كانت شمس الأصيل تلملم ما تبقى من حُبيْبات التّبر المتناثر على ذرى جبل الرخام الوردي بقرية "شمتو" البربريّة سنة 151 قبل الميلاد عندما وصل للتوّ موكب الملك النوميدي المهيب "ماسينيسا" قادمًا من عاصمة المملكة "سيرتا" (قسنطينة) ممتطيًا جواده البربري الأبنوسي بقوامه النحيف وبعينيه السوداوين الواسعتين، والمطهّم بالجلود وأجود المنسوجات اليدوية الفاخرة، متوقفًا وسط الساحة الدائرية للبلدة المبلّطة بأحجار الغرانيت الداكنة والمحاطة بأحواض النعناع البرّي الذي تنبعث منه روائح جذلى تحملها نسائم المساء لشرفات المنازل، فتروق الجلسات بعد عناء يوم طويل بالمقاطع الصخرية.
"شمتو" تبعد كيلومترين عن مدينة "وادي مليز" المعتمدية التابعة لولاية جندوبة والمتاخمة للحدود مع الجزائر، وهي المدينة التي رفعها ملوك "نوميديا" على كفّ صخري
وقف "ماسينيسا" شامخًا، شاردًا، تتقاذفه ذكريات بعيدة عندما كان يقيم هنا في ذاك المنزل المسيّج بأشجار الزيتون والذي تطل من باحته دالية عذبة المذاق استقدم شتلتها من أجنّة قرطاج والده الملك "غايا" وهو أحد سادة قبائل "الماسيسيل" التي تقود نوميديا الغربية قبل الارتحال إلى "بلاريجيا" المزدهرة الوارفة المرفّهة والانشغال بالسياسة والتحالفات مع قرطاج ثم مع روما ومن ثمة توحيد النوميديتين وتأسيس "نوميديا الكبرى" بعد الحرب البونيقية الثانية (218 ـ 202 قبل الميلاد) والتي انهزم فيها "سيفاكس" زعيم قبائل "الماسيل" وملك نوميديا الشرقية.
مرّ الشريط كوميض برق أمام أعين "ماسينيسا" قبل أن يقطع عليه أحد مرافقيه تلك اللحظة ويعلمه أن قادة المقاطع الحجرية بالجبال الصخرية التي تطوق قرية "شمتو" قد وصلوا.
ترجّل "ماسينيسا" من على صهوة جواده ورفع يده محييًا الرجال الأشداء الذين يشرفون على مقاطع الرخام النادر بجوف الجبال الحجرية. اقترب منه مساعده الأول وأعلمه أن دار الاجتماعات جاهزة لكنه خيّر الوقوف في ساحة الذكريات، وبعد أن مازحهم قليلًا كما جرت العادة، أعلمهم أن المملكة تلقت طلبية رخام وردي وآخر من النوع الأصفر النادر من أحد نبلاء روما لتجميل قصوره مضيفًا أن الطلبية ستحرج الإمبراطور نفسه لأن أغلب القصور الإمبراطورية قدّت من الرخام الأبيض المستخرج من أثينا وسيسيليا. "لكن وكي نظل أقوياء فإننا بحاجة إلى الذهب، وبالتالي لا خيار أمامنا إلا أن نستخرج الأحجار من جوف الجبل وأن نرسلها في موعدها وإني أعول عليكم في أن تنجزوا مهمتكم على أكمل وجه.." وبعد أن غادر الرجال محمّلين بهدايا ملكهم، تاه "ماسينيسا" في الذكريات من جديد وتقدم إلى البيت الملكي ليقضي ليلته تلك قبل المغادرة صباحًا إلى "أوتيكا" لعقد صفقات مع القرطاجنيين من أجل مرور الرخام إلى روما عبر المتوسط.
اقرأ/ي أيضًا: أقدم القرى المأهولة في تونس.. "اللّاس" زهرة لا تبصر جمالها
هذا المشهد المتخيّل من تاريخ مدينة مازالت ذكراها صامدة إلى اليوم ومازال لمعان رخامها مبهرًا إلى اليوم في قصور روما الفاخرة.
