"سليم الرياحي يكذب كما يتنفّس".. هكذا علّق لزهر العكرمي القياديّ السابق بنداء تونس على غريمه السياسيّ المترشّح للانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها سليم الرياحي (الأحد 15 سبتمبر/ أيلول 2019)، كان ذلك في حوار مباشر بثّته إحدى القنوات التلفزيّة في سياق التعليق على تصريحات خطيرة أدلى بها الرياحي اتّهم فيها يوسف الشاهد رئيس الحكومة بالسعي إلى التأثير على القضاء.
هتف هاتف تونسيّ المصدر "اطمئن سليم لست وحدك"، فشُبهة الكذب لم يسلم منها أحد من إخوانك أو رفاقك الطامعين في بلوغ قصر قرطاج، فهذا منعوت بالتورية والإخفاء، وذاك مشهور بالمكر والنفاق، وتلك موصوفة بالتزييف والتلفيق، وهؤلاء معروفون بالاختلاق والافتراء.
هذا المشهد أعاد إلى الأذهان الصورة النمطيّة للسائس، وجعل البعض يستذكر حكاية حكيمٍ وقف على قبر، فقرأ نعيًا جاء فيه "هذا ضريح السياسيّ الصادق"، فسأل مستنكرًا كيف يدفنون رجلين في قبر واحد؟، فجرى هذا التعليق مجرى الأمثال في التأكيد على استحالة أن تجتمع في المرء صفتا السياسيّ والصادق في آن.
اقرأ/ي أيضًا: تفكّك العائلات السياسيّة: عداوة "الكار" من المهن إلى السياسة
اللافت أنّ جلّ الأنصار المتعصّبين لا يستنكرون كذب قادتهم، بل تراهم منخرطين في هذا المسلك
يبلغ الكذب ذروته كلّما اقتربت المناسبات الانتخابيّة، وتكون الأكاذيب في الغالب مشفوعة من قبل المطعونين في نزاهتهم وشرفهم ببيانات التكذيب والتفنيد والتوعّد باللجوء إلى القضاء ردًّا على التشويه والثلب والتزوير.
اللافت أنّ جلّ الأنصار المتعصّبين لا يستنكرون كذب قادتهم، بل تراهم منخرطين في هذا المسلك، يردّدون الأرقام المزوّرة، وينشرون الحكايات المختلَقة، ويذيعون التصريحات الملفقة، ويوظفون لخدمة مشروعهم الحزبيّ مراكزهم الإداريّة ومقاماتهم الاعتباريّة ومنصاتهم الإعلاميّة وحساباتهم الفيسبوكيّة، ويجد هؤلاء روافد ثقافيّة وفكريّة وحجاجيّة تبرّر سلوكهم كبعض الحكم والأقوال التي يتمّ إخراجها من سياقاتها فتغدو مبتذلة متهافتة من قبي "الكذب في المصالح جائز"، و"الغاية تبرّر الوسيلة".
وقد تجد نفسك إزاء مثقف يؤصّل الكذب تأصيلًا أعمق من قبيل الاستئناس بآراء بعض المفكرين والباحثين الذي يبيحون الكذب، كأن يحيلك أحدهم إلى رأي جون جي مرشيمر المفكّر الأمريكي وأستاذ العلوم السياسيّة في جامعة شيكاغو الذي أباح المغالطة والإيهام في كتابه المشهور " لماذا يكذب القادة"، غير أنّ المتمعّن في هذا الأثر العلميّ يجد أنّ صاحبه قد ركّز على ما سمّاه "الكذب الاستراتيجيّ" المعتمد خاصّة في مهاجمة العدوّ العسكريّ أو التصدّي له، فهل بلغت العداوة بين المترشحّين للرئاسة في تونس مرتبة المندفعين إلى الحرب؟
من حرب الأكاذيب إلى أكذوبة الحرب
في الدعاية الانتخابيّة لرئاسيّات 2019 عمد بعض المترشّحين والمساندين لهم إلى بثّ عدد من الأخبار التي تمّ تكذبيها، هذه الأخبار بدت متفاوتة من حيث الخطورة، ففيها الناعم وفيها المُلغم، نذكر منها على سبيل المثال ثلاثة:
الأوّل يتعلّق بادّعاء أنصار النهضة مساندة أمينة فاخت المطربة التونسيّة الشيخ عبد الفتاح مورو وعزمها على التصويت لفائدته، وهو ما نفته هذه المطربة منكرة الزجّ بها في الصراعات الحزبيّة.
