14-أكتوبر-2024
حنبعل دنزل واشنطن

إنتاج فيلم بشأن ملاحم القائد القرطاجي حنبعل أثار جدلاً في تونس أساسه الاعتراض على لون الممثل

 

منذ سنة تقريبًا، أواخر شهر أوت/أغسطس 2023، أثار إعلان شركة نتفليكس نيتها إنتاج فيلم بشأن ملاحم القائد القرطاجي حنبعل مع الجيوش الرومانية جدلاً واسعًا بين طيف لا بأس به من رواد مواقع التواصل الاجتماعي من التونسيين، جدل وصل إلى قبة البرلمان التونسي، أين طلب أحد النواب من السلطة التدخل لمنع الفيلم.

يتمثَل الجدل أساسًا في تقمص أحد أساطير هوليوود، وصاحب جائزتي أوسكار، دنزل واشنطن، دور القائد القرطاجي حنبعل في الفيلم، والاعتراض على لون الممثل بالأساس، ما اعتبره البعض "تزييفًا" للتاريخ، على فرض أن حنبعل ذو بشرة برنزية متوسطية، أو ربما أوروبية، وفق التصور السائد بين صفوف هؤلاء، الذين أنكروا أن يكون أسود البشرة.

لوهلة يبدو الخبر والحادثة معزولان، لكنه تكرر مع أكثر من فيلم ومسلسل، على غرار مسلسل "Those about to die" من بطولة أنتوني هوبكينز، الذي انتقد بعض المتابعين في المجموعات المهتمة بالأفلام على فيسبوك، ظهور سكان مدينة نوميدية في شمال إفريقيا بملامح سمراء واستعمالهم اللغة البانتوية (لغة البانتو هي من اللغات الأصلية الإفريقية المنتشرة أساسًا في وسط وجنوب شرقي أفريقيا).

ما الذي يمنع فرضية أن يكون حنبعل أسود اللون، لولا تصور نمطي ضيق يغذيه شعور بالفوقية لدى كل من يتحجج بالدقة التاريخية في عمل فني تخيلي؟

جدل عقيم في ظاهره، وللوهلة الأولى قد يبدو الأمر ضربًا من الحرص على الدقة التاريخية، بصدد التحوّل إلى نوع من الوصاية على الإنتاج الفني. في المقابل، لا يزال كثيرون من متابعي الأفلام ينشرون صورة الممثل أنتوني كوين في دور عمر المختار دون أي انزعاج مشابه.

وفي سياق ما تمخضت عنه الأسابيع والأشهر الأخيرة منذ مارس/آذار 2023 من حملة ضد المهاجرين من جنوب الصحراء في تونس، يوحي الأمر بأكثر من مجرد رأي فني، بل هو إنذار ومؤشر خطير آخر على تواصل أزمة هوياتية اجتماعية ثقافية مركبة ضاربة الجذور.

  • الرواية الوطنية وأصل الداء

لطالما حملت تونس اسم "إفريقية أو Frigua" في المؤلفات التاريخية القديمة سواء من تأليف جنوب أو شرق المتوسط والجزيرة العربية، بل يذهب مؤرخون إلى أن تونس القديمة، بكنيتها إفريقية، كانت السبب وراء تسمية القارة كلها إفريقيا، أو كما يحلو للكثيرين أن يطلقوا عليها القارة السمراء.

يذكر أنه وفق أرقام البنك الدولي، يمثل أصحاب البشرة السوداء أكثر من 80% من سكان إفريقيا، رغم ما يحتمله وصف عرق "أسمر أو أسود" من جدلية ليس هذا مقامها. المعلوم أنه ليس هناك أي إثبات علمي لملامح قرطاج، وما التماثيل والتصورات السائدة إلا مجرّد أعمال تخيلية وليدة أفكار أصحابها، يتخللها الكثير من الذاتي وتأثيرات محيط أصحاب هذا الأعمال. على العموم، لا يذكر على الأقل أن أحد أصحاب هذه الأعمال ادعى امتلاك الحقيقة المطلقة بخصوص حنبعل.