هكذا كانت "شمتو" محجة لملوك نوميديا: ميسيبا، غلوسا، ماستا نابال، هيمبسال الأول، عزربعل النوميدي، يوغرطة، غوادا النوميدي، يارباس، يوبا الأول..
إنها مرقد الأجداد والذكرى الأولى للحلم بانبعاث المملكة، يأتونها تبرّكًا وأيضًا مواصلة لصيانة كنزها الأبدي وهو استخراج الرخام بلونيه النادرين الوردي والأصفر، إنه مصدر من مصادر فخر "نوميديا" إلى جانب فلاحة الزيتون والحبوب والكروم.
"شمتو" تبعد كيلومترين عن مدينة "وادي مليز" المعتمدية التابعة لولاية جندوبة والمتاخمة للحدود مع الجزائر حيث الامتداد التاريخي لنوميديا الكبرى التي حدّها وادي ملوية بالمغرب الأقصى والتي كانت عاصمتها "قسنطينة" لعقود طويلة. وهي مدينة آسرة وفائقة الجمال، إنها المدينة التي رفعها ملوك "نوميديا" على كفّ صخري جميل وجعلوا لها جسورًا معلقة زادتها فتنة وبهاءً.
"شمتو" في عصرها الذهبي كانت تتكلم اللغة الأمازيغية ولأهلها دراية واسعة باللاتينية والبونيقية، وكان هناك خطّ تجاري نهريّ مفتوح عبر وادي مجردة يحمل الرخام من "شمتو" إلى قرطاج وأوتيكا
"شمتو" في عصرها الذهبي زمن المملكة المندثرة كانت تتكلم اللغة الأمازيغية وهي لغة الأجداد البربر في كامل شمال إفريقيا، وهو ما أوضحته المخطوطة الوحيدة والشهيرة "تيفاني" الخاصة بالأبجدية الأمازيغية والمعتمدة منذ القرن الثالث قبل الميلاد، كما تتكلم اللغة الرسمية للمملكة الناشئة وهي النوميدية، ولأهلها أيضًا دراية واسعة باللاتينية والبونيقية. وهذا التنوع في إتقان هذه اللغات مردّه الإقبال المتزايد على زيارة هذه الحاضرة النوميدية من قبل تجار الرخام الرومانيين والقرطاجنيين وعقد الصفقات وزيارات وفود الملوك. لقد كانت الحركة لا تهدأ بهذا المكان وكان هناك خطّ تجاري نهريّ مفتوح عبر وادي مجردة يحمل الرخام من "شمتو" إلى قرطاج وأوتيكا. والشواهد على ذلك مازالت دالّة إلى اليوم.
كيف خسرت "شمتو" مكانتها التاريخية؟ وكيف اندثرت معالمها؟ سؤال يحق لنا أن نسأله ونحن نقف في قلب الحاضرة نتأمل أعشاش الحمام في الجنبات الصخرية ونستمع إلى أنين الحصى تحت الأقدام.
لقد عصفت بـ"شمتو" الانقسامات والتحالفات التي عرفتها القبائل الأمازيغية فيما بينها من جهة أولى (الماسيلي بالشرق والماسيسيلي بالغرب)، ومع الغزاة الفينيقيين (القرطاجنيين) والرومان من جهة ثانية. فطيلة وجود المملكة النوميدية (202 ــ 40 قبل الميلاد) كانت "شمتو" كنز جبال الشمال ومقصد الساسة الباحثين عن الثروة، وعنصرًا من عناصر قوتها.
لكن ما حدث أن الملك النوميدي الشهير "يوغرطة" حاول فك الارتباط الذي وقّعه جدّه "ماسينيسا" مع روما والذي بفضله تم التغلب على قرطاج وهزيمة "حنبعل" في واقعة "زاما" الشهيرة سنة (202 قبل الميلاد)، والذّهاب إلى إلغاء التحالف ودعوة القبائل إلى الاستقلال التام عن روما، وقام بتوسعات لصالح المملكة إلى حدود موريتانيا اليوم.. فأعلن الحرب بين (118 و105 قبل الميلاد) لكنه مني بهزيمة مدوية عصفت بأحلامه الشجاعة وضعفت المملكة تمامًا بعد أن حاصرتها الإمبراطورية الرومانية، وتشتت تمامًا مع "أرابيو" وهو آخر ملوك نوميديا الكبرى، وتحوّل ثقل الحكم السياسي النوميدي من "سيرتا" إلى "مملكة موريطنية" بأقصى الغرب.. وتهاوى كل شيء إلى حضن التاريخ.
