هو فنان يؤمن أن الفنّ الرابع فضاء للحياة وللحرية ولتشكيل معان جديدة، ويعتقد في قدرة المسرح على تغيير الواقع من خلال تعريته والنظر إلى تفاصيله دون خجل. إنّه عاشق للكلمات يغازلها فتردّ الغزل وتصير نصوصًا لا تخلو من عمق وشاعرية، مهووس بالركح يخطّ فوق خشبته مسيرة متفرّدة، هو المخرج والممثل والشاعر التونسي الفرنسي نبيل دغسان.
نبيل دغسان لـ"ألترا تونس": عروض الارتجال ترنو إلى تنظيم "مباراة" بين شباب من مختلف الجهات التونسية والسير نحو بطولة وطنية للارتجال المسرحي
المسرحي المسكون بهواجس الإنسانية، حاضر في الدورة الواحدة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية من خلال عرض مسرحية "سانغات إيبولا" وهو مخرجها وأحد ممثليها، وعروض الارتجال التي تشرف عليها رابطة الارتجال المسرحي العربي "Lipa" وهو مديرها الفني.
اقرأ/ي أيضًا: "تفّاح المحبّة" للشاعر أحمد زعبار.. لذاذة الحبّ وضجيج الاستعارات
عروض الارتجال
المسرحي الذي تمتد تجربته في الارتجال المسرحي في فرنسا على عقدين من الزمن، قدم إلى تونس بمشروع فني يشجّع الارتجال باللغة العربية ويخلق حركة وديناميكية في شوارع تونس.
في حديثه عن التجربة، يقول نبيل دغسان لـ"ألترا تونس"، إنّ عروض الارتجال ترنو إلى تنظيم "مباراة" بين شباب من مختلف الجهات التونسية والسير نحو بطولة وطنية للارتجال المسرحي.هذه العروض تدور يوميًا في شارع الحبيب بورقيبة مع الساعة الرابعة مساء ويستثير فيها أعضاء الرابطة الخيال في أذهان المشاركين ليقدّموا أفضل ما لديهم ويملؤوا الشارع طاقة وإبداعًا ويقرّبوا المسرح من التونسيين.
نبيل دغسان لـ"ألترا تونس": المسرح يجمع الناس ولا يفرقهم ومن خلال مشروع الارتجال سيلتقي أشخاص من شمال البلاد وجنوبها مرورًا بوسطها
والمسرح، حسب قول دغسان، يجمع الناس ولا يفرقهم ومن خلال مشروع الارتجال سيلتقي أشخاص من شمال البلاد وجنوبها مرورًا بوسطها وسيزهر خيالهم بما هو أصل للفن عموما والمسرح على وجه الخصوص. وعروض الارتجال التي تردّد صداها في شارع الحبيب بورقيبة، ليست سوى لبنة أولى لتأسيس تصوّر فني ذي مدى طويل بعيد عن المهرجانات التي لا تتجاوز كونها فرصة لدفع المولعين بالمسرح إلى الأمام.
مشروع طموحاته تعانق السماء، يحاكي طموحات نبيل دغسان الذي يريد أن يعبّد طريق الشباب المولعين بالتمثيل المسرحي إلى الركح، مع إسنادهم حتّى يطوروا مواهبهم في التأليف والإخراج والأداء.
ككل الفنون لمسرح الارتجال أيضًا قواعد، يشير محدّثنا إلى أنّ فريق الرابطة ترجمها من الفرنسية إلى العربية لتكون متاحة لكل من يريد أن يخوض هذه التجربة، مبيّنًا أنّ الأصل في الارتجال هو الأسلوب والروح والقدرة على توليد الكلمات أما القواعد فيمكن تعلّمها مع الوقت.
"سنغات إيبولا"
العمل المسرحي تونسي فرنسي، يضم ممثلين من تونس وفرنسا، بدأت فكرته تتشكّل في ذهن كاتب النصّ نبيل دغسان إبان التحركات المواطنية المساندة للمهاجرين في ستالينغراد (باريس) سنة سبعة عشر وألفين، ومن هناك تحررت القصة من قيود نشأتها وتجاوزت الراهن لتكون سيلًا من التساؤلات عن بناء الهوية وتدميرها وعن التعقيدات التي تسم علاقة الإنسان بالآخر، خاصة ذلك الوافد من مكان غير مكاننا، وفق قول دغسان.
ونص المسرحية يستمدّ جذوره من الأساطير والخرافات، فـ"سنغات" هي آلهة الضيافة تتجسّد في "مساعدة بمتجر " لبيع الملابس الرياضية، في انتظار "إيبولا" وهو رمز لموت يسكن كل الأمكنة، وعلى هامش الترقب تتفرع التفاصيل إلى الأحياء الفقيرة والاحتفاليات والطائرات دون طيار والأكياس البلاستيكية، والملابس الرياضية الموصولة بالانترنت، هي رؤية مخرج مسرحي للقضايا المتعلّقة بالهجرة.
الفضاء والضوء والصوت، ثلاثية تختزل الرؤية الإخراجية لنبيل دغسان الذي خلق على الركح سينوغرافيا حمالة معان
إلى جانب ممثلي المسرحية، شارك في العرض عشرة مراهقين تونسيين أهداهم نبيل دغسان فرصة الصعود على الركح في مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف وفي قاعة المونديال في عرضين متتاليين، وهي فكرة جالت بخاطره عندما شعر أن بعض المشاهد تتطلّب حركية أكثر.
هذه الفكرة وجدت طريقها إلى التنفيذ من خلال مشاركة التونسيين في العرض، وهي مشاركة تنبني على التطوّع ولا تخلو من صعوبات إذ لم يكن من السهل إيجاد ركح للتمرّن على المشاهد التي سيشاركون فيها مما اضطرهم الى اللجوء إلى حاشية مسبح في أحد النزل، وفق حديث نبيل دغسان.
اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "هوامش على شريط الذاكرة": ذكريات بلا أصل وامرأة في كل فصل
وعلى ركح قاعة المونديال، كان حضور ضيوف العرض ديناميكيًا ومفعمًا بالحياة والحركية ومتناغما مع أداء الممثلين الأصليين في العرض، وهو ما يعكس استيعابهم للتمارين الكوريغرافية التي أشرفت عليها جوزيفين تيلّوي "JOSÉPHINE TILLOY".
ليا ميسلي "LÉA MECILI"، وسيدي كامارا "SIDI CAMARA"، وجوزيفين تيلوي "JOSÉPHINE TILLOY"، وهادي راسي وجمال الشيخاوي وكابوتشين وايس "CAPUCINE WAISS" وجمال الشيخاوي، ممثلون من تونس ومن فرنسا والفرنسيون منهم من هو من تعود أصولهم إلى مالي والجزائر ولبنان.
واختيار ممثلين يرجعون إلى أصول افريقية وعربية، وفق رؤية دغسان، منسجم مع فكرة العرض الذي يلقي الضوء على قضايا الهجرة واللجوء والترحال وكل أشكال كسر الحدود الخانقة في سنة ثلاثة وخمسين وألفين حيث تدار الحدود بالذكاء الاصطناعي.
في العرض، الذي يعرّي القضايا المتعلّقة بمختلف أشكال الهجرة المعاصرة، لجأ فيه المخرج لغات فنية مختلفة من المسرح إلى "السلام" والرقص والموسيقى ليرسم ملامح رحلة بحث عن الأصول لا حدود لها. كل التعبيرات الفنية، كانت امتدادًا لحالة الضياع والشتات التي يعيشها الإنسان وهو يبحث عن أصله ويصارع الأمواج في رحلة يكسوها العبث والضياع ولا نهاية واضحة لها، مهاجرون زادهم الأمل في التغيير في مواجهة فئتين فئة تساعدهم وتلتحم بهمومهم وفئة لا تقوى على ذلك.
يعرّي العرض المسرحي القضايا المتعلّقة بمختلف أشكال الهجرة المعاصرة وقد لجأ فيه المخرج إلى لغات فنية مختلفة من المسرح إلى "السلام" والرقص والموسيقى
الفضاء والضوء والصوت، ثلاثية تختزل الرؤية الإخراجية لنبيل دغسان الذي خلق على الركح سينوغرافيا حمالة معان إذ صنع جدارًا من الأكياس البلاستيكية على الركح وغير بعيد عنه منصة أيضًا توشّحها اكياس بلاستيكية. الضوء، في العرض، ليس مجرّد متمم يسمح للمتفرج بتفحّص الحركات على خشبة المسرح وإنّما أيضا يحمله خارجها ويوجّه نظراته حينما تتلبّس الأزمنة والأمكنة ببعضها البعض، وحينها يخلق الضوء معاني معقّدة تحاكي مشاعر المهاجرين الباحثين عن أرض تحتويهم.
منه خلق غابريال سمريجليا "GABRIELE SMIRIGLIA" تعبيرات مختلفة في علاقة بلون الضوء الذي يتماهى مع حركات الممثلين وإيماءاتهم، وقوة الضوء التي تتولّد عن السرد المسرحي، إلى جانب الظلال وفسحات الظلام التي تعكس واقع الهجرة والمهاجرين.
أما الموسيقى التي أوجدها مارك رامون "MARC RAMON" فكانت واضحة ومجرّدة تحاكي تفاصيل العرض المسرحي، وهي تراوح بين لحظات مشعّة وأخرى مظلمة، وهي أيضًا توليفة لتعبيرات مختلفة صوت الإنسان متكلمًا ومغنيًا وصارخًا.
في العرض الفني السائد عن المألوف، تتسرب من بين الكلمات الفرنسية جمل بالعامية التونسية أدّاها الممثل جمال الشيخاوي، بأسلوب لافت تماهت فيه الكوميديا بالتراجيديا، وهي جمل ناقدة ساخرة من الواقع الذي آلت إليه أوضاع الإنسان في علاقة بالهجرة.
وبين الجمهور، تتعالى أصوات الممثلين في مشهد يحاكي منتدى لنقاش حرية التنقل وحقوق الانسان في ظل حدود يديرها الذكاء الاصطناعي، وهو مشهد جعل الجمهور يعرض عن الركح ويبحث عن الممثلين بينه ليبرز في كل مرو أحدهم من زاوية ما.
عناصر كثيرة جعلت من عرض "سنغات إيبولا" متفرّدًا، بدءًا بالنص الذي لا يخلو من شاعرية وعمق وصولًا إلى أداء الممثلين فالسينوغرافيا والإخراج، ولكنّ مدّة العرض التي ناهزت الساعتين قد تحتاج إلى مزيد المراجعة لتقليصها لسدّ المنافذ امام الملل الذي يمكن أن يجد طريقه إلى المتفرّج.
فلسفة حالمة..
وبعيدًا عن عروض الارتجال وعرض " سانغات إيبولا"، ينتهج نبيل دغسان في علاقته بالمسرح فلسفة حالمة ترنو إلى التغيير، إذ يقول في حديثه مع "ألترا تونس" إنّه سيواصل مقاومة تردّي واقع المسرح ومقارعة الصعوبات من خلال التشبث بمشروع فني يرسّخ المركزية.
المسرح في نظره حياة وأمل لذلك يحاول أن يكون موجودًا في كل الجهات من خلال مشروع الارتجال، وهو فرصة لاكتشاف ما تحويه الأيادي وحتى إن كانت ماديًا خاوية فإنها مليئة بالمشاعر والآمال والموارد. ولأن الفن كان ملاذه وأنقذه من مصائر كثيرة، فإنّه لم يشأ أن يكون أنانيًا ويحتفظ به لنفسه بل حاول في كل مرة تمريره لجيل آخر ليتمكن من إيجاد مكان له في الحياة يكون فيه هو نفسه، مكان يرتاح فيه ولا يؤذي فيه الآخر ولا الآخر يؤذيه، وفق قوله.
نبيل دغسان لـ"ألترا تونس": ليس من السهل أن تحافظ على نفس التوجّه وتثور على السائد من إيجاد إيصال صوت وصوت أناس بلا أصوات إلى أبعد مدى
عن كتاباته سواء في "سانغات إيبولا" أو "كاميكاز" أو "Prénom masque"، يشير إلى انّه لا يجيد الكتابة إلا عن أشياء تهز إنسانيته وهو في كل مرة ينطلق من احداث واقعية وذلك من منطلق إيمانه بأن المسرح الذي يعرّي الواقع وينير نقاطه المظلمة يمكنه أن يغيّر.
وليس من السهل أن تحافظ على نفس التوجّه وتثور على السائد من إيجاد إيصال صوت وصوت أناس بلا أصوات إلى أبعد مدى فالأمر يتطلّب تضحيات يومية تنسى وجعها ما إن ينطلق العرض على الركح وتتعانق الأضواء والموسيقى وأصوات الممثلين وحركاتهم وتستمع إلى انفاس الجمهور، هكذا تحدّث نبيل دغسان عن رؤيته للمسرح.
اقرأ/ي أيضًا:
افتتاح أيام قرطاج المسرحية.. قدر المهرجان بين المأسسة والعودة للثوابت الفكرية
مسرحية "النّفس" لدليلة المفتاحي: مساءلات بلا قرار حول السجن وحقوق نزيلاته