الخبر الثاني يتمثّل في نشر أحد المواقع الإخباريّة ذات الصلة الوثيقة بيوسف الشاهد قائمة ضمّت عددًا من الكتاب والمثقفين التونسيين نسبت إليهم مساندتهم مرشّح حزب تحيا تونس للرئاسة، فسارع البعض منهم إلى التنصّل من تلك المؤازرة، منهم يوسف الصديق الكاتب والمفكّر ودُرة بوشوشة المنتجة السينمائيّة وصلاح الدين الحمادي رئيس اتّحاد الكتّاب التونسيين.
الوقائع تثبت ضربًا من التطبيع مع الأكاذيب الدعائيّة ممّا يجعل البعض يسعى إلى احتراف هذا المنحى بتطوير أساليبه والاستئناس بالتقنيات الحديثة كالمونتاج والميكساج والفوتوشوب
الجامع بين الخبرين الأوّل والثاني يتمثّل في لجوء القائمين على الدعاية الانتخابيّة للشاهد ومورو إلى ما وصفه يمكن وصفه بأساليب المناشدة النوفمبريّة التي كان ينتهجها بن علي، لكنّ القراءة الأعمق تحملنا إلى القول بأنّ المقصد هو السعي إلى الاستفادة من إشعاع الفنانين والمفكرين وعيًا من "مزوّري الإمضاءات والعرائض" أنّ هذه الفئة من المثقفين تحظى بالمحبة والاحترام لدى عامّة التونسيين وخاصّتهم، فهم في ظنهم يمثلون بالنسبة إلى جمهورهم قدوة يمكن احتذاؤها حتى في الاختيارات السياسيّة.
هذان الخبران الكاذبان رغم خطورتهما يظلّان ناعمين قياسًا بالخبر الثالث، فقد ادّعى عبد الكريم الزبيدي وزير الدفاع المستقيل أنّ بعض البرلمانيين خطّطوا للانقلاب على الشرعيّة، واستعدّوا لتنفيذ ذلك عند وفاة الباجي قائد السبسي الرئيس الراحل، وكشف الزبيدي في حوار تلفزي أنّه عزم على التّصدّي لهذه "المؤامرة" بالاعتماد على القوّة العسكريّة لمنع انعقاد مجلس النواب، هذا الخبر المثيرُ سَخر منه الكثير من المتابعين، وكذّبه العديد من السياسيين ومنهم الشاهد ومورو الحالمان بالرئاسة، واعتبر مرشّح حركة النهضة تصريح الزبيدي مندرجًا ضمن تجاذبات الحملة الانتخابيّة.
إن صحّ أنّ ما زعمه الزبيدي كان خاليًا من الصواب ودافعه انتخابيّ جاز اعتبار الدعاية الانتخابيّة قد خرجت من حرب الأكاذيب إلى أكذوبة الانقلاب والحرب. والغريب في كلّ هذا أنّ العاقل ينتظر بلهفة أن يتمّ فتح تحقيق عاجل، وأن يفضي هذا التحقيق إلى أحكام جزائيّة تكون مناسبة تطال المتّهم أو الكاذب، لكن الوقائع تثبت ضربًا من التطبيع مع الأكاذيب الدعائيّة ممّا يجعل البعض يسعى إلى احتراف هذا المنحى بتطوير أساليبه والاستئناس بالتقنيات الحديثة كالمونتاج والميكساج والفوتوشوب.
مورو في قبضة الفوتوشوب والمونتاج
من أكثر المرشّحين للرئاسة تعرّضا للتشويه والهرسلة الشيخ عبد الفتاح مورو، فقد خذله بعض من بني جلدته الحزبيّة، فجلدوه بتصريحاتهم وبُرودهم بُعيد تزكيته من مجلس الشورى، ومنهم القياديّ رفيق عبد السلام الذي أظهر في البداية رفضه ترشيح مورو للرئاسيّات، وهو ما دفع الإعلاميين إلى التشكيك في جديّة مراهنة النهضة على كرسي قرطاج.
هذه النيران الصديقة ذكّتها جملة من التهم أهمّها التذكير بلقاء مورو في تونس مع وجدي غنيم المتّهم بالتطرّف والتشدّد ومعاداة جلّ التونسيين، ولم يقف الأمر عند هذه المواقف ذات الوجاهة النقدية المقبولة إنما تعدّى إلى التلفيق، وقد توخّى مناوؤوه في هذا الضرب من الكذب تقنيتين، الأولى تمثّلت في نشر صورة بدا فيها الشيخ خطيبًا في مجلس يدعو إلى الخلافة، وقد تفطّن أنصار مورو إلى هذه الصورة المزيفة، فسارعوا بنشر النسخة الأصليّة الخالية من الإيحاءات الدعويّة.
