والضغوطات المسلّطة عليها.

نجيبة الحمروني، التي رحلت صباح يوم كئيب من شهر ماي/ أيار 2016، اعتقدت كذلك بضرورة خلق تعددية إعلامية تساهم في خلق مواطن شغل لمئات من أبناء معهد علوم الصحافة والإخبار الذين يعانون البطالة والذين كانت صوتًا لا يهدأ في الدفاع عنهم وعن مصالحهم ومدافعة شرسة عن حقهم في عمل لائق، فضلًا عن إيمانها اللامتناهي أن الصحافة يجب أن تدافع عن الفقراء والمظلومين وتقف إلى جانب الشعب الذي يعاني.

لا يختلف اثنان أن نجيبة الحمروني كانت مثالًا للمرأة القوية والصلبة ولكنها في الآن نفسه إنسانة متواضعة قريبة من الجميع وبعيدة عن التعالي. كرّست حياتها للدفاع عن صحافة حرّة وصحفيين مستقلين يعملون في أفضل الظروف دون تدخل في إطار الحسابات والمصالح الضيقة.

إنها أيقونة تحتاج إلى التكريم والاعتراف بها كنموذج للمرأة التونسية التي تضحي بحياتها من أجل مبادئ تؤمن بها لتلتهمها مهنتها، مهنة المصاعب التي تأكل أبناءها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نقابة الصحفيين التونسيين: 183 اعتداء على الصحفيين في السنة الأخيرة

أصدقاء ريم البنا من تونس: غنت للحرية وساندت تحركات التونسيين