يفضي الخلاف بين الأفراد والمجموعات عادة إلى المناظرة والجدال والسجال، وقد تتخذ المواجهة سبلًا حادّة غليظة، كأن يعمد المتنازعون إلى العنف والتحقير والشتيمة. وهذه الظواهر السلوكيّة اتّسعت مجالاتها ودوائرها ومقاماتها في تونس، إذ لم تعد مقتصرة على فئة الضّالين والصعاليك والمنحرفين، إنّما باتت أعدل العيوب التواصليّة توزيعًا بين الخاصّة والعامّة والجماهير والسّاسة والبسطاء والنخب وذوي المناصب الرفيعة والحسّاسة.
تمكن دراسة أصول ألفاظ معجم التحقير والعنف في اللهجة التونسية من القول إن هذا المعجم دخيل على الثقافة التونسيّة وهو أقرب إلى الرافد الغربيّ عامّة والفرنسيّ خاصّة
خضع العنف في تونس بمختلف ألوانه ودرجاته وأساليبه إلى دراسات شتّى تحفل بها المدوّنة النقديّة والبحوث الأكاديميّة، ولقد كانت المداخل متعدّدة متنوّعة مألوفة نمطيّة، فهي نفسيّة واجتماعيّة وحضاريّة ودينيّة وفلسفيّة.
هذه المداخل تساهم في الكشف عن أسباب العنف ومرجعيّاته وعلاماته ونتائجه، غير أنّ المدخل اللغويّ المعجميّ بإمكانه أن ينير لنا أركانًا أخرى ظلّت غامضة خفيّة، وقد يساعدنا على بلوغ نتائج فريدة والاهتداء إلى فرضيّات خطيرة تتعلّق بأصول العنف والتحقير والسباب في اللهجة التونسيّة.
اقرأ/ي أيضًا: "كيد الرجال كيدين وكيد النساء 16".. عن الأمثلة الشعبية الساخرة من المرأة
تعدّد مصادر اللهجة التونسيّة والمسألة الإيديولوجيّة
بصرف النظر عن ثنائيّة الأصيل والدخيل والمقرض والمقترض، يمكن القول إنّ اللهجة التونسيّة قد تشكّلت في مختلف مراحل تطوّرها من ثمانية مصادر تقريبًا، وهي العربيّة الفصيحة والبربريّة والفرنسيّة واللاتينيّة واليونانيّة والتركيّة والإسبانيّة والإيطاليّة. هذا المعطى يحثّنا على التساؤل عن الأصول التي كانت أشدّ تأثيرًا في توسيع معاجم العنف والتحقير والشتيمة في اللهجة التونسيّة؟
لم تحظ اللهجة التونسيّة باهتمام أكاديميّ مركّز، في المقابل حاول بعض الباحثين النظر في معجمها وأصوله من خلال عدد من المقالات والبرامج الإذاعيّة منها برنامج "لهجتنا التونسيّة" بالإذاعة الوطنيّة.
لم تحظ اللهجة التونسيّة باهتمام أكاديميّ مركّز
هذه المحاولات رغم ما تتضمّنه من دقائق وما توحي به من جهد ظلّت بسيطة سطحيّة وعظيّة أحيانًا، لأنّها راهنت على الطرافة والإثارة أكثر من مراهنتها على التفكيك والتأليف وطرح الأسئلة والإشكاليّات وكشف الأبعاد والخلفيّات.