المعلوم أنه ليس هناك أي إثبات علمي لملامح قرطاج، وما التماثيل والتصورات السائدة إلا مجرّد أعمال تخيلية وليدة أفكار أصحابها، يتخللها الكثير من الذاتي وتأثيرات محيط أصحاب هذه الأعمال

من جهة أخرى، ينظر علماء الإبستيمولوجيا وأصحاب نظريات تطور البشر، على غرار جراد ديموند ويوفال نوح حراري، إلى أن موجات هجرة الأولى للنيوأندرتال أو البشر الأوائل (وفق نظرية التطور الداروينية)، بعد نشأتهم في الشرق الإفريقي، كانت نحو شمال إفريقيا، إذ "تعود أقدم آثار مسجلة للبشر إلى 2.5 مليون سنة في شرق إفريقيا.

ومنذ نحو مليوني سنة، هاجر بعض هؤلاء البشر من نساء ورجال نحو شمال إفريقيا، ومنها نحو آسيا وأوروبا" *1. أيضًا، تتقاطع عدة محاولات لإعادة تشكيل ملامح وجوه البشر الأوائل، كتلك المعروضة في متحف لندن للعلوم الطبيعية، حول لون بشرة تقريبًا داكنة.

فضلاً عن هذا، مثل القرنان 18 و19 ذروة الكتابات الاستشراقية، وكان لتونس وشمال إفريقيا من أقلام المستشرقين نصيب. في كتاب "أبحاث أنثروبولوجية حول بربر الشرق" *2، يتناول الطبيب وعالم الأنثروبولجيا الفرنسي لوسيان برثولون (1854ـ1914) مورفولوجيا سكان شمال إفريقيا، من وهران حتى برقة مرورًا بتونس، أين قام بنوع من الجرد شمل أكثر من 8000 نسمة وفق ما جاء في الكتاب المذكور، وورد أن لعرق في شمال إفريقيا نصيب "من الشركس وسكان الحجاز إلى بلدان الساحل والسودان، وما بينهما من يونانيين وطوارق ورومان وفرنسيين وإسبان. وأنه لا يمكن حصر سكان شمال إفريقيا في مجموعة عرقية محددة"، يقول: "يمثل العنصر الزنجي، بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، عنصرًا حاضرًا ومكونًا أساسيًا في مورفولوجيا سكان شمال إفريقيا" *3.

تتبنى كل دولة وطنية، بما هي كيان معنوي بالمعنى العلمي السياسي، رواية وطنية تاريخية أسطورية للشعب والأرض الذي تقوم عليها: فتتبنى مثلاً الدولة الإيطالية قصة الطفلين رومولوس ورموس الذين تولت ذئبة رضاعتهما وكانا وراء تأسيس مدينة روما، فيما يتبنى الفرنسيون قصة الملك كلوفيس الأول كأول ملك في بلاد الغال وبداية "تفرنس" الفرنسيين، كذلك الأمر مع الفراعنة في مصر، وكسرى والفرس في إيران.

أما في تونس، فتبنت الدولة الوطنية بعد الاستقلال أسطورة قدوم عليسة من المشرق وتأسيسها لمدينة قرطاج قياسًا إلى جلد ثور حددت به حدود المدينة. وفي الرواية الأكثر تعقلنًا، تعود أصول التونسيين إلى مزيج من شعوب المتوسط من فينيقيين ورومان وبيزنطيين وقبائل عربية وأمازيغية.

