25-مارس-2021

نحن أمام معارك ضارية ولكنّها حاسمة ستحدّد مستقبل الديمقراطيّة ومسارها

 

أشرنا في أكثر من مناسبة إلى ما عرفه المشهد السياسي في تونس من انحدار مع انتخابات 2019 ونتائجها السياسيّة قياسًا إلى ما سبقها من شروط ضَمِنت استمرارَ الانتقال إلى الديمقراطية رغم مظاهر التعثّر العديدة. إلاّ أنّ المشهد السياسي في الأسابيع الأخيرة تجاوز تناقضات الطبقة السياسية المعهودة إلى مفارقات صارخة بدأت تلوّن السياسة في تونس بألوان قاتمة لا يشبهها إلاّ لون اليأس المخيّم محليًّا رغم مظاهر الانفراج إقليميًّا. 

المشهد السياسي في الأسابيع الأخيرة في تونس تجاوز تناقضات الطبقة السياسية المعهودة إلى مفارقات صارخة بدأت تلوّن السياسة في البلد بألوان قاتمة

انحدار بوَهْم الصُعود

اعتُبرت انتخابات 2019 في نتائجها الأولى جولةً سياسيّة لفائدة القوى المحسوبة على الجديد. وهي من منظور المزاج الانتخابي العام انتصارٌ للثورة ولمسار بناء الديمقراطيّة. وقد استقرّ في تقاليد الانتقال إلى الديمقراطية أن المنازلة بين القديم والجديد تكون سجالاً وجولة بجولة إلى أن تستقرّ الديمقراطيّة أو ينكفئ المسار عند أزمة مستدامة هي في حكم المنزلة بين المنزلتين والوضع السياسي الهجين.

من هذه الزاوية، مثّل التجاذب السياسي في أعلى مؤسسات الدولة مفارقة لم تعرفها الحياة السياسية والإعلامية قبل 2019، رغم احتداد الأزمة الخطيرة التي عاشتها البلاد في 2013. وهي الأزمة التي ترنّح معها المشهد السياسي على مشارف الانزلاق إلى احتراب أهلي مدمّر. وكان من أخطر وجوه الأزمة انقسام نداء تونس الحزب الذي فاز بالرئاسات الثلاث في 2014. وتحوّل الخلاف داخله إلى صراع مجاميع تحركها الغنيمة ورغبة التنفّذ داخل مؤسسات الدولة وبأدواتها.

ومع ذلك أمكن احتواء هذا الصراع الذي أفنى النداء. ولم تجرؤ الجهات المناهضة للمسار الديمقراطي على المساس بالمنظومة السياسيّة الديمقراطيّة التي بنتها الثورة. وأدركت هذه الجهات المنحدرة من ثقافة الاستبداد أنّها في "اختبار ديمقراطي". وأدركت أكثر أنّها بمنطق انتخابات 2014 صارت تمثّل الحكم ولكنّها من منظور المشروع الوطني تبقى معارضة حتى وهي في الحكم إلى أن تُسلِّم بمبادئ المشروع الوطني الكبرى وفي مقدّمتها الديمقراطيّة والاختيار الشعبي الحر سبيلاً إلى التداول السلمي على المسؤوليّة.

كانت بوادر الانحدار واضحة مع انتخابات 2019 رغم ما مثّلته في اتجاهها العام من مزاج انتخابي يميل إلى ما اصطلح عليه بـ"الصفّ الثوري".

لم تتوقّف علامات الانحدار عند انتفاء ما قام من إجماع على فكرة الدولة، ومؤسسة أمنيّة وعسكريّة خارج الرهان السياسي، والتقاء في الوسط بين معتدلي القديم والجديد. فالتجاذب هزّ بقوّة مؤسسات الدولة الأولى رئاسة الجمهوريّة. وكانت خطب رئيس الجمهورية، في مرحلة أولى، تحرّشًا واضحًا بالمؤسستين الأمنيّة والعسكريّة ومحاولة استدراجهما المتكرّرة إلى مواجهات الجهات الحزبيّة والفاعلين في سطح المشهد السياسي وعمقه، وتخلّيهما عن مهمّتها الأساسية المتمثّلة في حماية أمن البلاد والمؤسسات والمعادلة السياسيّة التي تفرزها الانتخابات الحرّة.

