قضبان حديدية، مروحة قديمة، هيكل دراجة، مقود سيارة، ونصف كرسي، وغيرها من الخردة الحديدية التي نراها في مكبات القمامة والتي تبدو لنا خردة بالية صدئة لا قيمة لها يراها غيرنا مادة باهظة الثمن والقيمة، يجمعونها في ورشاتهم الصغيرة كما هي دون تنظيفها من صدئها أو دون تلوينها حتى.
جميلة كما هي، يليّنونها لتشكيل منحوتاتهم ومجسماتهم الفنية. هم فنانو "الميتال" كما يسمون. وإن كان الفن التشكيلي والنحت على الحجر والرخام، أو صنع المنحوتات من الرمال والطين هو السائد، فإنّ فنّ النحت بالمعادن ليس بالدارج ولا المنتشر بكثرة، ومبدعوه يُعدّون على الأصابع عالميًا ومحليًا.
في مهمة يراها أحيانًا ممتعة، يبحث يامن العبدلي في أجزاء السيارات القديمة عن قطع من حديد لا قيمة لها ليصنع منها منحوتات فنية
ما نتخلّص منه نحن من خردة حديدية، تعتبر لديهم مادة أوّلية للخلق والإبداع وتشكيل مجسمات مفهومة وأخرى لا يفقه معناها سوى من شكّلها بأسلوب مبتكر. يامن العبدلي أحد أولئك المبدعين، لا يتوانى عن جمع أي شيء من المعادن القديمة مهما كان حجمها أو شكلها. لا يرسم في ذهنه شكل المنحوتات خلال جمع تلك البقايا والخردة فقط يجمع كل شيء قد يستحقه فيما بعد لتشكيل منحوتاته.
اقرأ/ي أيضًا: حسان المشايخي و"الڨوڨي".. عن موسيقى تونسية تحاكي غزل القوس للوتر
يعمل يامن أستاذًا للفنون في وكالة التكوين المهني، بدايته كانت مع الفنّ من خلال الرسم على اللوحات منذ كان تلميذًا، ثم اهتم فيما بعد بفن النحت بالمعادن. يقول يامن العبدلي لـ"ألترا تونس" إنّه يجمع أي قطعة خردة يجدها في الطريق، يضعها في سطح البيت، الذي خلق منه فضاءه للإبداع والنحت خلال أوقات فراغه، ثم يعمل عليها في ورشته تلك إلى ساعات متأخرة من الليل.
وفي مهمة يراها أحيانًا ممتعة، كما يقول لـ"الترا تونس"، يبحث يامن عن أجزاء السيارات وقطع من حديد لا قيمة لها، ليصنع منها منحوتات فنية في ورشته التي تزدحم بالخردة. ولا يحتاج سوى إلى آلات اللّحام المخصصة لهذا العمل الفنيّ، وبعض الأدوات لقص أو حك المواد الحديدة.
أولى منحوتاته كانت الموسيقي ثم المحارب، ليشارك بعدها في عدّة معارض في عدّة جهات. ويبيّن محدثنا أنّه تعلّم من الخردة من خلال محاولاته المتكررة في تشكيل القطع المعدنية البالية، ليشكّل من اللاشيء تحفًا فنية جميلة، بعضها يستحق بضع أيام ليكتمل والبعض الآخر أشهرًا حتى يبلغ الشكل الذي يرسمه في مخيّلته.
لا يخلو عمل يامن العبدلي من تحديات وأخطار فقد يتعرّض مرات إلى جروح أو حتى حروق
وتوجد مئات الأطنان من الخردة التي تشكل مصدر إزعاج للناس وتلوّث البيئة، يسعى البعض إلى رسكلتها وإعادة استعمالها فيما يرى البعض الآخر إمكانية "التخلّص" منها فنيًّا عبر نحتها إلى مجسمات فنية وديكور. ولم يكتف يامن بنحت مجسمات فنية فقط، بل حاول إيصال رسالة مفادها إمكانية استغلال الخردة وكل بقايا القطع الحديدية واستغلالها في الحياة اليومية، لاسيما وأنه لقي الدعم من بلدية القصرين التي طلبت منه تهيئة بعض الحدائق العمومية بالمنطقة ببعض المقاعد أو الحوايات التي يستعمل فيها فقط بعض الخردة.
لا يخلو عمل يامن العبدلي من تحديات وأخطار، فقد يتعرّض مرات إلى جروح أو حتى حروق بينما يقوم بقص أو لحام القطع الحديدية بعضها ببعض. وعلى الرغم من أنّه لا يلقى الدعم الكثير، تمسّك يامن بهذا النوع من الفنّ الذي أحبّه بمصاعبه.
اقرأ/ي أيضًا: فضاء الفنون بالكاف: فلسفة أخرى للفضاءات الثقافية
وتختلف طرق عمل فناني أو ناحتي "الميتال" بين من تتشكل في ذهنه فكرة جاهزة للتطبيق وبين من يعمد أولًا إلى أكوام المعادن مختلفة الأشكال ليستلهم منها ما يمكن صنعه منها. ويُعتبر حمادي بن نية من بين أشهر فناني النحت بالمعادن من حديد ونحاس وألمنيوم، حتى باتت تلك القطع الصلبة كأنها صلصال بين يديه يليّنها ويطوعها كما يريد. أطلق معرضًا في المرسى سنة 2016 بعنوان "الحديد يرقص" علمًا وأنّه استحضر شكل المرأة في منحوتاته كثيرًا. وقدّم الفنان خلال ذلك المعرض حوالي 40 منحوتة من الحديد، تختلف أشكالها وألوانها وأحجامها التي استلهمها كما يقول من الأغاني الغربية والشرقية.
لم يكن حمادي بن نية يتوقّع أن يصبح نحاتًا وكانت انطلاقته بجمع أي أشكال غريبة من الحديد إلى أنّ شكلّ أول منحوتة على شكل ذبابة
ولم يكن حمادي بن نية يتوقّع أن يصبح نحاتًا وأن يتخصص بالأساس في نحت الحديد. كانت انطلاقته بجمع أي أشكال غريبة من الحديد، إلى أنّ شكلّ أول منحوتة على شكل ذبابة. ومنذ ذلك الوقت تحمّس أكثر للفكرة في تجميع أكثر عدد من الخردة ليحوّلها إلى منحوتات جميلة قادرة على أن تصبح ديكورًا جميلًا.
وبات النحت على المعادن، رغم ندرته، نوعًا من أنواع الفن التشكيلي، الذي يتطلب الدقة والجهد. قد يعمد البعض إلى تجميل بعض المعادن وتشكيلها، والبعض الآخر يعمد إلى التعبير من خلال المنحوتات عن أشياء وقضايا أو تجسيد شخصية قد تكون تاريخية أو شخصية معبّرة، أو أشكال غريبة لكنلكلّ واحد منها معناها وقراءتها الخاصة بها.
وفيما تعلّق بالدعم ووضعية النحت في تونس يقول يامن العبدلي لـ"ألترا تونس" إنّه لم يتلق أي دعم من أي جهة لكنّه شارك في عدّة مهرجانات آخرها كان المهرجان الدولي لفنون النحت الذي التأم في القصرين، إلى جانب المشاركة في بعض المعارض المحلّية. فيما يشير حمادي بن نية إلى أنّ هذا الفن ما زال لا يلقى اهتمامًا كبيرًا رغم صعوبته لاسيما وأنّ مبدعوه يحتاجون إلى محلات وفضاءات كبيرة لتجميع الخردة والعمل على مجسماتهم التي قد يكون بعضها كبير الحجم، إلى جانب أنّه لا يقع تخصيص فضاءات عروض له ولا يهتم به كثيرًا على غرار الفنّ التشكيلي.
اقرأ/ي أيضًا: