26-أكتوبر-2024
كتاب "مناضلات تونسيات".. بحث ضدّ التغييب والنسيان

اهتم هذا البحث التاريخي العلمي بمجموعة من المناضلات التونسيات وتوقف عند 50 بيوغرافيا

 

يعدّ التاريخ كما هو في صفوه وفي حدثانه، أو كما جرى في الزمان والمكان مُجملاً ومكتملاً يوتيوبيا ساحرة، تأخذ الحالمين بالحقيقة إلى ركوب مدارات قصية فيها التشبث بأخلاق كاتب الحقيقة والثبات أثناء الحمل على الإكراه والمثابرة أمام العثرات والبحث الموسع الشامل والتحقيق الدقيق والتنقيب في الغامض والتمحيص عند ضمور الأدلة والحجج والالتزام بأخلاق الإنسان، إنه سفر عكسي حتى نفهم الراهن والآني ومن ثمة نتشوّف الآتي ونستعدّ له الاستعداد الذي يليق به بحثًا عن حسن البقاء والعيش سويًا فوق أرض الله، لكن التاريخ الذي بين أيدينا الآن يمنحنا فيما يمنحنا جزءًا فقط من الحقيقة وليس الحقيقة كلها.

أثناء كتابة التاريخ المعاصر في تونس لم تصل الحقيقة كاملة كما وردت في الزمان والمكان وحضور الأبطال المحتملين أنفسهم، فكان تاريخًا مبتورًا ومنقوصًا، وغابت عنه أسماء كان لها دور حاسم في بعض الأحداث الجزئية وغابت مدن وقرى بأكملها

يعود الأمر إلى حسابات ضيقة تقوم على الإقصاء عند كتابة الحدث أو الواقعة فيكون الخسران المبين، وتضيع الحقب والوجوه والمواقع وقد تغيب حضارات وسرديات ملهمة مكتملة الأركان، لكن ومع مرور الوقت ومفارقة الإكراهات المسلطة على كاتب التاريخ، نجد أنفسنا أمام محاولات إعادة كتابة التاريخ من جديد أو تصويب ما كتب أو القيام بالتعديل في بعض الأحيان، فيكون العود غير مكتمل لأن جل العناصر قد زالت وغيبها الزمن أثناء سريانه.

حدث الأمر نفسه في تونس أثناء كتابة تاريخها المعاصر، إذ لم تصل الحقيقة كاملة كما وردت في الزمان والمكان وحضور الأبطال المحتملين أنفسهم، بل تحكم في كتابتها المتفوقون في المعارك السياسية الذين فازوا بالسلطة بعد خروج المستعمر الفرنسي، فرتبوا كتابة من نوع خاص، فكان تاريخًا انتقائيًا خضع بالأساس لرغبة السياسي الفائز ومزاجه وطموحه، فكان تاريخًا مبتورًا ومنقوصًا، وغابت عنه أسماء كان لها دور حاسم في بعض الأحداث الجزئية وغابت مدن وقرى بأكملها، لترفع في المقابل جهات أخرى كان حضورها النضالي ضد المستعمر خافتًا وباهتًا.

كما غيب التاريخ المكتوب بشأن تونس المعاصرة دور المرأة التونسية في النضال رغم ما قامت به من أدوار بطولية في بعض الأحيان وأعليت أدوار الرجل فكان هو الطاغي على كل شيء.

غيب التاريخ المكتوب بشأن تونس المعاصرة دور المرأة التونسية في النضال رغم ما قامت به من أدوار بطولية في بعض الأحيان وأعليت أدوار الرجل فكان هو الطاغي على كل شيء، وبعد مضي عقود تم التقليب في الكتابات التاريخية السابقة

وبعد مضي عقود وعقود، تم التقليب في الكتابات التاريخية السابقة المتعلقة بدور المرأة التونسية في الكفاح والنضال أثناء الفترة الاستعمارية، وأُعيدت الكتابة من جديد، لتمنح المرأة المغيبة حقها في الخلود بين النصوص من خلال كتابة أخرى اقتضتها المرحلة واقتضتها الأخلاق تجاه كتابة التاريخ مجملاً وصفيًا.

وضمن هذا الإطار أصدر هذه الأيام مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة "الكريديف" التابع لوزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن التونسية كتابًا بحثيًا هامًا ورد تحت عنوان "مناضلات تونسيات.. مسارات استثنائية في تاريخ الحركة الوطنية من 1881 إلى 1961".

مناضلات

جاء هذا المصنف التاريخي في 310 صفحات أسيلة من الورق المقوى ضمن طبعة فاخرة وأنيقة تليق بالفعل البحثي المنجز من قبل مجموعة من الباحثات المنتميات للجامعة التونسية وهن الأستاذتان المتخصصتان في تاريخ تونس المعاصر "ثريا بالكاهية" و"فاطمة شلفوح" فيما تعلق بالصياغة والمراجعة التاريخية، والأستاذة جليلة طريطر المتخصصة في النقد الأدبي وكتابات الذات فيما تعلق بالمراجعة اللغوية، وقد ترأست فريق عمل متكون من الأستاذات فاطمة شلفوح وسلاف بن فريخة وفرح المنكبي وبثينة الغريبي، أما تصميم صورة الغلاف فكانت من إنجاز "حسام سُعاف"، وكان الإنجاز الفني من نصيب هندة الجلاصي، فيما صممت أميمة الجبابلي الخريطة المرفقة داخل الكتاب.

تخير هذا البحث فترة مركزية من تاريخ تونس المعاصر وهي المرحلة النضالية ضد المستعمر الفرنسي لتونس التي أسهم فيها الشعب التونسي بكل فئاته وجهاته حتى تحررت تونس عام 1956

تخير هذا البحث فترة مركزية من تاريخ تونس المعاصر وهي المرحلة النضالية ضد المستعمر الفرنسي لتونس (1881 ـ 1961) والتي أسهم فيها الشعب التونسي بكل فئاته وجهاته بالفكر والساعد، حتى تحررت تونس عام 1956. ومن ثمة انطلقت نحو بناء الذات محمولة على السردية الكبرى للاستقلال بمساهمة كل الفئات والجهات، ولكن خلال لحظة تدوين الأحداث قصد تأريخها حدث فعل الإقصاء والتغييب لأسباب عديدة.

مناضلات تونسيات

وذكرت الباحثتان في مقدمة الكتاب أن "الدوافع التي حملت على التفكير في إنجاز هذا العمل البيوغرافي تعود إلى أن نضال النساء التونسيات في الميدان لم يحظ بدراسة شافية تبحث في المسارات الاستثنائية للنساء في النضال الميداني وتسلط عليهن الضوء باعتبارهن جزء فاعل في المجتمع التونسي والحركة الوطنية التونسية خلال الفترة الاستعمارية".

اهتم هذا البحث التاريخي العلمي بمجموعة من المناضلات التونسيات "اللاتي تميزن بمسارات وطنية استثنائية ولعبن أدوارًا محورية متميزة في مختلف محطات النضال الميداني ضد المستعمر الفرنسي" وتوقف عند 50 بيوغرافيا

اهتم هذا البحث التاريخي العلمي بمجموعة من المناضلات التونسيات "اللاتي تميزن بمسارات وطنية استثنائية ولعبن أدوارًا محورية متميزة في مختلف محطات النضال الميداني ضد المستعمر الفرنسي"، وقد تم التوقف عند 50 بيوغرافيا توفرت فيها الشروط العلمية للبحث التاريخي وأيضًا حسب النموذج الذي رسمه فريق العمل منذ البداية وهي بيوغرافيا مفتوحة تتوسع كلما ظهرت معلومات جديدة أو مادة أرشيفية جديدة، إنها فعلاً بمثابة الفتح البحثي والاعتباري الذي يمهد الطريق أمام باحثين آخرين.

مناضلات تونسيات

وتشير مقدمة الكتاب إلى أن "عدد النساء المناضلات هو عدد محدود في هذه المدونة مقارنة بنظرائهن من عدد الرجال الذين انخرطوا في العمل الوطني الميداني، إلا أنه يبقى عددًا معتبرًا لأن اقتحام المرأة للفضاء العام خلال الفترة الاستعمارية من تاريخ البلاد كان يعد تحديًا اجتماعيا للمواضعات الجندرية بالخصوص عند أغلب العائلات التونسية سواء الحضرية أو الريفية".

وعند ترتيبه للبورتريهات الخاصة بالسيدات المناضلات، اعتمد فريق البحث الترتيب الأبجدي فوردت أسماء المناضلات على النحو التالي: آسيا غلاب (بوعوينية)، آمنة إبراهيم، أسماء بلخوجة (الرباعي)، أم السعد يحيى (بن حفيظ)، إمطيرة بن عون (سعودة)، بشيرة بن مراد (الزهار)، جميلة بن جاب الله (العسلي)، حبيبة الجبالية، حسنية عميّد (حفايظية)، حفصية العبروقي، حبيبة النابلي (الطرابلسي)، حليمة بن عبودة (الغول)، خديجة بن علي غوث (بن لطيف)، خدوجة القرقني (شبيل)، خديجة رابح، خديجة شعور (بن عاشور)، خديجة الطبال (شقرون)، دوجة بحلوس (بالصيود)، ربح الأنصاري، ربح الورتاني (الدهماني)، زبيدة بدة بالصيود، سعفية النيفر، السيدة الدو القايد، شاذلية بوزقرو (صنديد)، شريفة (الدالي) السعداوي، شريفة الفياش (الأخضر)، شريفة (الملياني) المسعدي، عائشة (بن عمر) باللآغة، عائشة بن حمودة حسين (بن علي)، فاطمة البشالي (العابد)، فاطمة المحرزي (البرقاوي)، فاطمة بن سعد (عبد المولى)، فاطمة بن عبيدي (الحرشاني)، فاطمة (بن صميدة) بوذيب، فطومة النملة (الدامي)، فاطمة النيفر، ليليا باش حامبة (الحجري)، مباركة بن عبد الملك، مبروكة القاسمي، (مجيدة البقلوطي) بوليلة، مدللة المطوسي، مريم بن سالم، منوبية الشابي (سلامة)، مهنية الإينوبلي (بوساحة)، نادرة كمون (الشعبوني)، نبيهة (بن عبد الله) بن ميلاد، نصرية برينيس، نفيسة (العفاس) شاكر، نفيسة عميرة (العياري)، هنية الزواري.

مناضلات تونسيات

تم الاعتماد في هذا البحث الهام على أرصدة أرشيفية متعددة "من بينها أرصدة الأرشيف الوطني التونسي التي تخص ملفات النساء الثائرات خلال الحرب العالمية الأولى لاستقراء أسمائهن والبحث عن مدى انخراطهن في ثورة الودارنة التي اندلعت بالجنوب التونسي سنة 1915، كما اعتمدنا على أرصدة المركز الوطني للتوثيق لتوفر أعداد من الصحف الصادرة خلال الفترة الاستعمارية تحدث عن النضالات النسائية، ومثلت الأرصدة الفرنسية وما تزخر به من معطيات أمنية وعسكرية وسياسية مصدرًا مهمًا في تحديد بعض الأسماء النسائية التي كانت محل مراقبة وتتبع.. وجزء هام من هذه الأرصدة مودع بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر".

حاول هذا البحث البيوغرافي إبراز شجاعة المرأة التونسية في اختراقها للفضاء العام في فترات زمنية صعبة وتسليط الضوء على الأدوار والإسهامات الميدانية التي قامت بها في الحركة الوطنية

وحاول هذا البحث البيوغرافي إبراز شجاعة المرأة التونسية في اختراقها للفضاء العام في فترات زمنية صعبة - بالنظر لطبيعة المجتمع المحافظ المشبع بذكوريته وعاداته القبلية القديمة والاستعمار من جهة أخرى - والإنارة حول الأدوار والإسهامات الميدانية التي قامت بها في الحركة الوطنية، "فقد كن فاعلات في دفع العمل النضالي من خلال دورهن في التعبئة الجماهرية التي قامت على الاتصال المباشر وتوزيع المناشير والمشاركة في المظاهرات، كما لم يقتصر نشاط النساء على توفير المؤونة من مأكل وحياكة ملابس للمقاومين وإعداد اللافتات وكتابة الشعارات ونقل التعليمات الشفوية لتنفيذ العمليات الميدانية وزيارة السجناء.. بل تعدى ذلك إلى الانخراط في عمليات المقاومة المسلحة ورفع السلاح في وجه آلة البطش الاستعمارية مما هدد حياتهن وحريتهن وكرامتهن".

مناضلات

وذكر هذا البحث وقائع هامة من تاريخ الحركة الوطنية التونسية كان للنساء المناضلات (محور الكتاب) دور كبير فيها، ومن أبرزها مظاهرات غلاء المعيشة سنة 1920 التي جدت في تونس العاصمة والقيروان، وإضرابات النقابة عام 1924 ومظاهرة 8 أفريل 1938، إضافة إلى حادثة جانفي 1939 عندما "تسللت مجموعة من المناضلات من بينهن شريفة الفياش وخديجة رابح وشاذلية بوزقرو إلى موكب رئيس الحكومة الفرنسي إدوارد دالاديي أثناء زيارته إلى تونس وطالبن بإطلاق سراح معتقلي أحداث 9 أفريل 1938 الشهيرة وهتفن "تحيا تونس" وتحول هذا الاحتجاج إلى مواجهات مع قوات الاحتلال الفرنسي..".

ذكر هذا البحث وقائع هامة من تاريخ الحركة الوطنية التونسية كان للنساء المناضلات دور كبير فيها، ومن أبرزها مظاهرات غلاء المعيشة سنة 1920 ومظاهرة 8 أفريل 1938

وتطرّق البحث أيضًا إلى المظاهرة النسائية التي جدت بمدينة باجة يوم 15 جانفي/يناير 1952 ومعركة ماي/أيار 1944 بالجنوب التونسي والتي شاركت فيها المناضلة "حليمة بن عبودة الغول" برفعها للسلاح وإطلاق الرصاص في وجه الجنود الفرنسيين، ومواجهات جبل برقو من ولاية سليانة سنة 1953 على إثر مقتل جنديين فرنسيين.

مناضلات

وقد ترتب عن هذا النضال الميداني للمناضلات التونسيات أن "وجهت آلة القمع الاستعمارية بطشها إلى هؤلاء النساء، فقد سجن بعضهن عقابًا على نشاطهن الوطني مثل مجيدة بوليلة التي أودعت بمحتشد تبرسق بولاية باجة، وحبيبة النابلي من القيروان التي أودعت مع سجناء الحق العام وتعرضت لشتى أنواع التعذيب والتنكيل، وشاذلية بوزقرو وخديجة الطبال وأسماء بلخوجة اللاتي تعرضن إلى الإبعاد والنفي "ببرج لوبوف"، وأخريات وضعن في محتشدات في الصحراء مثل فاطمة وسعفية النيفر، كما ارتقى بعضهن في ساحة الوغى مثل مدللة المطوسي من مجاز الباب، وآمنة إبراهيم من طبلبة".

يمكن اعتبار أن هذا الجهد البحثي المحمود، في صميم الدور التوثيقي بخصوص المرأة التونسية كما يمكن تنزيله ضمن ثقافة الاعتراف لكل من أفنى العمر دفاعًا عن الوطن وحرمته

ويضم الكتاب أيضًا مجموعة من الوثائق الأرشيفية مثل الخرائط والصور التقارير، وهي عينة من الأرصدة المعتمدة خلال البحث وفي نفس الوقت هي أرشيفات تجعل المتلقي إزاء قراءة أخرى خاصة به.    

مناضلات تونسيات

 

ولا يعدّ ما قام به "الكريديف" استنقاصًا من البحوث السابقة التي تعرضت إلى مسارات النضال النسوي الميداني في تاريخ الحركة الوطنية التونسية، على غرار الجهد الذي قامت به الباحثة ليليا العبيدي، وإنما هو تعمق واستزادة وتوضيح وتكريم اعتمادًا على مادة أرشيفية جديدة لم يستأنس بها الباحثون السابقون وتوخي المناهج والمعايير العلمية الصارمة والموضوعية بعيدًا عن التمجيد والتخييل، واكتشاف أسماء أخرى جديدة مغيبة، ويمكن اعتبار أن هذا الجهد البحثي المحمود، في صميم الدور التوثيقي بخصوص المرأة التونسية من قبل هذه المؤسسة التونسية الرائدة، كما يمكن تنزيل هذا البحث ضمن ثقافة الاعتراف لكل من أفنى العمر دفاعًا عن الوطن وحرمته.  

 

واتساب