الذاكرة، علبة هلامية ندسّ فيها ذكرياتنا وحماقاتنا وخطايانا وتواريخنا وخيباتنا، ملاذنا أحيانًا وكلّ حنين نفتحها لنبحث بين تجاويفها عن ابتسامة عالقة في ذكرى بلا عنوان أو دمعة فرح تأبى أن يلفّها النسيان. ذكريات كثيرة لا عناوين لها أو ربّما كانت لها عناوين لكنها مرت من ثقوب الذاكرة، وكلّما سقط عنوان في تلك الهوة السحيقة التي تُسمّى النسيان لحقته الذكرى اليتيمة وشقتّ أخدودًا في الذاكرة، وبتراكم السنون تتولّد الأخاديد حتّى تغيّب عنّا فصولًا من الذكريات.
يحدث أن نهمل أصول الذكريات لنتشبث بالهوامش، تمامًا كما فعل ذلك الرجل المسنّ في مسرحية "هوامش على شريط الذاكرة"
في أحيان كثيرة تبتلع الذاكرة بعضًا منّا من ماضينا ومن كينونتنا، ولكن في أحيان أكثر نقبر ذكرياتنا بأيادينا نكتم أنفاسها ونقطع عليها كل السبل إلينا حتّى لا ينتابنا ذلك الروع ونحن نقف على باب الذاكرة، ويحدث أن نهمل أصول الذكريات لنتشبث بالهوامش، تمامًا كما فعل ذلك الرجل المسنّ في مسرحية "هوامش على شريط الذاكرة" للمخرج التونسي أنور الشعافي.
اقرأ/ي أيضًا: افتتاح أيام قرطاج المسرحية.. قدر المهرجان بين المأسسة والعودة للثوابت الفكرية
وفي المسرحية، التي عرضت في مسرح المبدعين الشبان بمدينة الثقافة ضمن قسم مسارات في أيام قرطاج المسرحية، يربّت الرجل الذي يؤدّي دوره المسرحي رضا بوقديدة على ذاكرته ولا يخرج منها إلا أحداثًا هامشية قد تبدو أحيانًا بلا معنى ولكنها في الأصل حمّالة معاني فكأنّ بوليّ الذاكرة يخاف من فتح باب الأصل فيها دفعة واحدة حتى لا تجتاحه ذكريات تؤذيه.
رجل مسن يلقي بمسيرته وذكرياته على كرسي متحرّك ويتطلع نحو مكتب غصّ بأشرطة فيديو يقلبها بين يديه المرتعشتين، ارتعاشة قد تكون عنوانًا للعناء العاطفي الذي يبذله ليرتب فوضى ذاكرته، ذاكرة مبعثرة يطمس فيها الهامش الأصل.
ذكريات بلا أصل..
فيما المسن يعانق ذاكرة أعياها النسيان، ينبعث صوته مسجّلًا باللغة الفرنسية قبل أن تتسرّب إليه الارتعاشة، وما إن يخفت صوته حتّى يضيء الركح من حوله، وتتجلّى أشرطة الفيديو أكثر وضوحًا وعن يمينه تختال آلة تسجيل قديمة لا تسأم الدوران تمامًا كشريط الذاكرة.
جولة في ذاكرة ترك عليها الزمن أثره وتمرّدت عليها الذكريات وفي لحظة فرض النظام أفلتت الأصل منها وما عادت تؤوي غير الهامش، يغازله الرجل أنّى أغواه الكلام وينسج من تفاصيله حكايات صب فيها جام اهتمامه.
جدلية الهامش والأصل في علاقة بالذاكرة، تتجلّى في كل تفاصيل العرض المسرحي الذي بدا منذ المشهد الأول مارقًا عن السائد والمألوف فكرة وتصوّرًا فنيًا، إذ يقلب تواتر الأعوام الأدوار وتصبح الهوامش أصولًا وتصبح الأصول هوامشًا وتتشتت الأحداث وتغرق الذاكرة في الضياع.
الإغراق في الحديث عن الهامش ليس اعتباطيًا فربّما المراد من ورائه أن الإمعان في الأصل متعب وأن في الهامش ملاذ
اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "النّفس" لدليلة المفتاحي: مساءلات بلا قرار حول السجن وحقوق نزيلاته
تفاصيل هامشية جدًّا يستحضرها، وهو يواجه ذكرى سقوط جدار برلين وذكرى أحداث سبتمبر/ أيلول، أحداث غيّرت ملامح العالم وغيّر ملامحها بالحديث عنها بنبرة تتفيه وتسطيح وكأنّها أحداث عابرة بلا أثر، وصورة الشهيد شكري بلعيد أيضًا لم تستثر الأصل في ذاكرته.
الإغراق في الحديث عن الهامش ليس اعتباطيًا، فربّما المراد من ورائه أن الإمعان في الأصل متعب وأن في الهامش ملاذ، كأن العرض يقول "لنا في الهامش متنفّس حتّى لنا يقتلنا الأصل"، فالأصل لا يخلو من وجع فأحداث سبتمبر لم تخلّف سوى الدماء، ودماء الشهيد شكري بلعيد مازالت تترقب الحقيقة.
والأصل في المسرحية، يسكن في أشرطة الفيديو التي ترتعد يدي الرجل المسن كلّما أمسكها، إلى أن نثرها على الأرض وبعثرها وكأنما يسدّ الطريق عليها لكي لا يستلل إليه عبر ثقوب الذاكرة، وكأنه ينتشي بحالة العبث والضياع التي تحاوطه من كل الاتجاهات.
امرأة في كل فصل..
الرجل الذي بلغ به الكبر عتيًا، يواجه سقمًا بألوان عدّة وذاكرة عليلة وحاضرًا لا يشبهه، فهو يرتب الأشرطة ليبعثرها، ويحن إلى الكرسي المتحرّك حينًا ويهجره حينًا آخر، ولا يقوى على الوقوف ولكنّه يعتلي الطاولة ويهز خصره وكتفيه ويراقص مساعدته، وينهر الخادمة ويغنم شهيات القبل من من امرأة ما، وهو في كل مرّة يعلن العبث دينه. رجل واحد وامرأة مختلفة باختلاف السياقات، مصوّرة، وخادمة، وممرضة، وعشيقة فممثلة، امرأة بأكثر من اسم وهيئة وعمل أدّت دورها المسرحية منى التلمودي.
وبعيدًا عن النسق الخطي، تتوالى الأحداث مبعثرة في تناغم تام مع حالة الرجل المسن، الذي كلّما حاول أن يمسك بتلابيب ذاكرته وجد نفسه على شفا الهامش، وما أشبه محاولاته بكرة تميم في مونديال الأرجنتين، وما يراه الآخر ملحمة يبدو غير جدير باهتمامه.
في كل فصل من الهوامش، تطلّ امرأة بذات الأصل لكنّ هوامشها متغيّرة، ومع كل امرأة تتجلّى شخصية المسن أكثر فأكثر، وإن كان يبدو في الظاهر مغرقًا في التفاهة والسطحية إلا أنّ الأمر لا يعدو أن يكون سلاحًا لمواجهة واقع يرفضه ولا يبوح بذلك.
والمصوّرة ليست إلا امتدادًا لذاكرته التي يعاين بها الأحداث ويصورها ويحفظها في خانات لا يعرف قرارها إلا هو، والممرضة ليست سوى انعكاسًا لحقيقة انهيار جسده أمام المرض، والخادمة والعشيقة تمثلات عن وحدته وأما الممثلة فلحضورها إقرار بأن الواقع مختلف.
في المسرحية، يسير المنحى الدرامي على وقع الهوامش المبعثرة التي لا يفلح الرجل المسن في تجميعها فيستأنس بامرأة متغيّرة لتضع أصابعها عللًا مكامن الفوضى، دون أن يكون لأحدهما دورًا مفصليًا على حساب الآخر، وهو ما يجعل من العمل متفرّدًا خاصة وأنّ الزمن المسرحي شهد لحظات تماهى فيها المسرح بالسينما.
السينما زينة المسرح
على الركح، لم يركن المخرج أنور الشعافي إلى متممات تقليدية، ونهل من الفن البصري من خلال عرض فيديو يتداخل مع المشاهد الحية، وإذ كان الممثلان على الركح رأيت أخيلتهما على الشاشة وإن كان خلف الشاشة امتد ظليهما على الركح.
وقبل ميلاد هامش جديد على شريط الذاكرة، تزين فيديوهات مسجّلة الركح وتوثّق للذاكرة صوتًا وصورة، قبل أن تتعالى أصوات الذكريات على لسان رضا بوقديدة ومنى التلمودي من جديد، وهما الثنائي الذي أفلح في تجسيد علة الذاكرة الجماعية والفردية بأسلوب لم يخل من الضحك.
بتواتر مشاهد المسرحية "هوامش على شريط الذاكرة" تتجلّى حقيقة الذكريات المبعثرة واضحة فالرجل يسجّل ما تدرّه عليه ذاكرته في ذكرى عيد ميلاده
وبتواتر مشاهد المسرحية، تتجلّى حقيقة الذكريات المبعثرة واضحة فالرجل يسجّل ما تدرّه عليه ذاكرته في ذكرى عيدي ميلاده، ذلك الموعد المتجدّد الذي يهرب فيه من حاضره إلى ماضيه عبر سبيل لا يتعثر فيه بالأصل، لتكون "هوامش على شريط الذاكرة" سفر بين الأزمنة عبر ذاكرة انتقائية.
وعلى مشارف النهاية، تكفر الذاكرة بذكريات الهامش والأصل، ويهرب من المسن من الركح تاركًا وراءه أشرطة الفيديو، وفيما يغالب سنه ويواصل الهروب إلى الأمام إلى حضن ساحة المسارح بمدينة الثقافة، تحتل المصوّرة الكرسي المتحرّك وتبث فيديو مباشرًا على الانترنت تحدّث فيه معجبيها عن العرض، واللافت أنها أغفلت الأصل وتعلّقت بالتفاصيل الهامشية، ليختلف أسلوب التسجيل وتلتقي الذاكرة عند الاحتفاء بالهامش.
اقرأ/ي أيضًا:
مليّنو المعادن.. مبدعون حوّلوا الخردة إلى فن
حسان المشايخي و"الڨوڨي".. عن موسيقى تونسية تحاكي غزل القوس للوتر