أرجع ابراهيم بن مراد، أستاذ اللغة بالجامعة التونسيّة والمختصّ في المعجميّة، هذا الشحّ في البحوث المتّصلة باللهجة التونسيّة إلى أسباب إيديولوجيّة ومذهبيّة ودينيّة وسياسيّة، وفصّل موقفه قائلًا: "كانت هذه المسألة منذ بدايات القرن العشرين مثار مجادلات لم تخلُ من عُقد أحيانًا نتيجة ما ارتبط بها من دعوات البعض إلى إحلال العامّية محلّ الفصحى لتصبح لغة الكتابة وما ذهب إليه بعض الباحثين من العرب والمستشرقين إلى اعتبار العامّيّة لغات مستقلّة بذاتها لها نُظمها الخاصّة بها... وقد نتج عن ذلك أن كثر في البلاد العربيّة العزوف عن جمعها والبحث فيها بحثًا خالصًا للعلم (الكلم الأعجميّة في عربيّة نفزاوة- الجنوب الغربي التونسي، سلسلة اللسانيّات عدد 10، ص7، صدر الكتاب عن كتابة الدولة للبحث العلمي والتكنولوجيا، مركز الدراسات والبحوث الاقتصاديّة والاجتماعيّة سنة 1999).
ندرة المصادر والمراجع الدقيقة الرصينة جعل البحث في معجم العنف والتحقير والسباب في اللهجة التونسيّة أمرًا مستعصيًا يحتاج إلى تقليب النظر في العديد من النصوص المفرّقة والمشتتة المفتقرة في الغالب إلى حسن الترتيب والتبويب.
"الزوفري"، "باربو"، و"البانديّة" وعجرفة اللغة الفرنسيّة
تحفل اللهجة التونسيّة بالأفعال والأسماء والصفات والمشتقات المحيلة إلى سجلّ العنف، ومراعاةً للمقام الصحفي نقتصر على ثمان عيّنات بدت لنا أكثر تواترًا وسريانًا على الألسن.
العيّنة الأولى: صفة " باندي" وجمعها " بانديّة" وهي نعت يطلق على من يتّصف بالحدّة والصلف في التعامل مع خصومه، وتقترن في الغالب بالظالم والمتعدّي على حقوق الضعفاء والمقهورين، فهي تصنّف ضمن العنف الباطل أو العنف الجائر (خلافًا للعنف الحق المقترن بالمقاومة ونصرة المظلومين). وقد حضرت هذه الكلمة في العديد من الأعمال الأدبيّة والغنائيّة منها الأغنية التراثية التي أعاد تقديمها الشاب بشير مطلعها و"الصّبابة ولو بانديّة ما تبكيش أيا يا عينيّا".
لفظ "باندي" اقترضته اللهجة التونسيّة من اللغة الفرنسيّة بنفس الأصوات مع اختلاف نسبي في نطق المقطع الأول "Bandit"
لفظ "باندي" اقترضته اللهجة التونسيّة من اللغة الفرنسيّة بنفس الأصوات مع اختلاف نسبي في نطق المقطع الأول "Bandit"، وهذا المثال شبيه بتوطين عبارة "Les ouvriers" في الخطاب التونسي بطريقة فيها بعض العدول الصوتي والدلالي، فكلمة "زوفري" في اللهجة التونسيّة نعت لمن كانت في سلوكه خساسة وعجرفة في القول والفعل والمظهر.
اقرأ/ي أيضًا: من القفة إلى الملوخيّة ...المطابخ التونسية بنكهة سياسية
حضر هذا الرافد الفرنسيّ من خلال عيّنات أخرى، فلفظ "باربو" الذي يوصف به المتعجرف هو مجرّد محاكة لكلمة "Barbeau" الفرنسيّة صوتًا ومعنى، وقس على ذلك لفظ "باصى" ومنه "يباصي" و"مْباصيه" الذي يعني الهلاك، فقد أخذت على وجه من وجوه التأويل من كلمة "passer" التي تفيد معنى الماضي، فكأنّ الشخص "اللي يباصي" أصبح في عداد الماضى أو الزائل المفقود.
وقد اعتبر ابراهيم بن مراد اللسان الفرنسيّ الأكثر إدماجًا في اللهجة التونسيّة، إذ بلغ حوالي خُمس الكلمات المأخوذة من لغات أجنبيّة، وفسّر ذلك قائلًا: "الفرنسيّة لغة حديثة التّأثير في اللهجات التونسيّة لظروف تاريخيّة واجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة مرتبطة باستعمار فرنسا لتونس من 1881 إلى 1956، فقد كانت اللغة الفرنسيّة لغة الغالب". ويبدو هذا التفسير وجيهاً رغم يقيننا أنّ الغلبة العسكريّة يمكن أن تنكسر أمام الغلبة الفكريّة والمعرفيّة، فقد قيل قديمًا "روما غزت أثينا عسكريًا وأثينا غزت روما ثقافيًا".
