مقال رأي
الشعبوية قديمة قدم السياسة بما هي انتظام وتبادل وعلاقة قوّة، ولكنها صارت نزعة واضحة مع ظهور الديمقراطية. وغالبًا ما ينظر إليها على أنّها نتيجة مباشرة لأزمات الديمقراطية الملازمة وتوتراتها الهيكلية والدورية المعلومة.
وكثيرًا ما يشار إلى حدّ الابتذال إلى أنّ الشعبوية شعبويات، ولكن قليلًا ما يشار إلى هذه الاختلافات بالدقة المطلوبة وإلى السياقات والشروط التي تفسّر هذه الاختلافات والفروق.
مثلت ظاهرة قيس سعيّد قبل 2019 نزعة مستطرفة لم يتمّ التركيز معها والانتباه إليها إلاّ بعد ترشحه للانتخابات الرئاسية. ولم يكن ممكًنا التفطّن إلى "عاميتها" إلا بعد سنتين من السلطات المطلقة وما رافقها من "عجز عن الحكم" ارتبط بخطاب شعبوي ضحل دالًا ومدلولًا لم تغطّ على ضعفه الرطانة بعربيّة لم تعد فصيحة، هذه المرّة.
- المواجهة الصفرية
الشعبوية في أصلها خطاب وليست إيديولوجيا إلا في حالات نادرة. ويتأسس خطابها على تقابل حادّ بين "شعب خيّر" و"نخبة خائنة". وتمثل هذه الثنائية أحد ثوابت الشعبوية سواء كانت عامية أو عالمة. وتكون على قدر السياق الذي انبثقت فيه. بإلاضافة إلى "البعد الرسالي" و "التبشيري" الذي يميّز خطابها.
يتأسس خطاب الشعبوية على تقابل حادّ بين "شعب خيّر" و"نخبة خائنة". وتمثل هذه الثنائية أحد ثوابت الشعبوية سواء كانت عامية أو عالمة، بإلاضافة إلى "البعد الرسالي" و "التبشيري" الذي يميّز خطابها
ويتوهم جلّ الزعماء الشعوبيين بأنّهم مكلّفون بمهمة ربانية وأنّها هي ما يمثل الحقيقة. هذا إذا لم تكن هي الحقيقة نفسها في منزع حلولي مخيف يجعل منها بديلاً لا شريكًا ولذلك تكون الصراعات التي تخوضها صفرية. ويمثل قيس سعيّد النموذج الأوفى للشعبوية العامية. ولقد دخل منذ انتخابه في مواجهة نعتناها بالصفرية لأنّ أحد أطرافها وهو هنا قيس سعيّد الطرف الشعبوي لا يعرف المناورة والتحيز بما هو تقدّم وتراجع تفرضهما طبيعة المعركة. وقد عبّر عن هذا بجملته الشهيرة "لا رجوع إلى الوراء". ويحتدّ حضور هذه الجملة مع كل فشل جديد يسجل في تسيير شؤون الدولة.
وهو ما يكشف عن رفض حاسم ومطلق للواقع. وعلى هذا الأساس كانت جملة قيس سعيّد في 2013 على إثر عملية الاغتيال الثانية "فليرحلوا حكمًا ومعارضة"، موهمًا بأنّه يملك البديل. وكانت غايته أن يجد له موقعًا في الصراع الدائر بين حكم الترويكا والمنظومة القديمة بقيادة الباجي قايد السبسي حينها.
وهذا الصراع لم يكن صفريًا، إذ كانت جولات الصراع الذي انطلق باكرًا وكان في حقيقته بسبب الرفض الفعلي لنتيجة الانتخابات التأسيسية من قبل من خسرها يومها، رغم التظاهر بالقبول بها عشية الإعلان عن نتائجها. وكان لطرفي المواجهة قابلية للتفاوض والتراجع هنا والتقدم هناك. وكان الخوف من انزلاق الصراع السياسي نحو الاحتراب الأهلي دافعًا إلى فكرة الحوار الوطني. وهو في حقيقته انقلاب ناعم على الانتخابات التأسيسية. غير أنّه أفضى إلى تنازل قوى الثورة عن حكومة شرعية منتخبة لتحل محلها حكومة في ظاهرها حكومة تكنوقراط وفي جوهرها حكومة موالية للثورة المضادة التي قبلت بمرجعية المجلس الوطني التأسيسي ومحصلته السياسية قبول القديم بالانصراف تحت سقف الديمقراطية.
دخل سعيّد منذ انتخابه في مواجهة صفرية لأنّه لا يعرف المناورة والتحيز بما هو تقدّم وتراجع تفرضهما طبيعة المعركة وقد عبّر عن هذا بجملته الشهيرة "لا رجوع إلى الوراء" ويحتدّ حضور هذه الجملة مع كل فشل جديد يسجل في تسيير شؤون الدولة
قيس سعيّد الذي لم يحقق أي معنى من معاني تصحيح المسار، ولم يف بأي وعد من وعوده لم يكن مستعدًا التزحزح قيد أنملة. وهو لم يرفض جذريًا خصومه فحسب وإنّما احتقر حتى الأيدي الممدودة إليه من جماعة "المساندة النقدية" وازدرى مناشدتهم واعتبر حدث 25 جويلية قرارًا فرديًا ومنجزًا شخصيًا لم يشرك فيه أحدًا وسيقابل به وجه الله.
هذه المواجهة الصفرية هي التي طبعت سنوات قيس سعيّد بالفشل الكامل وحولت الدولة إلى ركام والاقتصاد إلى مجاعة والحياة السياسية إلى صحراء قاحلة والمعارضين إلى سجناء رأي يحاكمون باسم التآمر على أمن الدولة.
- مظاهر العامية ونتائجها
الشعبوية بنت سياقها السياسي وهي بالأساس ردّ فعل على أزمات الديمقراطية الدورية. وتتأثّر بحال المجتمع من جهة تطوره ورفاهه وهوية انتظامه السياسي. لذلك يكون الغالب على الشعبوية في ظل أنظمة الاستبداد أو مراحل الانتقال أنّها عامية وضحلة. ومنها الحال التونسية، فما يبشّر به قيس سعيّد من "فكر جديد" لا يعدو أن يكون عناوين عامة في صيغة شعارات بالية تستدعى بعد أن شبعت موتًا بسبب عدم قابليتها للتنزيل في في زمانها وفي السياق الذي ظهرت فيه.
ما يبشّر به قيس سعيّد من "فكر جديد" لا يعدو أن يكون عناوين عامة في صيغة شعارات بالية تُستدعى بعد أن شبعت موتًا بسبب عدم قابليتها للتنزيل في في زمانها وفي السياق الذي ظهرت فيه
وفي هذا تتردّد في خطاب سعيّد السياسي عبارة "الشعب يريد". وقد حاول في أول عهده بالرئاسة أن "يطورها" إلى قالب تعبيري يهنّئ به الشعب بتحقيق إرادته. فكان يتوجه إلى مخاطبيه في اجتماع شعبي أو في لقاء عابر مع الناس بقوله: "لقد أردتم وهنيئًا لكم بما أردتم". وصار هذا مثالاً للتندر في مواقع التواصل الاجتماعي مما اضطره إلى التخلي عنه.
وكان كلّما ووجه من قبل الشباب العاطل في الدواخل يلقي بجواب منمذج: "أنتم مدعوون لابتداع حلول من خلال واقعكم وشروطكم المعيشية. وعليكم أن تتقدموا بمقترحات في التنمية والاستثمار. فالحلّ يجب أن ينبع من الشعب صاحب السلطة وصاحب الإرادة".
وكان هناك قالب تعبيري آخر تردد في خطاب قيس المنتخب ويتردد في خطاب قيس سعيّد المنقلب أمام البعثات الدبلوماسية ويتمثل في التأكيد على "تجاوز المعالجات التقليدية وضرورة ابتداع مقاربات جديدة" دون تبيان ما طبيعة هذه المقاربات وكيف يتسنى بواسطتها تجاوز السائد. هو مجرد إنشاء وتداع سرعان ما ينزلق إلى نوع من الامتلاء الأجوف الذي يعقبه ارتياح يوفره الإنجاز الفعلي.