توجّه رئاسة الجمهورية المناهض للديمقراطيّة ومسارها صار له، مع التحوّلات السياسيّة، وبعد سقوط حكومة الفخفاخ، حزام برلماني ممثّل في الكتلة الديمقراطية

توجّه رئاسة الجمهوريّة المناهض للديمقراطيّة ومسارها صار له، مع التحوّلات السياسيّة، وبعد سقوط حكومة الفخفاخ، حزام برلماني ممثّل في الكتلة الديمقراطيّة. وكان التقاطع في قيمة النظافة وتمثيل الطهوريّة ومحاربة الفساد في مواجهة الأغلبيّة البرلمانيّة التي منحت الثقة لحكومة هشام المشيشي والمتهمة بالفساد من قبل الأطهار الأنقياء. وكان كلّ ذلك انعكاسًا لوضع غير طبيعي لا تتوضّح فيه ملامح الحكم والمعارضة بسبب الظروف التي نشأت فيها حكومة المشيشي. فقد انطلقت باعتبارها "حكومة الرئيس" عند تشكيلها وانتهت حكومة مستقلّة بحزام سياسي برلماني يوم منحها الثقة. 

اقرأ/ي أيضًا:  كيف تحوّلت "حكومة الرئيس" إلى حكومة تدعمها النهضة وقلب تونس؟

حكومة الرئيس في نظام شبه برلماني

لا يُعرف تحت أيّة دوافع صِيغَ مُقترح "حكومة الرئيس"، ولكنّ الذي لا شكّ فيه أنّه مقترح حركة الشعب. وقد كان حصولها على ما يقارب العشرين مقعداً في البرلمان إحدى مفاجآت الانتخابات في 2019. إذ لم يتجاوز المكوّن العروبي، حتّى قبل انقسامه إلى الشعب والتيار الشعبي، الثلاثة مقاعد منذ الانتخابات التأسيسيّة في 2011.

وتبدو صيغة "حكومة الرئيس" لأوّل وهلة مقترحًا سياسيًّا أُلقِي به في خضمّ تشكيل الحكومة الأولى، بعد انتخابات 2019. وقد اتّخذت ردّات الفعل على هذه الصيغة طابع التوجّس دون أن يتجاوز مدلولها عند منتقديها التنافس بين اللدودين الإسلاميين والعروبيين وهم يلتقون على تشكيل حكومة محسوبة على الصفّ الثوري.

ومع تراجع حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب عن الاتفاق المبرم مع حركة النهضة حول تشكيلة الحكومة برئاسة الحبيب الجملي وتبرير التراجع، يومًا قبل الإعلان عن تركيبة الحكومة، بموقف المجلس الوطني للتيار والشعب برفض المشاركة في الحكومة، تبيّن أنّ "حكومة الرئيس" كانت أكثر من مقترح. ذلك أنّ هذه الصيغة هي من ناحية رسالة إلى رئيس الجمهوريّة وما يمثّله من ثقل انتخابي يمكن الاستفادة منه سيّما وأنّه ليس للرئيس حزب يمثّل هذا الزخم الشعبي الذي انتصر لقيس سعيّد والصورة التي ظهر بها مقابل صورة منافسه نبيل القروي.

تبيّن أنّ "حكومة الرئيس" كانت أكثر من مجرد مقترح من حركة الشعب إذ كانت أشبه برسالة إلى رئيس الجمهورية وما يمثّله من ثقل انتخابي يمكن الاستفادة منه

وهي من ناحية أخرى، هي عنوان تقاطع بين حركة الشعب والرئيس في المتصوّر السياسي والموقف من طبيعة النظام السياسي القائم بنص الدستور. فسعيّد بالنسبة إلى حركة الشعب مثال عن "صورة الزعيم" التي لم تغادر فكر الحركة التقليدي المنحدر من ستينيات القرن الماضي. وهي بالنسبة إليه قوّة سياسيّة يمكن أن يراهن عليها في التقدّم نحو بديله الشكلاني وما يقوم في وجهه من عقبات في مقدّمتها حركة النهضة. وهو تقدير من قيس سعيّد ومحيطه تجاهها، وقد كشف عن نفسه سريعًا وموقف لا ينفصل في حقيقته عن الموقف من مسار الانتقال الديمقراطي برمّته.