"بونية" إيطاليّة و"تْلَغْميج" تركي
الكلمة الخامسة التي تندرج ضمن معجم الشدّة والعنف هي "بونطو" ومنها "بونطوات"، وهي تحضر في التعليق الرياضي لوصف ولوج الكرة الشبكة، ولكنّها في اللهجة التونسيّة تعني الحقد والكراهية والعزم على الأخذ بالثأر، فنقول على سبيل المثال " بيناتهم بونطوات" أي بينهم ضغينة وبغضاء.
كلمة "تلغميج" التي تفيد العنف عبر التفوّه بكلام بذيء مشفوع بالتهديد هي كلمة تركية ومعناها الأصليّ "واضع اللغم" وتفيد كذلك معنى الفحش والفجور وفق أستاذ المعجمية في الجامعة التونسية ابراهيم بن مراد
والأرجح أن تكون اللهجة التونسيّة قد استعارت هذه الكلمة من الإيطاليّة، فحلّ في النطق حرف الباء محلّ حرف الــP ، من خلال تَوْنسة كلمة "Punto"، وتنسحب هذه الملاحظة على الكلمة السادسة، وهي "بونيه" و تعني قبضة اليد، وتفيد في بعض الاستعمالات القوّة عامّةً، كأن يقول الرجل لغريمه "عندك بونية أخرجلي" أي "إذا كنت قوّيًا تعالى إلى المبارزة"، ويرجّح أن تكون هذه الكلمة قد اقترضت من الإيطاليّة "Pugno".
ولئن أفادت كلمة "بونية" معنى العنف من خلال عضو من أعضاء الجسد، فإنّ كلمة "تلغميج" ومنها "يتلغمج" تفيد العنف عبر التفوّه بكلام بذيء مشفوع بالتهديد تصريحًا أو إيحاءً، وقد اعتبر ابراهيم بن مراد هذه الكلمة سليلة اللغة التركيّة قائلًا في كتابه سابق الذكر: "الكلمة من التركيّة " لُغمجيّ" ومعناها الأصليّ واضع اللغم... كما تفيد معنى الفحش والفجور".
بيِّن من خلال النماذج السبعة المذكورة أنّ معجم العنف يتّصل بثلاث مستويات هي الفاعل (باندي، باربو، زوفري) والعزم على الفعل (بونطوات) وأدوات الفعل ( قبضة اليد/ البونية واللسان/ التلغميج) ومصير المتعرّض للعنف (باصى/ هلك).
"بزمة" و"بطّيّة" والعيوب الذوقيّة والذهنيّة
لئن اتّخذ معجم العنف في اللهجة التونسيّة بعدًا مادّيًا سلوكيًا، فقد نحا معجم التّحقير منحى جماليًا وذهنيًا، يمكن الكشف عن ذلك من خلال عدّة نماذج.
جماليًا، عبّرت اللّهجة التونسيّة عن عيوب السمنة وحوّلتها إلى موضوع إهانة وذمّ، ومن المفردات المستعملة في هذا المقام الهجائيّ كلمتا "بزمة" و"بطيّة"، أمّا الأولى فأصلها فارسيّ وفيها محاكاة صوتيّة لكلمة "بُزُمْ" ومعناها الأصليّ "الوليمة والضيافة"، وليس يخفى ما بين الأكل والاكتناز من علاقة سببيّة. وقس على ذلك كلمة "بطّي" ومؤنّثها "بطيّة"، وقد أرجعها ابن مراد إلى اللغة اللاتينيّة المتأخرة فعدّها مرادفة لكلمة "Buticula" ومحاكية لها صوتيًا.