وحينما سُئل عن برنامجه في الحملة الانتخابية أجاب بأنه لا برنامج له، وأنّه لن يَعِدَ بشيء مثل بقية مرشّحي الأحزاب ومراكز القوى واللوبيات في البلاد. ولكنه لم يقدّم ولا حلاّ واحدًا لما تتخبّط فيه البلاد من أزمة مركّبة تحتدّ مع الوقت.
الأصل في الحياة السياسية وما تقوم عليه من منافسة أن يُنتخب المترشح للانتخابات على ضوء برنامجه وما يقترحه فيه من حلول ولكن الذي يحدث في حالات صعود النماذج الشعبوية، ومنها سعيّد، أنّه يُنتخب على ما ليس فيه
والأصل في الحياة السياسية وما تقوم عليه من منافسة أن يُنتخب المترشح للانتخابات الرئاسية أو التشريعية على ضوء برنامجه وما يقترحه فيه من حلول لجملة المشاكل ومن سبل لتجويد سبل العيش وتيسيرها. ولكن الذي يحدث في حالات صعود النماذج الشعبوية، ومنها قيس سعيّد، أنّه يُنتخب على ما ليس فيه (ليس له برنامج، وليس له تجربة سياسية ونضالية).
- الطبيعة الانقلابية ومآلات الفشل
ما تشترك فيه الشعبوية العامية والعالمة هي الروح الانقلابية لا بالمعنى الثوري المتمثل في تحويل الأوضاع جذريًا باتجاه الرفاه والعدل والاستقرار، وإنما بالانقلاب على الشروط التي أوصلت القيادات الشعبوية إيّاها إلى الحكم والقيادة وشطب قوانين الديمقراطية وقواعد التنافس الديمقراطي.
والقيادة الشعبوية بالضرورة هي قيادة الفرد الملهم والمنقذ. وتستعين في انقلابها بالصورة التي بنتها عن نفسها ونجحت في إيصالها إلى من يهمّه الأمر (نظافة اليد والنزاهة عند الزعامة الشعبوية العامية: سعيّد نموذجًا، أو الكفاءة والقدرة والعلاقة القوية بالسوق المالية عند الزعامة الشعبوية: ترامب نموذجًا).
القيادة الشعبوية بالضرورة هي قيادة الفرد الملهم والمنقذ وتستعين في انقلابها بالصورة التي بنتها عن نفسها ونجحت في إيصالها إلى من يهمّه الأمر (نظافة اليد والنزاهة عند الزعامة الشعبوية العامية: سعيّد نموذجًا)
في تونس، انقلب سعيّد المنتخب على منظومة الديمقراطية التي مكنته من الوصول إلى رأس السلطة. ومزّق ما أقسم على احترامه (الدستور)، وعمَد إلى هدم كلّ المؤسسات الدستورية والتعديلية التي قد تقف عقبة في وجه رغبته الجامحة في الاستحواذ على كل السلطات.
تدرّج سعيّد في انقلابه واعتمد أسلوب المخاتلة والمخادعة، فقد اعتبر إجراء 25 جويلية/يوليو 2021 اجتهادًا داخل دستور 2014، رغم إجماع مراجع القانون الدستوري على أنّ الذي حدث انقلاب على الدستور وليس انقلابًا دستوريًا. وأكّد سعيّد بأنّه لن يلغي الدستور وألغاه وبأنه لن يحل البرلمان وحلّه. وكان الأمر 117 هو دستور سعيّد الفعلي بما أتاحه من حكم فردي بواسطة المراسيمِ.
من جهة أخرى جرّ قيس سعيّد الدولة خارج الشرعية، وهو ما ينزع الشرعية عن نظامه السياسي وعن كل ما تفرّع عنه. وحاول أن يعالج مشكل الشرعية في مستويين: الأوّل فيما سمّاه "التفويض الشعبي"، ولكن الشارع الديمقراطي استطاع بحركته المواطنيّة الميدانية التي انطلقت يوم 18 سبتمبر/أيلول 2021 دحض هذه السرديّة. والثاني بكتابة دستور جديد بمفرده، ولكن المناسبات الانتخابية الأربع التي انطلقت بالاستشارة الإلكترونية مرورًا بالاستفتاء وانتهاء إلى انتخاب مجلس نواب بديل عن المجلس الشرعي الذي أغلق بدبابة لم تتجاوز في معدلها العام 8% من المسجلين.
وبذلك يكون سعيّد قد غيّر قواعد اللعبة السياسية التي أوصلته ليستبدلها بقواعد صار الحديث عنها مجلبة للخزي عند نخبة تونسيّة حُبّرت في تميّزها وتجذّرها في ثقافة الحداثة نصوصًا من أهل الاختصاص عشية ثورة الحريّة والكرامة، ومثارًا للعار عند جانب من النخبة التي رحّبت بالحكم الفردي المطلق وناهضت بشراسة وبحدّة مفاجئة عن سعادتها بإيقاف المسار الديمقراطي.
هذه الروح الانقلابية لا تخصّ الشعبوية العامية، بقدرما تميّز الشعبوية العالمة.ولقد شاهدنا على المباشر محاولة انقلاب ترامب المثيرة في جانفي/يناير 2021، بعد خسارته الانتخابات، وعدم تسليمه بنتائجها. وكان حدثاً مزلزلاً، ذلك أنّه كان الانقلاب على الديمقراطية الأولى في الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية)، وقوّة وقعه من أنّه كان أمرًا غير مفكّرًا فيه. وخلَق هذا الحدث هلعًا كبيراً حين لم يعد هناك من تجربة مرجع. وأنّ "العاقل" غير منزّه عن العبث. واعتُبر الأمر جللاً واضطرابًا خطيرًا في النظام الديمقراطي وأزمة عميقة في الديمقراطية التمثيلية.
ويُخشى أن تكون محاولة الشعبوية الانقلاب على الديمقراطية في المركز (الغرب/الولايات المتحدة) أكثر من مؤشر على أزمة الديمقراطية، ليكون نتيجة لعجز الديمقراطية الهيكلي عن معالجة توتراتها المعروفة بين الحريات واحترام القانون وبين المؤسسات المنتخبة والأخرى غير المنتخبة (القضاء، المؤسية الأمنية والعسكرية، العائد في الأصل إلى التوتّر بين الليبراليّة والديمقراطيّة.
إذا أمكن احتواء محاولة انقلاب الشعبويّة العالمة على الديمقراطية في الولايات المتحدة بسبب قوّة المؤسسات الديمقراطيّة ورسوخها وفي مقدّمتها المؤسسات غير المنتخبة فإنّه لم يتسنّ تفاديها من قبل الشعبوية العامية في تونس
وإذا أمكن احتواء محاولة انقلاب الشعبويّة العالمة على الديمقراطية في الولايات المتحدة بسبب قوّة المؤسسات الديمقراطيّة ورسوخها وفي مقدّمتها المؤسسات غير المنتخبة (الشرطة والجيش) فإنّه لم يتسنّ تفاديها من قبل الشعبوية العامية في تونس فقد نجحت في جرّ المؤسسة الأمنيّة والعسكريّة خارج مجالها الدستوري وتقاليدها الجمهوريّة العريقة. وبذلك وضعت الشعبوية العاميّة المنقلبة البلاد في مأزق يصعب الخروج منه. وهي الشعبوية العامية الفقيرة ذهنيًا التي لا تحسن غير المواجهات الصفرية القاتلة.
وإنّ ما يشجعها على التمادي في هذا الصنف من المواجهات التي لا مكان فيها للحوار وللحلول الوسط والتسوية الجزئية المرحلية، هي المؤسسات الصلبة. وأنّ الفشل الذريع في الخروج من الأزمة المالية الاقتصادية التي تحولت باسم التصحيح إلى نكبة وطنية وكارثة اجتماعية سيُحدث انقسامًا داخل منظومة الانقلاب يخرج البلاد من هذا الصراع الصفري المميت إلى حوار يفتح مرحلة انتقاليّة جديدة قد تساعد على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"