أدت بعض الروايات إلى تبلور مخيال شعبي لشخصيات تاريخية من شمال إفريقيا بملامح متوسطية بسحنة برنزية ناضرة أقرب إلى الاحمرار، وشعر زيتي إيطالي بدرجات متفاوتة من التجعيد، أنف مذبب وعيون بألوان فاتحة، إلى غير ذلك من الكليشيهات العرقية

مع هذه الرواية، طبيعي أن يتبلور مخيال شعبي لشخصيات تاريخية من شمال إفريقيا بملامح متوسطية بسحنة برنزية ناضرة أقرب إلى الاحمرار، وشعر زيتي إيطالي بدرجات متفاوتة من التجعيد، أنف مذبب وعيون بألوان فاتحة، إلى غير ذلك من الكليشيهات العرقية. فإن كان المقصود بحنبعل برقة القائد القرطاجي الإفريقي، فما الذي يمنع فرضية أن يكون أسمر اللون أو أسود، لولا تصور نمطي ضيق تغذيه عنصرية وشعور بالفوقية لدى كل من يتحجج بالدقة التاريخية في عمل فني تخيلي لم يدع مخرجوه أنهم تحرروا دقة تاريخية ما أثناء إنتاجه، عدا ما تقتضيه الحبكة الدرامية من لباس ومأكل وربما أحداث بما يسمح بتماسك قصة الفيلم.

  • الوصاية الوصاية.. على كل شيء

لا تزال "مقولة" الفنان التشكيلي والنحات مارسال ديشون حاضرة في متحف سان فرانسيسكو للفن المعاصر مادامت الجدلية التي تطرحها حاضرة في أول كل درس للفن في كافة أنحاء العالم تقريبًا: "ماهو الفن؟". لتكون الإجابة الليبرالية: "الفن هو ما يتفق الناس أنه فن، والجمال ما يراه الناظر جمالاً".

نظرية ليبرالية للفن تتفق والأطر المكانية والزمانية التي يصوَر فيها فيلم حنبعل المرتقب -إنتاج أميركي وفق تصور ليبرالي تقوده نزعة صوابية سياسية متماهية مع سياقها، سواء اتفقنا معها أم لا- يبقى عملاً فنيًا ينقد فنيًا ويتعامل معه كأي تعامل مع أي عمل فني في السوق الرأسمالي، والمستهلك أي المشاهد، هو من سيقرر مدى نجاح هذا الفيلم من عدمه، وهذا ما يهم أصحاب الإنتاج على كل حال: الربحية ومدى مردودية العمل.

في المقابل، من المفهوم والعادي انزعاج مشاهد من فيلم ما، أو أي عمل فني آخر، من الناحية الفنية أو الذوقية، وله طبعًا كل الحق في ذلك، مستهلك يبدي رأيه فيما استهلك، بما يعنيه ذلك من نقد بعدي، ما دام قبل مبدأ اقتناء المنتوج من صاحبه، أي مبدأ العرض والطلب، أساس نظرية السوق الرأسمالية.

لا شيء يمنع أن يكون حنبعل أسودًا إفريقيًا أو حتى بملامح صينية، والأجدى ربما التركيز على التحفيز الذي تمنحه قصة قرطاج لبناء مستقبل أفضل، بدل العيش على الأطلال وفق ما يتخيلها أصحابها

لكن المشكل أن يتحول هذا الإنزعاج إلى تهكم عنصري مقيت يصدر الدقة التاريخية ويداري بها اعتراضه على "لون" متقمص الشخصية. يفسر كذلك هذا التمزق الهووي والميل نحو الوصاية، تجدد الجدل في كل مرة بشأن مواضيع تحولت إلى كليشيهات كالحجاب، النقاب، وغيرها من الجدليات العقيمة التي لا تخص إلا أصحابها.

في الأخير، لا شيء يمنع أن يكون حنبعل أسودًا إفريقيًا أو حتى بملامح صينية، والأجدى ربما التركيز على التحفيز الذي تمنحه قصة قرطاج لبناء مستقبل أفضل، بدل العيش على الأطلال وفق ما يتخيلها أصحابها.

 


المصادر: 

*1: يوفال نوح حراري. هوموسابينس.  صفحة 12.

*2: كان الرومان القدامى يطلقون وصف بربر على كل من هم خارج مجال مدينة روما بمن في ذلك سكان فرنسا من الغال والقبائل الجرمانية في ألمانيا.

*3: أبحاث أنثروبولوجية بخصوص بربر الشرق. المكتبة الوطنية الفرنسية. ص 174.

 

واتساب