اقرأ/ي أيضًا: "قصر لمسة".. مطر ثقافي ناعم في خريف النّسيان
وأنت تتجول في حدائق النسيان بحاضرة "شمتو" الأمازيغية النوميدية، وتقترب أكثر فأكثر من الجبال الصخرية، فإنك تكاد تسمع صخب قاطعي الحجارة والعتالين والحمّالين والعمال وحمحمة الدواب الموظفة لذلك.. نعم في ذاك الصمت المهيب تتناهى إلى مسامعك بقايا قهقهاتهم وضرب المطارق والمعاول وهم في جوف الجبال الصخرية يستخرجون أكبادها الوردية النقية، أيّ صدى جميل هذا الذي ينبعث من روح الجبل! لقد كانت القرابين تقدم هنا طازجة نقية، والتمائم تدس في الشقوق حتى يستجيب الجبل ويعطف على الطارقين، وليس بعيدًا، تبدو بقايا الساحة الدائرية للحاضرة المندثرة.. لقد تحوّل بلاطها إلى ذكرى قاسية، وأحواض النعناع البري إلى مداد يملأ دواة كتّاب التاريخ البربري على أرض تونس.
وخلال الاستعمار الفرنسي لتونس والمؤرخ رسميًا سنة 1881 نهبت فرنسا المستعمرة مقاطع الرّخام النادر بحاضرة "شمتو"، وعبثت بآخر المقاطع الصخرية، ودنّست التجاويف التي مازالت تحمل أنفاس الأجداد وبقايا أزاميلهم الحديدية.
لكن مع الاستقلال، توقف العمل بمقاطع "شمتو" وتمّ تحويلها إلى منطقة أثرية تضم أساسًا الهضبة المقدسة والجسر الحجري الكائن على وادي مجردة وبقايا كل من: البازيليك والمسرح والحمامات والمقابر والتمائم والنّقائش وخاصة ضريح الملك النوميدي "مكيسيبا" الذي حكم نوميديا بين (118 و148 قبل الميلاد) وكان محبًا للشعر والفلسفة ويأتي من العاصمة "سيرتا" ليقيم طويلًا بمسقط رأسه ويتريّض ربيعًا في أراضي والده "ماسينيسا".
وفي سنة 1997 افتتح "متحف شمتو" وهو ثمرة تعاون بين المعهد الوطني للتراث (تابع لوزارة الشؤون الثقافية) والمعهد الألماني للآثار الرومانية.. وهو متحف أنيق يضم أربع قاعات عروض تبلغ مساحتها 1500 متر مربع وتقدم مشاهد لطرق استغلال النوميديين للرخام والحجارة بالمقاطع المجاورة، وخاصة تطوّر الاستغلال بالمرحلة الرومانية. كما يعرض المتحف إلى جانب "واجهة المعلم الملكي النوميدي" مشاهد من الحياة اليومية بحاضرة "شمتو" من ألبسة وأواني. ويقدم أيضًا جملة من المعروضات تشمل صور الآلهة وأدوات العمل وفخاريات ونذر ونصب مقدسة.
هذا المتحف العصري يبدو وحيدًا كحدّ السيف أسفل جبال السلسلة الظهرية. غير مثمّن بالمرة، وهو القادر على الإسهام في تنمية المنطقة ثقافيًا وسياحيًا وإنعاشها اقتصاديًا، لكنه مغمور بالنسيان.
"شمتو" المتلألئة كنجمة قطبية بأقصى الشمال الغربي التونسي بوادي مليز.. ورغم المعاناة، إلا أنها قادرة على قلب المعطيات كما كانت في السابق، زخم تاريخها والنحيب الأبدي لرخامها كنوز لا تبلى.. فقط قيراط من إرادة الرجال.
اقرأ/ي أيضًا: