يقع مسجد السيدة شرقي مدينة المنستير، في واجهته الجوفيّة مدخل يفضي إلى قاعة ذات بلاطتين عريضتين وثلاث بلاطات طولية. ويتضمن المحراب بزخارفه النباتيّة والهندسيّة نموذجًا لمحاريب الفترة الزيرية بالإضافة إلى أن نقيشة المحراب المكتوبة بالخطّ الكوفي المُورّق تكشف تاريخ هذا المعلم.
أما السيدة التي ينسب إليها المسجد فهي السيدة بنت المنصور بن يوسف الصنهاجي المكنّاة أم مَلاّل، ووُلدت في القرن الرابع الهجري بقصر المنصوريّة الذي شيده أبوها بِصَبْرة على بعد مِيل من القيروان في القرن الرابع الهجري. وتربت مع أخيها باديس وبعد وفاته تمت مبايعة ابنه المعز وكان يبلغ من العمر 8 سنوات تحت وصاية عمته أم ملّال، التي تولت الحكم لتكون بذلك أول امرأة مسلمة حكمت إفريقيّة.
السيدة بنت المنصور بن يوسف الصنهاجي المكنّاة أم مَلاّل، أول امرأة مسلمة حكمت إفريقيّة.. يُنسب إليها مسجد السيدة بالمنستير
وقد عرفت أم مَلاّل بذكائها وحكمتها وأوصت قبل وفاتها بأن تدفن في المنستير "ومن المرجح أن يكون ضريحها في هذا المسجد" بحسب ما أكده الباحث فتحي البحري لـ"الترا تونس"، مضيفًا أن هناك شواهد تعود إلى سنة 1922 تؤكد أن هذا المعلم كان مقامًا ومزارًا وقد ارتبط ذلك بالعهد الفاطمي، فحذو كل قبر يوجد محراب صغير.
ويؤكد الباحث فتحي البحري لـ"الترا تونس" أن الدراسات في التاريخ الإسلامي كانت تعتقد أن المقامات ظهرت مع الفاطميين في مصر، لكن شواهد جديدة تؤكد أن المقامات ظهرت قبل ذلك في إفريقية أي قبل انتقال الفاطميين إلى مصر.
اقرأ/ي أيضًا: فوربس: تونس ضمن 7 دول قادرة على أن تصبح وجهات سياحية رئيسية
وتكمن أهمية المعلم على مستويين، أولًا الهندسية والمعمارية، فهو يجسد طريقة البناء والتزويق للفترة الزيرية الصنهاجية ويعتبر المعلم أهم ما تم اكتشافه لدراسة الفترة الزيرية، ثم نسبته ثانيًا، إذ ينسب لامرأة هي أم ملّال عمة المعز ابن باديس وهي التي حكمت حتى بلغ ابن أخيها سن الرشد.
ومازال البحث متواصلًا للعثور على حجج أثرية تربط بين ما كتب في المصادر وبين ما قد يتم العثور عليه من شواهد أثرية لتأكيد نسبته.
الباحث فتحي البحري لـ"الترا تونس": وقع طمس الآثار والمعالم الأثرية التي تعود إلى الفترة الفاطمية، وإتلافها عمدًا على اعتبار أنها ارتبطت بالمذهب الشيعي
وكشف فتحي البحري أن الجامع الكبير في المنستير هو أيضًا يعود للسيدة أم ملّال والشواهد تثبت ذلك من النقيشة الموجودة في المسجد وطريقة البناء، لكن هناك حيف تاريخي ضد هذه المرأة، مؤكدًا أن هناك من يتلاعب بالتاريخ ويكتبه تقربًا من السياسيين.
وأضاف محدثنا أنه تم طمس تاريخ الفاطميين والحقبة الزيرية عمدًا، وكان هناك من سعى في فترة الحبيب بورقيبة إلى القيام بذلك في المنستير ويتأسف إلى أن هناك من حاول حصر مدينة المنستير في شخص واحد على أهميته..
اقرأ/ي أيضًا: آثار تونس.. معالم تختزل التاريخ وتعاني التهميش
كما بين الباحث فتحي البحري أن التوجه كان نحو طمس هذه الآثار والمعالم الأثرية التي تعود إلى الفترة الفاطمية، وإتلافها عمدًا على اعتبار أنها ارتبطت بالمذهب الشيعي في عدد من المدن التونسية.
هذا المسجد الصامد على مدى قرون، يروي تاريخ الفترة الزيرية بشواهد وعلامات، لكنه أيضًا محاط بمدينة كاملة تم اكتشافها عام 1962 ومازالت آثار التنقيب فيها متواصلة إلى حدود اليوم، "تنشط فترة وتتعطل في فترات أخرى رغم أنها أهم اكتشاف أثري في مدينة المنستير، فكل ما كتب عن هذه المدينة كان تاريخًا مرويًا، ولأول مرة يتم العثور على شواهد ستغير في تاريخ مدينة بأكملها" هكذا يقول الباحث والمشرف على عملية التنقيب فتحي البحري.
الباحث فتحي البحري لـ"الترا تونس": كل ما كتب عن مدينة المنستير كان تاريخًا مرويًا، ولأول مرة يتم العثور على شواهد ستغير في تاريخ مدينة بأكملها
ويؤكد محدثنا على أن هذا المعلم الذي أطلق عليه اسم قصر السيدة كان حيًا سكنيًا، وبعد الإطاحة به من خلال برنامج التهيئة العمرانية، تم اكتشاف هذه الآثار المهمة التي بني على جزء منها نزل تحول من ملك للقطاع العام إلى الخواص.
ويُعرف هذا المعلم لدى العوام بحسب الباحث فتحي البحري على أنه رباط السيدة، لكنه في الحقيقة هو قصر السيدة وقد عمل البحري منذ 2017 وعلى مدى أربع سنوات على "تقديم الجديد بما يقلب تاريخ مدينة المنستير من خلال الحفريات التي قام بها".
وقد توقف العمل على هذا المعلم لعدم توفر الاعتمادات المالية، أما مسجد السيدة فهو مهدد نظرًا لتأثره بالزلزال الذي ضرب المنستير ولا بدّ من ترميمه، وأكد الباحث فتحي البحري أن الاعتمادات تم توفيرها هذه السنة ومن المنتظر أن يتم الترميم قريبًا.
اقرأ/ي أيضًا:
روضة آل بورقيبة في المنستير.. هكذا شيد الزعيم مرقده الأخير (الجزء الأول)