اقرأ/ي أيضًا: هل تمثّل الانتخابات الرئاسيّة خطرًا على المسار الديمقراطي التونسي؟
الصورة المفبركة لعبد الفتاح مورو
الصورة الأصلية لعبد الفتاح مورو
أمّا التقنية الثانية فقد قامت على عرض مقطع فيديو مفبرك لمرشح النهضة أخذ من إحدى المحاضرات التي ألقاه الشيخ بالأردن حول الفكر الوسطي في الإسلام، في هذا الفيديو المزيف بدا مورو معاديًا للدولة المدنية ممّا جعله موضوع إحراج في برنامج بقناة التاسعة يوم الخميس 29 أوت/أغسطس 2019، وما إن سقطت تلك الكذبة سقوط صانعيها" بعد عرض الفيديو كاملاً حتى تتالت ردود الفعل المندّدة وعبارات الاعتذار والتبرّؤ من بوبكر بن عكاشة منشط البرنامج وسندة طاجين "الكرونيكيز" ورئيسة تحرير موقع "بزنس نيوز".
بعد تلك الحادثة ظلّت مغالطات السياسيين سارية، لكن موجة الأكاذيب الإعلاميّة تقلّصت بشكل لافت، ويمكن ردّ هذا التعافي والتزام الغالبيّة بالحدّ الأدنى من الموضوعيّة إلى عدّة اعتبارات، نذكر منها اثنين:
الأوّل يتّصل بتفطّن الجميع إلى أنّ حبال الكذب قصيرة، بل هي أقصر من الوقت الذي تستغرقه بضعُ نقرات تحريًّا في مشهد أو صورة أو خبر عبر أحد محرّكات البحث، ففيه يجد الراغب في التحقّق الحقيقة من مصادر متنوعة، فتتسنى له المقارنة والتفطّن إلى كلّ وجوه الافتراء والتزيييف. وفي هذا السياق يقول رفيق سكري في كتابه "دراسة في الرأي العام والإعلام والدعاية" أن "الكذب في العمل الدعائيّ لم يعد سهلًا في عالم اليوم المتّصل والمتفاعل والمترابط بشبكة معقدة من وسائل الاتّصال".
ما يمكن استخلاصه أنّ الكذب في الدعايات الانتخابيّة قد تقلّص بشكل لافت لاعتبارات كثيرة
الدافع الثاني إلى الإعراض عن الافتراء والاختلاق هو تفطّن خبراء الحملات الانتخابيّة على حدّ تعبير رفيق سكري إلى أنّ "الطرف الذي توجّه ضدّه الدعاية لا بدّ أن يكتشف الكذب المعادي ويستطيع عندئذ أن يقوم بدعاية معاكسة ضدّ الطرف الأوّل" يكون مفعولها مدوّيًا ومشكّكًا في كلّ ما يصدر عن خصومه.
ما يمكن استخلاصه أنّ الكذب في الدعايات الانتخابيّة قد تقلّص بشكل لافت لاعتبارات كثيرة ذكرنا بعضها، كما يمكن الإقرار بأنّ الدعاية القائمة على الافتراء ظلّت خلال انتخابات 2019 عفويّة انفعاليّة آيلة للسقوط السريع، إذ لم تتحوّل إلى فعل تقف وراءه مؤسّسة أو غرفة عمليّات على النحو الذي كان يجري في الأنظمة الديكتاتوريّة تلميعًا للنظام وتشويها للمعارضة حتّى خلنا تلك الأنظمة ماضية إلى إنشاء وزارة الكذب، ألم تكن محطّة الإذاعة البريطانيّة BBC تطلق على جوزيف غوبلر وزير الدعاية النازي لقب "وزير الأكاذيب" و"رجل الكذبة الكبرى".
حقّ لنا القول أخيرًا إنّ النزعة الثوريّة وحريّة الرأي والديمقراطيّة والتعدّديّة قد قطعت رأس النظام المستبدّ، وهي ماضية بثبات إلى قطع بعض جذوره التي كان يحتمي بها، ومنها الكذب والتضليل.
اقرأ/ي أيضًا: