مقال رأي
"طوفان الأقصى" ليست فقط عملية وإنما هي خطوة جديدة في تعديل ميزان الردع المختل، لمصلحة الفلسطيني، ولمصلحة "الساحات" الداعمة له. المعطيات كثيفة والمشهد دسم جدًا بما يستحيل حصره في أيّ مقال في الوقت الراهن. سنضطر هنا لحصر التعليق في مستويين، الأوّل العسكري المباشر، والثاني السياق الجيوسياسي.
- في المستوى العسكري في الجانبين، المقاومة وجيش الاحتلال
أولًا، أهداف "طوفان الأقصى" التي بدأت بالتوضح تدريجيًا في الممارسة وتصريحات القائمين عليها هي أساسًا أربع؛ استجلاب أكبر عدد من الرهائن من أجل صفقة كبرى لتبادل الأسرى ربما هي الأضخم منذ بداية الصراع، في ملف تعتبره المقاومة ملفًا استراتيجيًا، والمباغتة والتوغل في العمق الاستيطاني والعسكري في الجنوب بشكل صادم وغير مسبوق، استباق عملية إسرائيلية كان يتم التحضير لها في سياق تنزيل الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية Tnufa (سنفصل فيها لاحقًا)، وأخيرًا في المستوى الإقليمي تعطيل موجة التطبيع خاصة المسار السعودي الإسرائيلي.
تم تحقيق هذه الأهداف يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بشكل فاق حتى توقعات القائمين على العملية بكثير.
"طوفان الأقصى" ليست فقط عملية وإنما هي خطوة جديدة في تعديل ميزان الردع المختل، لمصلحة الفلسطيني، ولمصلحة "الساحات" الداعمة له
ثانيًا، أكبر ضربة ليست حصرًا ميدانية بل نفسية، أي ضرب النرجسية الإسرائيلية واعتقادها بأن التحصينات التكنولوجية والمادية كافية لقهر الطرف الفلسطيني، وهو شعور سائد منذ بداية الاحتلال. كان الردع الإسرائيلي طاغيًا ويصدر "المشكل الفلسطيني" إلى الخارج، إما مصر أو الأردن أو لبنان أو غيرهما. كان أكبر فراغ فلسطيني هو غياب رأس حربة المقاومة وحيويتها في مساحات فلسطين نفسها حيث يمكن للمقاومة الاحتماء بشعبها ومن ثمة استحالة طردها إلا بطرد الشعب ذاته (سنعود لموضوع محورية نقطة التهجير في الاستراتيجية الإسرائيلية).
منذ انتفاضة الحجارة بدأ يحصل تحول تدريجي بتفعيل المقاومة من الداخل الفلسطيني بالوسائل المتاحة، وتطور الأمر ببطئ لكن بعمق نحو تملك الوسائل المادية، بما سمح بإقامة وضعية "حرب العصابات" (الحرب غير النظامية) باعتماد طريقة التخفي و"اضرب واهرب" وتم تطعيم ذلك ببعض وسائل الحرب النظامية مثل الصورايخ قصيرة ومتوسطة المدى وأيضًا قذائف خارقة الدروع، إضافة إلى المسيرات.
وكان تدمير "فرقة غزة" الشهيرة أحد العناوين الأساسية للإنجاز العسكري. تأقلم الحد الأدنى التكنولوجي مع منهجية الحرب غير النظامية هو الذي سمح بإنجاز "طوفان الأقصى"، وبصمة محمد الضيف أساسية هنا، هو "مخرج" العمل بالمعنى التقني والدرامي للكلمة. ما لدينا في المحصلة أن القدرة الفلسطينية على الردع بلغت مستوى يهدد الطرف الإسرائيلي بما لم تستطع تحقيقه أي حرب نظامية ضخمة سابقًا. هذا تحول تاريخي، وليس هناك أي مبالغة في هذا التوصيف.
كان تدمير "فرقة غزة" الشهيرة أحد العناوين الأساسية للإنجاز العسكري.. القدرة الفلسطينية على الردع بلغت مستوى يهدد الطرف الإسرائيلي بما لم تستطع تحقيقه أي حرب نظامية ضخمة سابقًا
ثالثًا، للسبب أعلاه تحديدًا، ليس هناك من خيار (عاطفيًا وتكتيكيًا) أمام الطرف الإسرائيلي إلا الضرب بأكبر قوة ممكنة وأعنف من أي حرب سابقة، بمعنى آخر بهمجية غير مسبوقة في العقاب الجماعي والذي يستهدف المدنيين، لكن ذلك تحديدًا ما سيؤدي إلى إخفاق آخر.
عنوان التصور الاستراتيجي العسكري الإسرائيلي يكمن في الاستراتيجية التي تم الإعلان عنها سنة 2020 إثر عملية "سيف القدس": Tnufa بالعبرية (Momentum بالإنجليزية) والتي تعطل تنزيلها بسبب أزمة كورونا وتداعياتها.
بالمناسبة هذه على الأقل خامس مراجعة للاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، والتي تعكس حالة تخبط أمام تحول المواجهة من حروب نظامية مع أنظمة لا تستطيع ضمان التوازن الاستراتيجي المسلح (وهو الوضع المناسب لإسرائيل) إلى حروب من نوع غير نظامي خاصة مع المقاومة اللبنانية في التسعينات، إلى مختلف الحروب اللاحقة في لبنان وغزة.
التخبط تمثل في أنّ المراجعات السابقة خاصة بداية من 2003 ركزت على "ردع" من بعيد، عبر التركيز على القصف الجوي والأسلحة الدقيقة (اغتيالات قيادات المقاومة خاصة) والضربات الخاطفة، لكن المحصلة كانت تقدم وتطور المقاومة في الساحتين اللبنانية والفلسطينية. الوعي بفشل الاستراتيجيات السابقة أدى إلى اعتماد الاستراتيجية الجديدة Tnufa والتي تنص بشكل واضح على المواجهة البرية.
أعلنت قيادات المقاومة الفلسطينية أن "طوفان الأقصى" استباق لعملية إسرائيلية يتم التحضير لها خاصة مع تعيين رئيس الأركان الجديد، ورغبة تصدير الأزمة السياسية الداخلية إلى مواجهة مع القطاع. لكن حتى الآن، التردد الواضح لإطلاق الحرب البرية، والأرجح اجتياح في الشمال "يسيطر على مواقع حيوية" (مثلما يقول محللون إسرائيليون) وربما أحياء سكنية للمفاوضة بها على الأسرى، يعكس أن تنزيل استراتيجية في ظرف لم تختره تل أبيب ليس سهلًا وذلك أيضًا مكسب للطرف الفلسطيني.
هذه على الأقل خامس مراجعة للاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية والتي تعكس حالة تخبط أمام تحول المواجهة من حروب نظامية مع أنظمة لا تستطيع ضمان التوازن الاستراتيجي المسلح إلى حروب من نوع غير نظامي
رابعًا، المقاومة متحضرة للحرب الدفاعية منذ فترة طويلة. ليس هذا واضحًا في التصريحات فقط، بل الأهم في الأفعال. استراتيجية الأنفاق (بهذا المعنى الأنفاق خطة استراتيجية وليست مجرد إحدى الوسائل، دراسات ومقالات الباحث الفلسطيني رامي أبو زبيدة أساسية لفهم هذه النقطة) تحديدًا هي أهم مؤشر ميداني على أننا بصدد استراتيجية دفاعية محكمة، استثمرت الوقت والجهد طيلة تركز حماس في قطاع غزة خاصة بعد الانسحاب الإسرائيلي سنة 2005 على صناعة طوبوغرافيا جديدة، تحت الأرض، معنية أساسًا بخدمة أهداف المقاومة وخاصة منها منع عدم الاحتلال.
الطرف الإسرائيلي الذي أعلن أنّ هدف عمليته "القضاء على حماس" من المفترض أن يفهم أنّ حماس 2005 ليست حماس 2023، وأهم عناصر محددة للطبيعة المادية لحماس هي خبرة طويلة لمقاتلين ميدانيين يحاربون وسط شعبهم وبشبكة الأنفاق الاستراتيجية.
سنشهد حرب مدن غير مسبوقة، هذا هو الأمر الواضح، والأهم كما هو درس كل الحروب غير النظامية، كلما طالت كلما كانت في صالح الطرف الذي يحارب على أرضه ويعتمد أسلوب "حرب العصابات". لهذا المعنى يكتسب موضوع التهجير من القطاع إلى سيناء هدفًا أساسيًا في الحرب الإسرائيلية. النقطة الوحيدة المهددة للمقاومة هي إفراغ القطاع من السكان.
- في المستوى الجيوسياسي:
أولًا، على مستوى المسار السياسي لحل الصراع أتت العملية ليس فقط في مرحلة توقفه بل أيضًا والأهم تعفنه في مستوى فلسطيني. إذ أنّ الخيار الرافض للمقاومة هو عقيم بشكل غير مسبوق ولم يقدم أي أفق للحل بل يمثل حالة عطالة سياسية، وهو منبوذ فلسطينيًا ولا يحظى حتى بدعم قوي من المعسكر العربي الداعم للتطبيع.
الخيار الرافض للمقاومة هو عقيم بشكل غير مسبوق ولم يقدم أي أفق للحل بل يمثل حالة عطالة سياسية، وهو منبوذ فلسطينيًا ولا يحظى حتى بدعم قوي من المعسكر العربي الداعم للتطبيع
المقاومة عمليًا في السياق الراهن هي الطرف المعبر الشرعي والوحيد عن الجانب الفلسطيني. في المقابل مسارات التطبيع المختلفة ليس من ضمنها تقديم أي صفقة تشكل الجانب الفلسطيني خاصة المحاصرين في الضفة والقطاع، وهذا يعمق آليًا التحام الساحة الفلسطينية مع خيار المقاومة. هذا المعطى تم تهميشه عربيًا وارتخى الطرف الغربي والطرف العربي المنخرط في مسارات ومفاوضات التطبيع إلى أنّ الطرف الفلسطيني هامشي وليس محددًا. "طوفان الأقصى" أعادت الطرف الفلسطيني إلى قلب المعادلة السياسية.
ثانيًا، كل مسارات التطبيع في ناحية ومسار التطبيع الإسرائيلي-السعودي في ناحية أخرى. وصف محمد بن سلمان له (في حواره الأخير مع "فوكس نيوز") بأنه أكبر إنجاز أمريكي في المنطقة منذ الحرب الباردة، ليس مبالغًا فيه. الأهم نحن لسنا بصدد تطبيع بين إسرائيل وأهم دولة في المخيال الديني العربي بل حلقة أساسية في تحالف إقليمي تعتبره واشنطن أساسيًا في سياق انسحابها التدريجي من المنطقة وتركيزها على الخصم الصيني.
الطرف الغربي نزل بقوة غير مسبوقة في الدعم الاستراتيجي، لكن هذا يكبله أيضًا حيث يجعله شريكًا في الإخفاق القادم عبر مواجهة برية فاشلة وكلفة عالية من المدنيين، بما سيجعله أكثر حرصًا على تقييد حركة الطرف الإسرائيلي الضعيف داخليًا أصلًا
الإعلان الذي حصل حول The India-Mediterranean Corridor هو العرض الأمريكي في المنطقة لمواجهة التوغل الروسي عبر إيران والمشروع الصيني ("طريق الحرير الجديد"). التحالف السعودي الإسرائيلي أساسي في هذه التحالف الممتد من الهند إلى السواحل المتوسطية الأوروبية. تعطيل التطبيع السعودي-الإسرائيلي هو ضربة للمشروع الأمريكي البديل، ويخدم موضوعيًا المتضريين منه، وعلى رأسهم إيران.
ثالثًا، تتوزع مختلف القوى الأخرى بشكل محسوب. الطرف الغربي نزل بقوة غير مسبوقة في الدعم الاستراتيجي، لكن هذا يكبله أيضًا حيث يجعله شريكًا في الإخفاق القادم لا محالة عبر مواجهة برية فاشلة وكلفة عالية من المدنيين، بما سيجعله أكثر حرصًا على تقييد حركة الطرف الإسرائيلي الضعيف داخليًا أصلًا، بسبب الانقسام وأيضًا اهتراء الشرعية الداخلية للقيادة السياسية ممثلة في نتنياهو.
الطرف الغربي معني بحرب أخرى هي أهم له، بما يعكس في النهاية أنّ دعمه لإسرائيل لا يمكن أن يخفي أولوياته الاستراتيجية، أي حسم الحرب في أوكرانيا التي تبقى الأولوية القصوى. وهنا روسيا لن تتوانى البتة عن محاولة الاستثمار في الصراع من أجل إضعاف التركيز على الجبهة الأوكرانية. وحتى الصين لن تتوانى عن القيام بذات الشيء ولو بشكل أقل علنية.
لعل أهم مؤشرات التعديل التدريجي في موازين القوى من الساحة التونسية هو الموقف الرسمي غير المسبوق والمشرف.. ليس لتونس وزن إقليمي خارق، لكن موقفها، وهي بالمحدودية المعلومة، يشير إلى أمر جلل وجديد بصدد التشكل
إقليميًا، تجد مصر نفسها، عنوة عنها، منجرّة إلى الصراع (بعيد عن هواجسها الداخلية) خاصة مع الضغط الغربي من أجل "ممر آمن" يسمح عمليًا بالتهجير والذي سيكون فعلًا خطيرًا على شرعية النظام برمته (أثر القبول بذلك سيفوق بكثير أثر التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير والإخفاق في مواجهة تحويل مياه النيل)، ولن يكون من المفاجئ (مثلما أعلنت مجلة الإيكونوميست) أن الطرف الغربي سيعرض أموالًا طائلة على القاهرة في مقابل الموافقة.
إيران لاعب رئيسي سيكون معنيًا بالمصادقة على أيّ اتفاق لوقف الحرب يتنقل بأريحية بين مختلف المحاور، حيث ينسق في الحد الأدنى حتى مع الخصم السعودي، إضافة إلى أوراقه الميدانية المسلحة من طهران إلى سوريا مرورًا عبر العراق وتعريجًا نحو الجنوب حيث الحوثيين، والأهم طبعًا حزب الله. قطر ستكون على الأرجح محور أيّ اتفاق سياسي خاصة حول الأسرى، وستكون المكان الآخر لعقد أي اتفاقية لوقف إطلاق النار.
الطرف التركي يراقب بغيرة من بعيد تصاعد النفوذ الإيراني وأهمية الدور السعودي، وسيحاول لعب دور ما بالتأكيد، طرف آخر سيدفع نحو الوساطة، لكن بثقله كعضو في الناتو وأيضًا طرف أساسي في الحرب الأهم غربيا أي أوكرانيا. ليس فقط التوازن العسكري بل أيضًا "توازن الردع" الإقليمي يبدو أقل اختلالًا من أوقات سابقة.
ولعل أهم مؤشرات هذا التعديل التدريجي في موازين القوى من الساحة التونسية هو الموقف الرسمي غير المسبوق والمشرف كما أجمعت كل القوى تقريبًا. ليس لتونس وزن إقليمي خارق، لكن موقفها، وهي بالمحدودية المعلومة، يشير إلى أمر جلل وجديد بصدد التشكل. التحليل المنفصل للموقف التونسي يحتاج مقالًا خاصًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"