كلمة "بُزمة" أصلها فارسيّ وفيها محاكاة صوتيّة لكلمة "بُزُمْ" ومعناها الأصليّ "الوليمة والضيافة"
يتّسع مجال التّحقير ليشمل البعد الذوقيّ، إذ ينعت المفتقر إلى اللياقة والكياسة في ردود أفعاله بـ"شلاكة" استئناسًا بالكلمة اليونانيّة "socculus"، أمّا إن خالط تلك العيوب خبث ودهاء فيمكن وصف المرء بـ"زنس" والجمع "زنوس" مجانسة للكلمة اليونانيّة "Génos"، كما يعمد عدد قليل من المتكلمين إلى كلمة "كعلوس" والفعل "يتكعلس" لوصف من يسيء السلوك عامّة، وقد رجّح ابن مراد أن تكون الكلمة ذات رافد لاتينيّ يتمثّل في لفظ "Culus" ومعناه الأصليّ الدبر أو المؤخّرة.
ويتّخذ التحقير بعدًا أخطر حينما يغدو قائمًا على القدح في الأنساب، كأن يعمد الشاتم إلى وصف خصمه بكلمة "كبّول" أي ابن الزنى أو اللقيط، وقد اقترضت اللهجة التونسيّة هذه الكلمة من اللاتينيّة "Caponis" وتشترك في معناها الأصلي مع كلمة الخصيّ. أمّا الذمّ المتّصل بافتقار المرء إلى حسن التدبير، فيمكن حصرها في كلمة "فلطى" ومنها "يْفلطي"، وتعني فقد الصواب، وهي مأخوذة من الأسبانيّة (Falta).
الأعضاء التناسليّة والشتائم العربيّة
من أكثر المفردات المعتمدة في اللهجة العاميّة عند العراك والسباب هي الكلمات المقترنة بالأعضاء التناسليّة للرجل أو المرأة، في هذا المقام لا يحتاج الباحث إلى كدّ الذهن لمعرفة أصول تلك الكلمات، فرافدها الأساسيّ اللغة العربيّة الفصيحة.
وقد توسّع استعمال هذا المعجم ليقتحم المقامات الفنيّة والسياسيّة والإعلاميّة، بل تحوّل إلى عنصر أساسيّ في البرامج الفكاهيّة والمنوّعات، وقد استعاض عنه المخرجون بصوت يشوّش على الكلمة النابية، فتمّ الاصطلاح على تلك المفردات ذات البعد الجنسي بلفظ "تِيت" محاكاة للصوت المعتمد في إخفاء الكلمة عند عرض البرامج مسجّلة.
المسألة الجنسيّة تبدو متحكّمة في البنية النفسيّة والذهنيّة لأبناء هذه الحضارة التي لم تحسم في العديد من الأسئلة المتّصلة بالجسد واللذة والعفّة والشرف
ويكشف لنا هذا العرض الوصفيّ والتفسيريّ والتأويلي عن نتيجتين على الأقل: الأولى مفادها أنّ معجما العنف والتحقير دخيلان على الثقافة التونسيّة، وهما أقرب إلى الرافد الغربيّ عامّة والفرنسيّ خاصّة، وهي فرضيّة يمكن مزيد التحقّق منها من خلال البحوث الأكاديميّة المعمّقة والموسّعة.
أما النتيجة الثانية تتّصل بما سميّناه معجم " التيت"، فأصوله العربيّة تؤكّد أنّ المسألة الجنسيّة تبدو متحكّمة في البنية النفسيّة والذهنيّة لأبناء هذه الحضارة التي لم تحسم في العديد من الأسئلة المتّصلة بالجسد واللذة والعفّة والشرف، لذلك تتسرّب هذه العقد الثقافيّة من خلال النكت والنوادر والسباب والشتيمة.
اقرأ/ي أيضًا:
استقبال المواليد في التقاليد التونسية.. طقوس "خلاص الوحل" و"السّابع"