ومن المفارقة أنّ صدى فكرة "حكومة الرئيس" ظهر في أوّل نقطة إعلاميّة لإلياس الفخفاخ بعد تلقّيه خطاب التكليف. وفيها شدّد على أنّ المشاركة في حكومته ستكون مقتصرة على الأحزاب البرلمانيّة التي صوّتت لقيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة. وهذا في حقيقته أوّل تنزيل لفكرة حكومة الرئيس وأوّل خروج عملي عن صريح الدستور.

فالحكومة في النظام السياسي الحالي مسؤولة أمام البرلمان ومنه تستمدّ شرعيّتها. وبقدر ما وجد توجّه الفخفاخ سكوتًا متواطئًا من قبل رئيس الجمهوريّة لم تكن هناك أصوات واضحة وقويّة توقف هذا الخرق الصارخ للدستور. ومع حكومة المشيشي أمكن لرئيس الجمهوريّة الذي استعاد العهدة بإعلان استقالة إلياس الفخفاخ المكذوبة أن يُعيّن نصف حكومة المشيشي. وهذا ما لا يسمح به الدستور. 

صدى فكرة "حكومة الرئيس" ظهر في أول نقطة إعلاميّة للفخفاخ حين شدد أن المشاركة في حكومته مقتصرة على الأحزاب التي صوّتت لسعيّد وهذا أول تنزيل لفكرة حكومة الرئيس وأوّل خروج عملي عن صريح الدستور

اقرأ/ي أيضًا: ليست "حكومة الرئيس"!

غرفة عمليات في أعلى مؤسسات الدولة

قد تسجّل الأربعة أشهر الأولى من سنة 2021 استثناء سياسيًّا في تونس. إذ لم تعرف البلاد في كلّ المراحل التي عرفتها على مدى ستّة عقود، رغم المنعرجات الحاسمة التي عرفتها الدولة والسلطة، هذا التجاذب الحاد العلني والملاسنات التي لا تكاد تتوقّف بين ممثّلي المؤسسات الأولى في الدولة.

وقد يكون في هذا شيء من التعميم الظالم، ذلك أنّ رئيس الجمهوريّة كان المبادر بالملاسنة والبادي بالردود المتوتّرة في خطاب لا يخرج عن المؤامرة والتخوين والإيهام بامتلاك الحقيقة وتمثيل الفضيلة. وهو خطاب مُنَمْذَج لم يعد للجمهور مُختلِف المشارب صبر على سماعه.

وكان لتداول مثل هذا الخطاب في وسائل الإعلام حتّى غدا موضوعها الوحيد ضرر فادح وشامل على المشهد السياسي المتوتّر أصلاً وعلى حال البلد المجهد من آثار الأزمة الماليّة الاقتصاديّة والصحيّة الشاملة. وهي أزمة تستدعي نسيقًا كاملاً بين مؤسسات الدولة التنفيذيّة والتشريعيّة.

ولكنّ أداء رئيس الجمهوريّة وإصراره على خرق الدستور باعتصار صلاحيات ليست له وإهمال صلاحيات جليلة منحه إيّاها الدستور كالدبلوماسيّة الاقتصاديّة والسياسة الخارجيّة والأمن القومي.

لم يكن هناك اشتغال مسبق على الملف الليبي. وبقيت بلادنا على هامش كلّ المراحل التي قطعها الفرقاء في ليبيا نحو الحل السياسي. ولم تكن هناك مرجعيّة واضحة في مقاربة السياسة الخارجيّة إلاّ من ترديد أسطوانة الحياد الإيجابي الفارغة والنأي بالبلد عن صراع المحاور في الجوار الليبي وحوض المتوسّط. والأصل أن تقارب سياستنا الخارجيّة بمرجعيّة الديمقراطيّة ومسارها. وعلى ضوئها تصاغ سياستنا الخارجيّة، فيكون انتصارنا للحلّ السياسي في الجوار الليبي محلّ إجماع، قبل الوصول إلى هذا الحل. وهو حلّ دولي يتّجه إلى إعادة ترتيب الجيوستراتيجي في حوض المتوسّط والساحل والصحراء. ويدفع إلى أن يجعل من تونس وليبيا قاعدة سياسيّة واقتصاديّة في مواجهة المارد الصيني والتحوّلات الكبرى المتوقّعة بعد كورونا.  

بروز التسريبات في الأيّام الأخيرة أشاع جوًّا مشوبًا بالسخط والاشمئزاز وعدم الثقة واليأس ممّن تمّ تفويضه لقيادة المرحلة

مثّل رئيس الجمهوريّة عنصر التوتّر الأساسي في مؤسسات الدولة الأولى. وتطوّر التوتّر إلى إرباك سياسي أصبح عمليّة تعطيل شامل بعد رفض رئيس الجمهوريّة التحوير الوزاري الأخير الذي أنهى "حكومة الرئيس". ومع ذلك يمكن القول إنّ الرأي العام طبّع مع هذا الأداء المتدهور في مستوى مؤسسات الدولة، غير أنّ بروز التسريبات في الأيّام الأخيرة أشاع جوًّا مشوبًا بالسخط والاشمئزاز وعدم الثقة واليأس ممّن تمّ تفويضه لقيادة المرحلة. وكان لهذه التسريبات التي تعلّقت باستهداف القضاء وشراء ذمم بعض النواب في إطار الإصرار على سحب الثقة من رئيس البرلمان، والتأثير في تركيبة المحكمة الدستوريّة.

اقرأ/ي أيضًا: فتح تحقيق في التسجيل المسرّب للنائب محمد عمار

وتوضّح الانقسام في أعلى مؤسسات الدولة. بل إنّ ما كان يُعتبر منها جهة مُحكّمة وممثّلة لكلّ التونسيين ظهرت من خلال التسريبات الأخيرة، وفي الموقف من عمليّة اقتحام مقرّ جمعية اتحاد العلماء المسلمين، والإصرار على تعطيل عمل البرلمان والدفع نحو تعليق أعماله أقربَ إلى غرفة عمليّات سريّة تدار فيها سياسات موازية تطمح إلى أن تغيّر من طبيعة المشهد بما يهدّد الديمقراطيّة ومسارها.

من خلال الإصرار على تعطيل عمل البرلمان والدفع نحو تعليق أعماله كان ذلك أقربَ إلى غرفة عمليّات سريّة تدار فيها سياسات موازية تطمح إلى أن تغيّر من طبيعة المشهد بما يهدّد الديمقراطيّة ومسارها

في ظلّ هذا التوتّر الشامل والانحدار المتواصل لم تتوقّف محاولات الحوار والسعي إلى توفير شروطه. وفي هذا السياق، تبرز أسماء الطبوبي (الأمين العام للاتحاد) وماجول (رئيس اتحاد الصناعة والتجارة) والغنوشي (رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة) باعتبارها، حسب بعض المصادر، نواة الحوار السياسي القادم بأفق حكومة وحدة وطنيّة لتجاوز الأزمة الخانقة والمماطلة التي تصل إلى حدّ التعطيل ويمثّلها رئيس الجمهورية وحزامه البرلماني (الكتلة الديمقراطية) والحزب الدستوري الحر.

ولعلّ أهمّ ما يمكن الخروج به من هذا المشهد أنّنا أمام معارك ضارية ولكنّها حاسمة ستحدّد مستقبل الديمقراطيّة ومسارها. ولئن تمكّنت القوى المناهضة للديمقراطية من أن تجعل من "الصراع ضدّ الديمقراطيّة" يطغى على "الصراع الديمقراطي" فإنّ صنفي الصراع يدوران تحت سقف الدستور وفي ظلّ المنظومة الديمقراطيّة التي بنتها الثورة.            

   

اقرأ/ي أيضًا:

عن مستقبل حكومة هشام المشيشي..

إرباك في أعلى مؤسسات الدولة في تونس